واقع مأزوم

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

الرغبة في التغيير، قد يكون شعور إنساني فطري لدفع الرتابة والملل والروتين القاتل من حياة الإنسان. والتغيير قد يكون حاجة ملحة من وضع مزري للتطور للوضع الأرقى والأحسن. وقد يكون التغيير مطلب عقائدي وإلزام ديني أو مطلب قانوني، يتطلب تغيير واقع فاسد وخارج عن التعاليم الدينية والمثل الفاضلة أو خارج على القانون والشرائع المقبولة لدى المجتمع، لوضع يسود فيه الشرعة والقانون.

لتغيير الواقع لا يكفي شعارات ولا تكفي قناعات، ولكن للتغيير أدوات وإمكانيات وسُبل وطرقات.

وعندما يستنفذ الإنسان طاقته في محاولته للتغيير دون جدوى، وتفشل كل الإمكانيات في تغيير الواقع، قد يلجأ الإنسان للتعايش و "التكييف" مع هذا الواقع المفروض عليه والذي هو مرفوض لديه فكريا وعقائديا. ولولا هذا التكييف، لما استطاع السجناء البقاء على قيد الحياة، ولما استطاع المفتقرون من بعد الغنى أن يواصلوا مسيرتهم بالحياة.

ولذا نجد بعض الأسرى والسجناء الذين لم يستطيعوا التكييف تصيبهم حالة نفسية انعزالية، يطلق عليها زملائهم السجناء مصطلح "متأزم" أو "مأزوم"، وكثيرون ممن أفلستهم البورصة ولم يستطيعوا أن يتكيفوا مع وضعهم الفقري الجديد، قد وضعوا حدا لحياتهم بأيديهم وانتحروا.

لكن التكييف يكون صعبا، عندما يكون هذا التكييف غير مقبول فكريا،عقائديا، دينيا ، أو قانونيا.

ومن نشأ في الفكر الراديكالي يعرف تماما صعوبة هذا التكييف.

إذ كيف ستقبل العيش في مجتمع أنت ترفض أفكاره، وتؤمن بضرورة تغيير نظامه من الألف إلى الياء؟؟! وكيف تحتكم لقانون أنت لا تؤمن به ، بل وتدفعك أفكارك دفعا قاسيا لمحاربته ؟؟!

كثيرون من الطلبة الذين خرجوا للدراسة في مجتمعات لا دينية متحررة ، قد تكيفوا مع تلك المجتمعات وعايشوا ثقافتها و تقبلوا أحكامها حتى عادوا لبلدانهم، وبعضهم اندمج كليا ولم يعد لوطنه، إذ صار له وطنٌ آخر يتناسب وفكره الجديد. ومن لم يستطع تكييفا عاد من بداية الطريق ولم يكمل حتى سوى بضعة أشهر في تلك المجتمعات.

الرغبة في التغيير ، ليس هي طموح الأفراد فحسب، ولكنها شعار الحركات والمنظمات السياسية والاجتماعية. فالكل يطمح للتغيير من الواقع المرفوض إلى الواقع المرغوب والمحبب لدى الجماهير.

فالكل يطمح للتغيير من واقع الاحتلال إلى واقع الحرية ويرفض التعايش مع المحتل، والكل يرفع شعار الغني ضد الفقر ، والعلم ضد الجهل ، والكرامة ضد الذل والمهانة ....إلخ

لكن ما لم تكن الشعارات على مستوى التحديات، تصبح عبئا ثقيلا .

ومع مرور الوقت يصبح المجتمع مجتمعاً مأزوما ، إذ أنه يرفض الواقع وهو عاجز عن التغيير، وفي نفس الوقت لا يمكنه التكييف للتعايش مع هذا الواقع !!؟

تماما كما في الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و سلم في معراجه للسماء أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها !!! فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها.

وهل شعاراتنا سوى أمانة ؟ وهل الأفكار التي نزرعها سوى أمانة ؟ وهل فشلنا في الحصاد شيء آخر غير تضييع الأمانة ؟

وإن كنا لا نقوى على حمل أوزارنا من الأمانة ، فأين عقلنا حين نضع أوزار الآخرين على ظهورنا، ونرفع من الشعارات ما لا نطيق ؟؟!!

ولذا كان لا بد من ترك مساحة كافية في الفكر والقناعات، بين الرغبة في تغيير الواقع وبين التكييف معه، حتى لا نصل للوضع المأزوم. وقد تكون هذه المساحة بأن ننشغل بتغيير أنفسنا قبل أن نفرض هذا التغيير على الناس عنوة !!! كما جاء في الآية الكريمة قـول الحق تبارك وتعـالى في سـورة الرعـد :{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11.

وواقعنا اليوم مرفوض، ونرفض الواقع ونحن نقف على طريق العتمة بلا منارة و بلا أفق ، طموحاتنا وشعاراتنا أكبر من إمكانياتنا، ولا نكتفي فنزيد فوق أوزارنا ولا نطيق حملها فنزيد عليها !!! الواقع مأزوم .... والأزمة مصدرها الفكر والمعتقدات ، والمعتقدات مقدسات وطابوهات ...

الواقع مأزوم ، والمأزوم أكثر من مهزوم!!

ومن قدَّس الأشياء هو من يرفع عنها القداسة ، ومن زرع الأفكار ، هو من يحررها ...

أو بالبلدي لنخرج من عنق الزجاجة لازم "اللي شبكنا يخلصنا".