المراجعات الفكرية

خطوة مضيئة على طريق النهضة العربية الإسلامية

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

تحمل هذه السطور شجون معضلة من معضلات حياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، لا يكفى كتاب أو مقال أو لقاء أو موقف "لإبراء الذمة" نحوها، فالتعامل الجيد معها كفيل بوضع أقدامنا على بداية طريق النهضة العربية الإسلامية.

 تكمن المعضلة في الإخفاقات المتتالية والمتعددة التي يعيشها العرب، من فشل مشروعات التحديث والوحدة والتحرر، وبالرغم من ذلك مازالت تصدم آذانهم، وتحار عقولهم ـ ليل نهارـ في تلك الدعاوى بالمعرفة الشاملة، والإحاطة الكاملة بمجريات الأمور التي تؤدى من نجاح إلى نجاح، ومن إنجاز إلى إنجاز (وفق الدراسات العلمية، واللجان الاختصاصية)، فمن أين إذن تلك الانتكاسات والهزائم والإخفاقات؟، ولماذا تخجل الهيئات والمؤسسات والتيارات والأفراد من مراجعة مواقفها دورياً حتى ولو استقام المسير، وبصفة أكثر إلحاحاً كلما تعثرت المسيرة؟. وأين أدوار الرقابة، على شتى أنواعها، من تقويم الأداء؟. لقد بات مألوفاً أن من تحملوا المسئولية يقالون ولا يستقيلون، وهم غير تاركين  مناصبهم ـ مهما حدث ـ إلا إلى قبورهمّ دونما ثمة مُسائلة ما!!. 

أن اللحظة الراهنة التي تعيشها أمتنا لحظة فارقة، وهى:" لحظة معرفية"، ووعى بالنفس والآخر والواقع، وعى بما أردناه، ووعى بما صرنا إليه، وعى بما حلمنا به، ومازالت الأحلام الحضارية والقومية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ـ رغم كل محاولات اغتيالها ـ محرك باعث فعال في الإقلاع الحضاري، لقد أضاعت امتنا فرصاً كثيرة للانطلاق الحضاري، بينما (الآخر) يصارع الزمن للمحافظة على ارتقائه وسيادته وهيمنته وعلوه، فتراه يعلن ـ كي يغتال أحلام الآخرين في النهوض ـ:" نهاية الأيدلوجيا"، و"نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات" تحت منظومة "العولمة" الاقتصادية والثقافية.  

ليس بخافٍ على الكثيرين الذين يرصدون طريق النهضة العربية الإسلامية أن المراجعات الفكرية ـ والتي تستوجب المزيد ـ عند مختلف التيارات الفاعلة (قومية ووطنية وإسلامية) لها دلالات هامة منها:

لقد بات معلوماً للكافة:" ما تركته أحادية الفكر الواحد"، "وعصمة" الحزب الأوحد، وكون الاستبداد وثيق الصلة بالأنظمة التي رفعت شعارات قومية، ومعاداتها للحرية والديموقراطية وفشل مشاريعها التنموية تحت دعوى:"أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فمعارك التحرر من الاستعمار هي الأولى حتى وإن طغت على حقوق المواطنة، والكرامة الإنسانية بشقيها الروحي والمادي:"ولقد كرمنا بنى لآدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"(الإسراء: 70) في حين أن: "العروبة تملك من المقومات والإمكانات الحضارية والإنسانية والاقتصادية ما هو اعمق كثير مما سجنتها فيه الأيدلوجيات القومية التسطيحية".

إقرار التيارات الفكرية بتواضعها المعرفي، ونسبيتها الثقافية، وواقعيتها السياسية، وعدم "عصمة" ما استندت إليه من أطروحات أولية حان وقت مراجعتها بعد طول أمد.

 تفعيل النقد الذاتي البناء الذي يسد الثغرات، لا أن يُجمّل العورات، يواجه الصعاب والتحديات لا أن يسعى لدفن رأسه في الرمال، يُضمد الجراح، لا أن يهيل عليها التراب، فيئن المريض ويستغيث ولا مجيب.

 لقد كانت الحاجة ماسة منذ وقت طويل إلي مثل تلك المراجعات وفى زمن عالمي يتسارع، وزمن عربي/ إسلامي بطئ.. بطء السلحفاة، مما فوت على مشروع نهوضنا الحضاري الكثير من محطات الانطلاق، أو على اقل تقدير استثمار الكثير من الجهود التي ضاعت سدي.

 الاعتراف بعدم امتلاك "الحل الساحر" الذي عُوّل عليه للخروج السريع من أزمتنا الحضارية، ففرض الوحدة القومية عنوة لم يجلب إلا المزيد من التشرذم والتراجع، بيد أن البناء الوطني الداخلي، وتفاهم وحداته الصغرى واجتماعها على نسق كبير، وانفتاحها على جوارها الإسلامي والقومي والإنساني يبدو تصويبا لذلك المسار المأزوم، وعلى الجانب الآخر ماذا أثمر العنف وثقافته كسبيل إلى التغيير؟، هل أثمر سوى تكريس الاستبداد والتراجع والتخلف والتدخل الخارجي لحماية المصالح؟.

 أنها ـ أي المراجعات الفكريةـ حافظت، بقدر ما ـ على هذه التيارات الفكرية من الانقسام والتفتت الداخلي، وأوجدت قواسم مشتركة بينها وبين فئات أخرى لتتكامل لا أن تتصارع وصولا لأهداف كبرى لا خلاف عليها: نهوض حضاري يعيد للأمة العربية الإسلامية كرامتها، ويحقق لها ريادتها، ويرد إليها تحررها، ويصوغ كيانها الممزق، ويلم عليها شعثها، ويخلع عنها انسحاقها وتبعيتها واستذلالها، ورجوعاً إلى المجتمعات المُغيبة والمهمشة لتقول كلمتها (بعد طول صمت)، ولتقرر مصيرها (بعد طول عجز) وتواجه تحديات مستقبلها( بعد طول هروب).

أنها توفر جهداً كبيراً كان يُبذل في محاولات نزع أفكار وجهود ورؤى قيادات فكرية وسياسية، كابن خلدون والأفغاني والأمام محمد عبده ورشيد رضا وابن باديس ومالك بن نبي وغيرهم، من سياقاتها التاريخية وتعسف تيارات وفئات في إسقاطها على واقعها المعاصر تأييدا لها واستنادا واستثماراً لـ "شرعية" هذه القيادات في دعم هذا الفصيل أو ذاك. إن هذا الجهد عليه أن يتوجه لإنتاج مثل ما أنتجوا، ولإبداع مثل ما أبدعوا للخروج من الأزمة الراهنة.

 المراجعات الفكرية تضع وتصوغ نهجاً جديدا من" الفكر الأواب" الذي يعترف بمكامن العوز والقصور والخطأ، إذ ليس ثمة عيب في الخطأ، ولكن عدم الاعتراف به والمواربة عليه تمنع تصويب المسار، فعندما تراجعت القسمات الجوهرية للحضارة العربية الإسلامية: قسمة العقلانية"، وقسمة "العروبة" وجهي عملة الحضارة العربية الإسلامية تراجع ازدهارها وعطائها ـ كما يقول د. محمد عمارة في كتابه" الإسلام والعروبة".

 لقد جاءت تلك المراجعات لتقضى على الثنائيات العقيمة التي افتعلت الخلافات، ووضعت العراقيل، وشتتت الجهود عن طريق النهوض: العروبة / الإسلام، العقل / النقل، والأصالة / المعاصرة، التجديد / التقليد، التنوير / الظلامية الخ. فالقضية الأولى: قضية العلاقة بين العروبة والإسلام كانت ومازالت قضية مصير ومستقبل، فهي لم تكن خلافاً داخلياً بين فرقاء الأمة بقدر ما كانت سلاحاً بيد قواها المعادية، فالإمبريالية الغربية تحالفت مع سلاطين "آل عثمان" ـ وهى تعد العدة من جانب آخر للإجهاز عليهم وتوزيع تركتهم الثمينةـ إفشال مشروع تحديث ونهوض عربي/ مصري بقيادة "محمد على" فأبقى هذا التحالف مصر محاصرة داخل حدودها بمعاهدة لندن 1840م، وعندما تعالت شعارات " الجامعة الإسلامية" بواسطة" قيادات عربية" وجدناها تستحث" عروبة : التشرذم والتجزئة" لإجهاض هذا المشروع الذي تقوده الأمة العربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التركة العثمانية، لقد هدف الاستعمار من هذا وذاك ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ لضرب العروبة الإسلام معا.  ولذلك نرى من يؤكد على:" أن جدلية العلاقة بين العروبة والإسلام هي جدلية مصطنعة فعلاقتهما تبادلية وهما وجهان لعملة واحدة"، كما:"أننا واجدون بين "الإسلام: الدين" وبين "العروبة" ما هو اكثر من "تعايشه" معها كحقيقة وقبوله لها كواقع، واجدون بينهما روابط وعلاقات لا تنفى التناقض بينهما فقط وإنما تجعل منهما مزيجا يبدو الإسلام ـ وفي بداياته الأولى ـ ديناً عربياً كما تبدو امتنا في هذا الضوء: شعب الإسلام المتميز بين كل الشعوب التي شرفت بالتدين بهذا الدين، فالوحي نزل على رسول عربي بلسان عربي مبين ولفهم معجزته ووعى آياته الكبرى على أتباعه أن يتعربوا، كما أن الذين قاموا بنصرته بداية أمره.. جماعة عربية، فلهم خصوصية " الطليعة و والقيادة".

صفوة القول: دون الانتظار لـ"تسونامى" جديد لا يبقى ولا يذر، ينبغي لهذه المراجعات الفكرية أن تشمل الجميع دون الاقتصار على تيار دون آخر أو فئة دون أخرى، ينبغي لها أن تشمل نظماً حاكمة لتتصالح مع شعوبها، ضمن "عقد اجتماعي" جديد، ولتنقذها من الانسحاق تحت جحافل الغزاة، وشعوب تراجع إراداتها وتوجهاتها وحرياتها لتتغلب على عجزها وتخلفها وعبوديتها، ومؤسسات وهيئات تراجع سلبياتها وأسباب فشلها في النهوض بالمعايير الحاكمة لدولاب أعمالها، ونخب وتيارات ثقافية لتراجع مشروعاتها الثقافية وتعثرها، مواقفها السياسية والاجتماعية وخيبة آمالها، وكفى دعاوى بالمعرفة الشاملة، والإحاطة الكاملة بمجريات الأمور التي تؤدى من نجاح إلى نجاح، ومن إنجاز إلى إنجاز.