تأملات تربوية في سورة الفرقان 1
تأملات تربوية في سورة الفرقان
المقال الأول
د.عثمان قدري مكانسي
في هذه السورة المباركة معان تربوية رائعة كأخواتها من السور الكريمة منها :
1- الإقرار بفضل الله تعالى : فهو سبحانه أ- هيـّأ سبل الهداية ، فأنزل كتاباً هادياً للبشرية ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل هذا المشعل الوضاء يدلهم على الطريق الصحيح إلى الخالق العظيم " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً " . .. فتبارك تحمل معاني الزيادة والفيض والرفعة التي تليق بمقام الربوبية والألوهية العظيم . وسمى القرآن فرقاناً لأنه يفصل بين الحق والباطل ، ويعرّف بهما ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة . ورفع أنبياءه إلى مقام العبودية لله ، وهو أعلى مقام يناله الإنسان ، فمحمد رسول الله عبد لله " سبحان الذي أسرى بعبده " و " تبارك الذي نزل على عبده الكتاب " و" ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ووصف أنبياءه نوحاً وهوداً وصالحاً بالعباد الصالحين " إنا كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين " . ومن فضله سبحانه أنْ يكون رسوله صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً للعالمين إنسهم وجنّهم ، منذ أن بُعث إلى يوم القيامة ، وتوّج برسالته الشرائع السابقة كلها .
2- توضيح الفكرة وتجليتها : فالله تعالى في الآيتين الثانية والثالثة في هذه السورة المباركة مالك السموات والأرض ، الواحد الأحد، ليس له ولد ، ولا يشاركه في ملكه أحد ، الخالق العظيم ، والعليم بكل شيء ، والقديرعلى كل شيء ، هو الصمد الذي لا يحتاج أحداً ، وكل المخلوقات تحتاجه سبحانه . فهو الله الكامل كمالاً مطلقاً ، لا إله إلا هو . فإذا أراد سبحانه أن نعبده حق عبادته فقد وضـّح لنا بعض صفاته القدسية لنعرفه بها ونقدم له الطاعة التي يرضاها . ونجد في ثنايا السورة المباركة آيات كثيرة تعرفنا بالله تعالى ، فهو المتصرف في الكون ويسير الشمس والأرض :
أ - فإذا بالظل يتحرك بانتظام دالاً على النظام الكوني البديع " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ، ولو شاء لجعله ساكناً ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ، ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً "
ب- وإذا من من علائم تصرفه سبحانه بالكون أن يتتابع الليل والنهار ليكون الأول هدوءاً والثاني حركة وعملاً " وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً ، وجعل النهار نشوراً "
ج- وإذا حركة الرياح ، مقدمة للخير والماء وإنبات الزرع ونشر الحياة في الأرض " وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدَيْ رحمته ، وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ، لنحيي به بلدة ميتاً ، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً "
ومن عظيم خلقه أن في الأرض تجاويف ينتقل فيها الماءان المالح والحلو عشرات الآلاف من الكيلومترات متجاورة متوازية وفوق بعضها بمسارب ضخمة متقاربة إلا أنها بفضل الله لا تختلط ، كي لا تفسد حياة المخلوقات . أليس هذا الصانع المدبر إله عظيم رائع ؟ " وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً ؟
كل ذلك دليل على عظمة الله وقدرته ، والبرهان الأكيد على أنه إله عظيم يستحق العبادة والطاعة . وأن على الجميع أن يتوجهوا إليه وحده بالحب والعرفان .
3- المنطقية في الدعوة : إن التفكير المنطقي في الرد على تخرصات الأفاكين تستدعي طرح هذه التقولات وتلك الأكاذيب ، ثم الرد عليها واحدة واحدة ودحضها بروية وعقلانية ، فلا تقوم لها قائمة .
أ ـ فهؤلاء الكفار ينكرون أن يكون القرآن من عند الله ويقولون هو تأليف رسول الله !! وأعانه عليه قوم آخرون . ولئن كان كذلك فبوسعهم أن يفعلوا مثله إن كانوا صادقين ! وإذا ثبت ضعفهم وعدم قدرتهم على ذلك والقرآن نزل بلغتهم فهم كذابون مفترون " وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا افك افتراه ، وأعانه عليه قوم آخرون ، فقد جاءوا ظلماً وزوراً "
ب - وقائل يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبها من قوم اعتمدوا الخرافات والأوهاموقالوا : أساطير الأولين اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً "
ج - وما ينبغي أن يكون الرسول بشراً ، ولئن كان كذلك فالأولى أن يؤيده ملَك في دعوته . والمنطقية أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم فهو مثلهم يعيش كما يعيشون ، ويأكل مما يأكلون ، ويشعر بما يشعرون " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملَكاً رسولاً " ولو نزل الله على البشر رسولاً ملَكاً لجعله على هيئة البشر كي يكون الإيمان نابعاً من القلب ثابتاُ في الضمير عن يقين لا قهر وتخويف " ولو جعلناه ملَكاً لجعلناه رجلاً ، وللبسنا عليهم ما يلبسون " . كما أن الملائكة حين تنزل فلمعاقبة المستكبرين الذين ظلموا أنفسهم " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ، ويقولون : حجراً محجوراً " .
د - وينبغي – حسب رأي الكفار - أن يكون الرسول غنياً يؤثر بثروته وغناه في الناس " أو يُلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " إن ضعفاء النفوس يظنون أن النبي يجب أن يكون غنياً يفرض بغناه وثروته مبادئه وأفكاره ، أو يجمع المنتفعين حوله ، ولذلك قالوا " لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " فأجابهم تعالى " أهم يقسمون رحمة ربك ؟ " فالقناعة في القلب والعقل لا الجيب والمحفظة !
هـ ـ ومن قائل إن محمداً مسحور مكشوفٌ أمره واضح وقد قالوا إنه ساحر مراراً " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً
4- التصوير الحسي : استحضار الأفكار المعنوية في قالب حسي ملموس يزيد الفكرة وضوحاً في العقل وتأثيراً في النفس ونبضات حية في القلب . فالكفار حين اقترحوا ما سبق ذكره من ضرورة غنى النبي وامتلاكه الجنات والقصور والكنوز لم يطلب المصطفى عليه الصلاة والسلام هذه الأمور لأنه يعلم أن الخير الحقيقي الدائم في الآخرة التي يكفر بها هؤلاء ، فوعده الله تعالى بكل ذلك في الآخرة " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك : جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعل لك قصوراً " أما هؤلاء الكفار فلم يقترحوا ما اقترحوه إلا للاستهزاء والتكذيب ، فسوف يلقون غياً لكذبهم وسخريتهم واستكبارهم . ويصور الله تعالى مشاهد البؤس التي تحيط بالكافرين المجرمين كأننا نراها رأي العين ونستعيذ بالله أن نراها ، فكيف السقوط في أتونها والخلود فيها ؟ نسأل الله العافية. وتصور النار ترى المجرمين ، فتغتاظ منهم ، وتزفر زفرات قوية طويلة تتقعقع لها نفوسهم وتنخلع منها قلوبهم " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيـّظاً وزفيراً " ثم تلقيهم الزبانية في زنازين الجحيم الضيقة مقيدين بالسلاسل وهم يصرخون من هول العذاب يدعون على أنفسهم بالموت ، ولا موت " وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيـّقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً " فتجيبهم ملائكة العذاب : أئن دعوتم بالهلاك قليلاً أو كثيراً فلن يفيدكم فيما أنتم فيه " لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً ، وادعوا ثبوراً كثيراً " يتمنون الموت وليس بآتيهم . يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم . هذا الموت . قال ويقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم . هذا الموت . قال فيؤمر به ، فيذبح . قال ثم يقال : يا أهل الجنة ! خلود فلا موت . ويا أهل النار ! خلود فلا موت . قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } [ 19 / مريم / 39 ] وأشار بيده إلى الدنياا" .
وكلمة " يوم " في قوله تعالى " ويوم تشقق السماء بالغمام ، ونزّل الملائكة تنزيلاً
5- الحوار : طريقة رائعة في إثبات الفكرة في ذاكرة السامع والرائي والقارئ ، وقد استعملها القرآن كثيراً في الوصول إلى الهدف ، وقد ذكرنا أمثلة لها في تأملاتنا التربوية في القرآن وعودة إلى الحوار الطويل الذي أثبتناه بين موسى عليه السلام وفرعون في سورة الشعراء يوضح الفائدة ، ونثبت هنا حواراً قصيراً ماتعاً ... يوم الحشر يقف الكفار في ساحة العرض خزايا مطأطئي الرؤوس ، قد علموا ما اجترحوا ، ومعهم ما عبدوه من بشر وحيوانات وأصنام و..و.. ويجري هذا الحوار المفحم بين رب العزة والآلهة المزعومة وعبـّادها
" ... أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ؟
قالوا ( الآلهة المزعومة ) : سبحانك ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من
أولياء ( وهذا الجواب إقرار من المتألهين أنهم عبيد ) . ولكن متعتهم وآباءهم
حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً ..."
ويكون التعليق الأخيربخطاب موجه للكافرين يوبخهم ويوضح لهم أن آلهتهم
التي كانوا يعبدونها تخلت عنهم " فقد كذبوكم بما تقولون ، فما تستطيعون
صرفاً ولا نصراً .... "
6- الندم في غير وقته لا يفيد : يروي المفسرون أن عقبة بن أَبِي مُعَيْط , وَكَانَ صَدِيقًا لأبيّ بن خَلَف الْجُمَحِيّ, وكَان قَد صَنَعَ وَلِيمَة فدعا إليها قريشاً , وَدَعَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم . وَكَرِهَ عُقْبَة أَنْ يَتَأَخَّر عَنْ طَعَامه مِنْ أَشْرَاف قُرَيْش أَحَد فأسلم ونطق بالشهادتين , فأكل رسول الله من طعامه , فعاتبه خليله أبيّ بن خلف , وَكَانَ غَائِبًا . فَقَالَ عقبة : رَأَيْت عَظِيمًا ألاّ يَحْضُر طَعَامِي رَجُل مِنْ أَشرَاف قُرَيْش . فَقَالَ لَهُ خَلِيله : لا أَرْضَى حَتَّى تَرْجِع وَتَبْصُق فِي وَجْهه وَتطَأ عُنُقه وتقول كَيْت وَكَيْت . فَفَعَلَ عَدُوّ اللَّه مَا أَمَرَهُ بِهِ خَلِيله ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَيَوْم يَعَضّ الظَّالِم عَلَى يَدَيْهِ " . ولَمَّا بَصَقَ عقبة فِي وجه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ بُصَاقه فِي وَجْهه وَشَوَى وَجْهه وشفتيه , حَتَّى أثـّر فِي وَجْهه وَأَحْرَقَ خَدَّيْهِ , فَلَمْ يَزَل أثر ذَلِكَ فِي وَجْهه حَتَّى قتل بعد بدر وهو أسير. ويعضّ يديه أسفاً – بعد موته حين يرى الحقيقة - لأنه أطاع خليله . يندم ويتمنى لو أطاع رسول الله وكان من المسلمين ، ولات حين مندم ، فالآخرة دار حساب لا دار عمل . " ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ، يا ويلتى ؛ ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولاً " . فالندم والتوبة في الدنيا ، وإلا لم ينفعا صاحبهما . وعلى هذا حين قال المشركون : إنهم صبروا على آلهتهم ولم يتركوها ويدخلوا في الإسلام " إنْ كاد ليُضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها " أفادهم القرآن أنهم سيعلمون حين لا ينفع العلم أنهم كانوا ضالين . وسينالون العذاب الشديد " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً
7- لماذا نزل القرآن منجّماً ؟ : حين رأى اليهود والمشركون القرآن ينزل على ثلاثة وعشرين سنة أنكروا ذلك ، فالتوراة والإنجيل والزبور نزلت دفعة واحدة ." وقال الذين كفروا : لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة " . فما الفائدة في نزول القرآن منجماً : والجواب يتجلى في أمور عدة ، منها :
أ – تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم حين يرى جبريل ينزل كل فترة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُشعره أنه معه " كذلك لنثبت به فؤادك "
ب- ولأن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء يقرؤون ويكتبون , والقرآن أنزل علَى نَبِيّ أُمِّيّ ;
ج- ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ , وَمِنهُ مَا هو جَوَاب لِمَن سَأَل عَنْ أُمُور , فيكون الجواب لأمور تحدث في عالم المسلمين وتواكب حياتهم ،
د- ونزوله مفرقاً أسهل لحفظه والعمل به ، وتقسيم الأمور أدعى لتثبيتها في النفس وحفظها والثبات عليها .
وروي عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْر " قَالَ : أُنْزِلَ الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة من عند الله عز وجل وَجَلَّ فِي الللوح المحفوظ إِلَى السفرة الْكِرَام الْكَاتِبِينَ فِي السَّمَاء , فَنَجَّمَهُ السفرة الكرام عَلَى جِبريل عشرين ليلة , وَنَجَّمَهُ جِبْرِيل عليه السلام عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ثلاثاًوعشرين سنة . قَالَ : فَهو قَوله " فلا أُقْسِم بِمَوَاقِعِ النُّجُوم " يعني نجوم القرآن " وَإِنَّهُ لَقَسَم لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم . إِنَّهُ لَقُرْآن كَرِيم .. " وهو رأي مقبول .
فسبحان الله مالك الملك وملك الملوك :