ما زلنا في زمن الشعر

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

عندما نقف أمام تساؤلات مثل: "هل دخلنا زمن اللاشعر؟"، وتقريرات مثل: "هذا زمن القصة!"، و"زمن الشعر انتهى!"، وانفعالات مثل: "المثقف العربي والنبح بالإيجار"، ينبغي أن نتوقف كثيرا قبل الرد على مضامين الكلام للتأكيد على إشكاليات تقع فيها الكثير من أحكامنا.

وأول هذه الإشكاليات التي تقع فيها الكثير من أحكامنا هي مسألة (جلد الذات) أو تأنيب الذات إلى حد يصل كثيرا إلى القسوة الناتجة عن ردة فعل أكثر من كونها موقف مبلور، وقد علمنا القرآن الكريم أن ننأى بأنفسنا عن لوم الذات إلى درجة قد تؤدي إلى إهلاكها من خلال باعث إيجابي هو الحرص على أمر ما والحرقة عليه خوفا من ضياعه إلى حد كبير، حيث قال تعالى: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون"(فاطر: 8). وفي قوله تعالى: "لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين"(الشعراء: 2)، و(باخع) أي  (مهلك). ومسألة جلد الذات باتهامها بالعجز والجبن والانكسار والضعف قد تقود المرء إلى سلوك سلبي محبط يتراجع ولا يتقدم، وينكسر ولا يقاوم، وتدفعه إلى الانزواء والعزلة واليأس من الإصلاح، بخلاف منهج الإسلام الداعي إلى الصبر على الأذى وتفضيل أولئك الصابرين على اليائسين المحبطين الذين سكنهم مفهوم الانهزام قبل خوض المعركة في الغالب. 

يقول محمد عبد الله في النماذج العشرة للتفكير المعوج في العدد التاسع من مجلة تواصل: "في هذا النموذج {التأنيب} يجعل الشخص نفسه مسئولاً عن أمور وحوادث لا يستطيع التحكم فيها... والتأنيب يقود إلى الخجل والشعور بالذنب". مما يقود إلى التقاعس، وفق مفهوم "مفيش فايدة" التي زعموا أنها كانت آخر كلمات سعد زغلول!

وتكمن الإشكالية الثانية من الإشكاليات التي تقع فيها الكثير من أحكامنا في (لوم الآخرين بلا حدود)، وتعليق الخطأ على شماعات متعددة خارج إطار الذات في شكل آخر من أشكال التأنيب يقود إلى النتائج نفسها. وقد حذرنا القرآن الكريم من ذلك الظلم، وأمرنا بالموضوعية والنزاهة في التعامل مع الآخرين وعدم ظلمهم حتى لو كانوا شانئين أي مؤذين لنا، قال تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة: 8). فضعف أدائنا لا ينبغي أن نسقطه على الآخرين بكيل الاتهامات على الناس، إذ لو كنا نعمل جيدا لكان للشعر دور أكبر مما هو موجود فعلا، وكان للثقافة رجالها الأبرز والأقدر على التأثير حتى لو كانوا فئة قليلة، وذلك حاصل لأن سير الواقع وإن شابه الكثير من الخلل يتقدم نحو الأفضل، فواقعنا اليوم هو بالتأكيد أفضل من الأمس، ومستقبلنا إذا هو أفضل بإذن الله من يومنا ومن ماضينا!

يقول محمد عبد الله في مقاله السابق عن شكل التأنيب المتجه إلى الآخرين: "البعض يلوم الآخرين أو القدر أو الظروف على مشاكله... ولا تعجب إذا سمعت البعض يلوم الحكومة والمجتمع والأهل إلى آخر القائمة، لأنهم تسببوا في جرّ مشكلة مثل هذه{أي ذاتية} له!

وتكمن الإشكالية الثالثة من الإشكاليات التي تقع فيها الكثير من أحكامنا في (تعميم الأحكام)، وعدم التمييز بين الطالح والصالح وفق مفهوم "المساواة في الظلم عدل!!"، مع أن الظلم يزداد كلما وقع على عدد أكبر من الناس!

وقد أدرك المبدعون تلك الموضوعية في رسم الشخصيات القصصية والدرامية مستمدين ذلك من واقع الناس. فلا يوجد دائما لونان لا ثالث لهما؛ بل هناك درجات من اللونين تتقارب وتتباعد باتجاه هذا اللون أو ذاك! لذلك لم يتركوا شخصية البطل تتميز باستقامة كاملة بل جعلوا له هنّات تفسر ما قد يقع له من مشاكل وصدمات، كما أنهم تعمدوا رسم لمسات من الخير في النماذج التي تمثل الشر.

وعلى المرء أن يميز جيدا بين الظالم وغير الظالم الذي ينتمي إلى فئته، فالصحفي السيئ ليس نموذجا نمطيا لكل الصحفيين، ولا يُعدّ الشاعر الرديء غير الناجح في تشكيل رؤية بناء فنية وقيمية إيجابية نموذجا ينسحب على كافة الشعراء... قال تعالى: "كل نفس بما كسبت رهينة"(المدثر: 38)، وقال في كتابه الكريم: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"(النساء: 58).

أمّا الإشكالية الرابعة من الإشكاليات التي تقع فيها الكثير من أحكامنا فإنها تكمن في (الوقوع تحت تأثير الصدمة)، فقد يذهل المرء تجاه ظاهرة انحراف معين مما يقوده إلى ردة فعل نفسية عنيفة تتمثل في صدمة تخرجه من طور الحكم المتأني وتدفعه إلى التطرف في التعميم وإصدار الأحكام.

شهدت لذلك مثالا عمليا أذهلني وسمّرني أمام شاشة التلفاز إبّان انتفاضة الأقصى عندما وقف أحد الخبراء النفسيين بين زملاء له مؤكدا أمام مشاهد الدمار التي يمارسها الاحتلال عدم جدوى الكلام في التلفاز وعدم فائدة العلاج النفسي أمام حجم الجرائم وعدم فائدة الحياة أمام  ما يحدث، وظل واقعا لفترة تحت تأثير تلك الصدمة حتى واجهه أحد زملائه وقال له: "أنت واقع تحت تأثير صدمة نفسية حادة، أنت تحتاج إلى علاج يا دكتور!! نحن مطالبون أن نكون أقوياء أمام الحدث، وأن لا نهتز كثيرا حتى نستطيع أن نؤدي دورنا، ولو آمنا جميعا بما تقوله فسينهار المجتمع!"، واستطاع زميله بالكاد أن يخرجه من حالته تلك، خصوصا أنها جاءت في زمن البثّ المباشر والمفتوح، مما يجعلها ذات أثر سلبي كبير في تفاعل الناس معها، وجرّهم إلى مربع اليأس، والخروج عن الصبر والمكابرة الحاثّة على الصمود، وعن المقاومة الحافزة على اتخذ خطوات علاجية.

وأنتم ترون معي في تلك الحالة أن الرجل يتحدث في التلفاز فعلا مع أنه يدين مثل ذلك الحديث، ويعمل في مجال العلاج النفسي بينما يؤكد تفاهة ذلك العمل وعدم جدواه، فهو يجلد ذاته ويجلد الآخرين ويعمّم حكمه، ولذلك لن أستغرب لو جئنا بعشرات الأقوال لشعراء تدين الشعر في لحظات غضب وانفعال وتؤكد على عدم جدواه، لكنها لا تنطلق من منطلق مبلوّر بقدر ما تنطلق من منطلق انفعالي قد يجلد الذات أحيانا وقد يجلد الآخرين أحيانا أخرى متناسيا صاحبها أنه يمارس الشيء ذاته!

وقد علّمنا القرآن الكريم كيفية مواجهة الصدمات القاسية، وعدم التفاعل السلبي معها؛ ولا يكون الصبر إلا عند الصدمة الأولى، لذلك قال تعالى: "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون"(البقرة: 156)، كما قال تعالى: "الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"(آل عمران: 173).

واتهام الشعر في عصرنا بالعجز غريب، لأن الشعر لم يتغير حاله كثيرا منذ بزوغ فجره في التعبير الإنساني، وما زال يتجدد في كل عصر من خلال أسماء مبدعة يتوهج عطاؤها. فالشاعر الجاهلي وقف موقفه الوجودي أمام الحياة، من خلال وقفته الشهيرة على الأطلال في تساؤلات عن المصير والغاية، وفي محاولة للتشبث بالوجود والبقاء... وإن كانت الحضارة العربية القديمة –إن صحّت تسميتها بالحضارة- وسط الرمال المتحركة وعوامل التعرية النافذ مفعولها بقوة على مقدراتها البسيطة؛ إن كانت لم تجد ما تدوّن عليه مشاعرها ورؤيتها فقد رسمت بالكلمات ما يمكنه التعبير عن تلك الرؤية، التي غرقت بين معطيات كثيرة.

لقد تفاوت دور الشعر بين القوة والضعف قياسا إلى موظِّفيه، فقد سكنت بعض قصائده قصور المال، واستطاعت تلك القصائد أن تكون ذات بعد إيجابي في دعم التغيير، وقد سكنت بعض قصائده قلوب أصحاب المبادئ، واستطاعت أن تكون عونا لهم على أداء رسالتهم... ويمكننا وفق نظرة موضوعية أن نقول إن الشعر في كل تلك الأحوال كان جزءا من مشكّلات المشهد الثقافي التي لا يمكن تجاوزها خصوصا في ظل حياة أكثر بساطة من حياتنا التي نعيشها اليوم. لكن هذه الكينونة لم تغادر مكانها كثيرا في زماننا، لأن الأدوات الثقافية التقنية الحديثة من وسائل الإعلام المختلفة التي أسست لأشكال أدبية جديدة لم تغلق الباب أمام الشعر وانتشاره؛ بل كانت عاملا من عوامل تحرره من قيود التسول، وأصبحت منبرا حرا لكتّابه بعيدا عن الشهرة مقبوضة الثمن. وخصوصا مع انتشار الغناء كمنبر هام من منابر الشعر وانتشاره حيث لبس الشعر ثوبا من الألحان والصور والمؤثرات التي لم يحلم السابقون بتوفرها لكلماتهم.

وفي كل الأحوال أوشكت الكلمة المقاتلة الحرة أن تكون عملة صعبة في العصور الأدبية المتلاحقة، لأن هيمنة السياسي وحب السلامة ظلتا مظلة الكثيرين من الشعراء والأدباء والإعلاميين!

تعالوا لنتفق على مفهوم الثقافة الذي يشمل كافة أنواع التعبير والمعارف والسلوك والممارسة، ذلك أن  مفهوم الثقافة لم يرتبط يوما بالأدب أو الشعر تحديدا عند أحد ممن يُعتدّ برأيهم!

وبذلك نفهم أن الثقافة كمشكّل من مشكّلات الحضارة الإنسانية لم تتغير كمفهوم، ولم تنسحب من الواقع كوجود حي قائم مهما تبدلت ملامحه، وتفاوتت نسبة حضور مفردة من مفرداته دون أخرى، وتنوعت أشكال ظهوره من خلال أدوات جديدة تطرأ على حضارة الإنسان، مثل: آليات التواصل التقني عبر الهاتف والجوال والماسنجر، والإذاعة والتلفاز والسينما والفيديو والفضائيات، والصحيفة اليومية والمجلة الأسبوعية أو الشهرية والفصلية، والصحيفة المتخصصة والعامة، وما قد يتخلل ذلك من أشكال ثقافية يلتقي بعضها مع أشكال سابقة، ويشكّل بعضها تطورا لأشياء سابقة أخرى، ويضيف بعضها جديدا.

ومناقشة كل عنصر ثقافي على حدة قد تثير إشكاليات كثيرة، وقد يتم استيعابها كنوع من أنواع ترتيب الأفكار بشكل علمي ومنهجي، وأول الإشكاليات التقاء كثير من العناصر الثقافية في الدور والحكم والمصير، فالكثير مما ينسحب على الشعر ينسحب على الرواية والقصة القصيرة والمقال الصحفي، كما ينسحب على وسائل الإعلام المتعددة التي ذكرناها... ولا ضير في ذلك ما دام الحكم علميا لا يقوم على التعميم.

ومن الإشكاليات التي تنبع من ترتيب الأفكار وتجزئة القضايا المدروسة رؤية حجم الدور لكل عنصر بشكله المستقل أقل بكثير من دوره ضمن فريق ثقافي متكامل العناصر، فالحياة لم تكن يوما من الأيام مجرد قصيدة أو قصة أو مقالة صحفية، إن الحياة نسيج متكامل من المعطيات الثقافية، لا ينهض أحدها بمعزل عن المكوّنات الثقافية الأخرى... ولعل السد الكبير الذي يتشكّل من مجموعة كبيرة من الحجارة الصغيرة والضخمة التي لا يستغني كبيرها عن صغيرها ولا صغيرها عن كبيرها؛ يلخّص طبيعة المشهد الذي نرمي إلى عرضه بوضوح وجلاء، فلم يكن أي انتصار من انتصارات (سيف الدولة الحمداني) على سبيل المثال ثمرة قصيدة للمتنبي أو أبي فراس الحمداني، تماما كما أن ذلك الانتصار لم يكن ثمرة جهود (سيف الدولة) وحده دون جيشه العسكري ونظامه السياسي الداخلي، فالمشهد الثقافي بكامل عناصره يقف ليؤدي دوره هناك، ولا تكتمل الصورة دون غياب أحد تلك المشكّلات مع أدوات النصر الأخرى، والإعدادات اللازمة للقوة، تلك الإعدادات المنطلقة من الطبيعة الثقافية لتلك المعركة!

الاعتقاد الخاطئ بتضخيم دور الشعر –أحد مشكّلات المشهد الثقافي- لا يتحمل مسئوليته الشعر ولا الشعراء. إن الشعر يؤدي دورا ويلتزم برسالة شأنه شأن المشكّلات الثقافية الأخرى، وينعكس أداؤه ضعفا أو قوة على النتيجة، تماما كما ينعكس دور الميمنة في الجيش أو الميسرة على النتيجة... قد تضعف الميمنة وينتصر الجيش، وقد تضعف الميمنة وينكسر الجيش، ليس لأن الميمنة هامشية ضعيفة الدور، بل لأن الميمنة جزء من أجزاء الجيش ومعطيات المعركة، والمعطيات تقوم على مجمل العناصر لا على أجزاء منها وحسب... بمعنى أن الانتصار ثمرة تضافر جهود، ولو ضعفت الميمنة والميسرة والقلب لزادت فرصة الخسارة، فأنت تزداد قوة بازدياد قوتك في معظم العناصر إن لم يكن كلها. ولذلك من المشكلة أن نتعامل مع أداة واحدة على أنها محور المعركة ونحمّلها فوق طاقتها... فالشعر والعقيدة والعلم والإعداد... عناصر حياة وقوة، وضعفها جميعا أو ضعف معظمها سينعكس على نتيجة المعركة. وواقعنا اليوم –للأسف- يؤكد ذلك المفهوم، فالانكسار الذي تعيشه الأمة نابع من ضعف معظم عناصر النهوض بما فيها ضعف العقيدة، فالشعر شأنه شأن الدين في المعركة، إذا ضعف الدين فمن يلوم الشعر. وليست مظاهر القوة في ميدان ما أو جزء من ميدان المعركة دالة على تميز مفردة دون أخرى، فليست النماذج السياسية القوية مثل د. عبد العزيز الرنتيسي والأستاذ خالد مشعل والسيد حسن نصر الله على سبيل المثال دالة على الرغم من قوتها على نهوض الواقع السياسي في بلادنا العربية والإسلامية، لأن هذه الشخصيات على أهميتها كروافع للنهوض لا تمثّل ظاهرة، فما زالت شخصيات سياسية كثيرة في مواطن أكثر أهمية مثل الحكام لا تنضوي تحت ذلك الإطار النهضوي! مما يعني أن إشراقة ما هنا أو هناك لا تعني تغير المشهد، والموضوعية مطلوبة في تقدير الأمور قياسا إلى واقع حضورها لا بحجم حضورها العاطفي في وجداننا.

وقد فهم بعض المبدعين بعد نكبة عام 1967 أن الدين كان سببا من أسباب النكبة المباشرة! وقد رأينا نزار قباني يتمنى لو استطاع أن يخلع أسنان خطباء الجمعة! ولم يلتفت إلى دوره كشاعر مبدع تفوق في تكريس الشهوات! والحقيقة إن قوة الشعر المنحرف وضعف الأداء الديني وقفا مع عوامل أخرى كثيرة وراء هزيمة عام 1967! ومعظم من تحدثوا عن أسباب الهزيمة أشاروا إلى ذلك. وذلك يقودنا إلى تقدير مخالف للفهم السائد عن قوة الشعر وضعفه في التأثير، فمن الواضح أن الشعر شكّل متغيرا قويا في مسألة التغيير، لكن النظرة المقتصرة على إيجابية الشعر وقفت وراء عدم تقدير استمرار تأثيره، فالشعر أداة تقوى في يد البنّاء والهدّام، وقد قال الناس قولتهم في دوره المعاصر وتأثير الهدّامين في تشكيل وجدان الناس، خصوصا إذا اتسع مفهوم الشعر ليشمل الغناء الفصيح والعامي، لترى من خلال ذلك حجم التغيير الذي يمارسه الشعر في ذلك التشكيل، بغض النظر عن قناعة البعض بمدى قبول انضمام الغناء إلى ميدان الشعر بمفهومه الواسع، فقد ارتبط الشعر بالغناء منذ بداياته الأولى، وقد طوّر الكثير من الناس نظرتهم إليه ليصبح تفعيليا ومنثورا وعاميّا وزجليّا!!

وإذا نظرنا إلى الأمر بحيادية سنجد أن الشعر بمفهومه الواسع لم يفقد دوره الحيوي في التأثير على سلوك الناس وصناعة ثقافة التميع والانحراف عن القضايا الكبرى والمصيرية! وفي المقابل سنجد أصحاب النظرة الإيجابية للتغيير الثقافي يناقشون أمر الشعر باعتباره من مخلفاتنا الثقافية التي تجاوزها الزمن، وفقدت دورها، وقدرتها على التأثير... إن كان هذا التقييم يأتي من أجل إعادة إحياء وتفعيل كافة المفردات الثقافية من منطلق إيجابي، فنعمت المحاولة ونعم السعي، لأننا بحاجة إلى إعادة مفردات ثقافية كثيرة إلى (دور إيجابي) تؤديه،  فلا يختلف اثنان على أن السعي لإعادة الثقة بالله واعتبار القرآن مصدرا للهداية والتشريع أمر لازم لصناعة مشهد ثقافي متماسك، خصوصا مع ضعف دور الدين في صبغ المشهد الثقافي العام الذي انفردت به مفردات الانحراف، وذلك يحتاج إلى يقين بأهمية دور الدين على الرغم من غيابه القوي اليوم عن معترك الحياة، وكذلك إلى يقين بأهمية الشعر كأداة ثقافية إيجابية تنهض به الأمة وتستنقذه من أوحال الانحراف التي يعيث فيها بقوة غير مسبوقة!!

إن أخشى ما أخشاه أن تكون هجمتنا على الشعر نابعة من الإحساس بالدور السلبي الذي يؤديه اليوم، أو أن تكون نابعة من عدم القدرة على تحديد مدى أهميته كأداة نهوض ضمن مفردات ومعطيات أخرى... وتلك الخشية تقودنا إلى خشية من عدم تحديد مسار التغيير الثقافي الإيجابي بشكل جيد، مما سينعكس على نتائج ملحمة التغيير القائم بإضعافها وعدم توازنها، خصوصا إذا ظلت المفردات الثقافية الأخرى من دراما وسينما ومسرح وأدب أطفال... تسكن في الربع الخالي من صحرائنا الثقافية!!

لم يفقد الشعر دوره، ولن يفقد دوره ضمن حجمه الطبيعي لأداء ذلك الدور دون تضخيم أو تقزيم! وذلك من خلال رؤيته بمرآة عادية ليست مقعّرة ولا محدّبة!

وما زال الشعر أداة من أدوات معركة الحياة، لا لوم عليه إن آمن بعض الناس به أو كفروا، لعله كان في الماضي سيفا، ويحتاج اليوم إلى أن يكون صاروخا أو عابرة قارات... لكننا لن نلوم السيف إن عجزت سواعدنا عن المهارة فيه، وإن لم ندرك متطلبات العصر في تطويره، فمن آمن بالسيف لم يكفر بالصاروخ، وعنترة الأمس ليس من المنطقي أن يبقى صورة نمطية ثابتة، غير قابلة للتحول الإيجابي المتلائم مع طبيعة الزمن المختلف!