دعوة الإخوان المسلمين بالمنزلة دقهلية 3
دعوة الإخوان المسلمين بالمنزلة دقهلية
الحلقة الثالثة
(3)
أ.د/
جابر قميحة
المنزلة ودعوة الإخوان:
كانت مدينة المنزلة من أسرع المدن استجابة للإمام الشهيد، عند بداية نشوء الدعوة، كما كان لشعبة المنزلة نشاط كبير جدًّا في مقاومة حركة التنصير. وقد كتب الإمام الشهيد عن ذلك في مذكراته مما يطول شرحه لو أردنا تتبعه.
كيف كانت بدايتي إلى الإخوان:
من الذكريات ما يطويه الزمن، ويسدل عليه ستائر النسيان إلى غير رجعة.
ومن الذكريات ما يطوف بالإنسان في فترات متباعدة من حياته، ولكن في صورة شبحية غائمة، لا تثيرفي النفس من المشاعر إلا هوامشها الطافية، ومساحاتها السطحية.
ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه، بل أشدها وأقواها نبضًا وحياة.
أقول هذا بعد مضي ما يزيد علي ستين عاما على واقع عظيم لذيذ.. عشته لساعات، وأنا تلميذ بالمرحلة الابتدائية، وذلك في مدينة "المنزلة" ـ بلدي ومسقط رأسي ـ وهي مدينة ساحلية تقع على بحيرة المنزلة، في أقصى شمال دلتا النيل، بعيدًا عن القاهرة بقرابة مائة وخمسين ميلاً.
أنا رأيتهم.. عشتهم..
كان ذلك في شارع (البحر المردوم) ـ أوسع شوارع "المنزلة" وأطولها، فبعد صلاة الظهر ـ في يوم شديد الحرارة ـ رأيت مسيرة من خمسمائة رجل ـ على الأقل ـ ما بين شاب في العشرين، وشيخ جاوز الخمسين.. أزياؤهم واحدة: لونها "كاكي"؛ والزي الواحد يتكون من "بنطلون" قصير "شورت"، وجورب طويل، وقميص وطربوش، ومنديل أخضر كبير يلف على العنق، ويرخى قرابة نصفه على منطقة التقاء العنق بالظهر على شكل مثلث، ويتدلى طرفاه على الصدر محبوسين بحابس من الجلد.
عرفت بعد ذلك أن هذا الزي يسمى "زي الجوالة"، وأن هؤلاء جميعًا ـ من شباب وكهول وشيوخ ـ اسمهم "جوالة الإخوان المسلمين" وأنهم جميعًا من أهل "المنزلة" والقرى التي تحيط بها، وقد جمعت هذه المسيرة ـ الموحدة الزي ـ فلاحين وعمالاً وأطباء ومدرسين ووعاظًا وتجارًا.
ياه!! أنا لم أشهد مثل هذه المسيرة من قبل: لا في الواقع، ولا في الخيال والأحلام.. صدقوني..
رأيتهم يسيرون على دقات طبول منتظمة، يتخللها أصوات قوية نفاذة من "النفير" أو "البروجي" وكان النافخون في هذه "الآلة النحاسية" لا يقلون عن أربعين جوالاً موزعين على ثلاث مجموعات: في المقدمة والوسط والمؤخرة، ومن عجب أن النافخين كانوا ينفخون كل مرة قرابة خمس دقائق دون نشاز، ودون أن يسبق نافخ زميله، أو يتأخر عنه للحظة واحدة على تباعد أماكنهم.
ثم يصدر الأمر من قائد المسيرة الأستاذ محمد قاسم صقر ـ رحمه الله ـ بالتوقف ليهتف كل من في المسيرة ـ وراء حامل المصحف الكبير: "الله أكبر ولله الحمد" "الله غايتنا، والقرآن دستورنا والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
وفي نهاية الشارع الطويل تطول وقفة المسيرة ـ بأمر القائد ـ لعشر دقائق ليكون بعد الهتاف السابق نشيد ما زلت أذكر مطلعه وكلماته:
هو الحق يحشد أجنادَهُ ويعتد للموقفِ الفاصلِ
فصفُّوا الكتائبَ آسادهُ ودكوا به دولةَ الباطلِ
سبحان الله!!.. ما شاء الله!! من علم هؤلاء ـ الذين أراهم لأول مرة كل هذه الآداب.. الطاعة .. والنظام.. والإنشاد والانضباط، وكلهم على قدم المساواة استجابة، وتنفيذًا مع اختلاف ثقافاتهم، وأنماطهم الفكرية، ومراكزهم الاجتماعية، بل إن كثيرين منهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة؟!!
وأراني أربط ربطًا قويًا بين هذه الخاطرة، وبين حقيقة تاريخية قرأتها بعد ذلك بسنوات، وخلاصتها أن "رستم" ـ قائد جيوش الفرس ـ كان إذا سمع تكبير المسلمين للصلاة ـ في خط المواجهة الفارسي ـ بكى، واستبد به الحزن، وصرخ "أكل عمر بن الخطاب كبدي" أي قتلني عمر ـ فيسأله من بحضرته: كيف أكل كبدك وأنت حي بيننا؟!! فيجيب: "لأنه يعلم هؤلاء الأعراب الآداب".
**********
وأعود لخاطرتي، وأقول: بمثل هذه "الآداب" استطاع أصحاب هذه "المسيرة الإسلامية" أن يأكلوا أكباد اليهود في فلسطين أواخر الأربعينيات، ويأكلوا أكباد الإنجليز في خط قناة السويس أوائل الخمسينيات.
وأعود إلى "المسيرة الإخوانية" في مدينتي ـ المنزلة ـ وأراني ـ أنا ابن العاشرة ـ أكاد أطير من الفرح.. إنهم يسيرون، وخطواتي الضيقة لا تتمكن من مسايرة خطواتهم الواسعة إلا بشيء من الجري بين الفينة والفينة وكأنني أخشى أن يتخطوا مجال رؤيتي، فيقفز قلبي من بين جنبي، ويواصل المسيرة المنتظمة معهم، ويحثني أن أغذ السير، حتى أدركه، ويسكن صدري من جديد.. ومع فرحي الغامر كان شيء من الحزن يخامرني مخافة أن ينتهي العرض الحلو الجليل.
ياه.. ليته يستمر ساعات..بل أيامًا متواصلة.. إن تيار الشعور المتدفق في نفسي لم يستطع، ولن تستطيع اللغة أن تعبر عنه بكماله، إنها حقيقة أؤكدها بصدق وأمانة، وأستحضرها، وأنا أقرأ فيما بعد قول أبي تمام في حديثه عن فتح عمورية على يد المعتصم:
فتح الفتوح تعالي أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فمن المواقف والمشاعر، ما يكون له من الأبعاد والدلالات والإشعاعات والظلال ما تعجز اللغة ـ أية لغة ـ عن الإحاطة بكل أقطاره.