الثقافة خلف القضبان
الثقافة خلف القضبان
د. كمال أحمد غنيم
لم يكن الحال في (أنصار 2) المعتقل الإسرائيلي بمدينة غزة في فلسطين مثل الحال في زنزانة الوسطى التي لا تتسع لعدد السجناء النائمين جنبا إلى جنب، مما اضطرني واضطر آخرين أن نجلس طوال الليل انتظارا لفرصة نوم أو صباح جديد.
بمجرد أن دخلنا الخيمة في أنصار2 كان الأخوة السجناء قد وقفوا في حلقة دائرية على اتساع الخيمة في ترحاب خيالي مسح مذاقات القيد و(الشبح) والضرب، حتى أنني لم أشعر بآثار القبضة الوحشية على الفك التي منعتني من الطعام أياما ولم تسمح لي بالكلام بسهولة!
كان بعض من عرفوني قد سبقوا إلى الخيمة، وجاءت المصافحة على هدير صوت أحد الأسرى، وهو يتلو أبيات من قصيدتي "رسالة شهيد"، مما أذهلني وأثار دهشتي. خُيّل إليّ أن غزة بأكملها كانت هناك، وجدت من أعرفهم ومن لا أعرفهم، وقابلت من علمت باعتقالهم ومن لم أعلم.
جلست على حافة (برش) وحولي من سبقوني من المعتقلين وهم يرتشفون كلماتي عن خارج السجن ارتشافا، كانوا يحاولون الاطمئنان على الأهل والأصدقاء والانتفاضة، وعرفت بعد ذلك معنى أن تكون قادما جديدا، يحمل أخبارا وظلالا من الأخبار التي لا تنقلها الصحف الشحيحة وإذاعة السجن الإجبارية.
شيئا فشيئا صرت جزءا من واقع غريب ومذهل، أنت في مخيم وطني صاخب لا تجرحه إلا استعدادات يومية لعدّ الأسرى، تذكّرك بالوجوه الكالحة المتحصنة ببنادق الحقد.
أصبح (أنصار 2) يمثّل مرحلة انتقالية بعد إنشاء (أنصار 3) أو (كتسيعوت) في صحراء النقب... وعلى الرغم من ذلك كانت مهرجانات النشيد والمسرح الأسير وجلسات السمر تشكّل قواما أساسيا من مشكّلات ذلك المعتقل، خصوصا أن التحقيق ما زال مستمرا، والبرنامج الثقافي المكتمل صعب التحقق وسط عدم الاستقرار وأمام إمكانات المساءلة حتى عن النشاط هنا داخل المعتقل! ولذلك كان نصيب السمر والنشيد والمسرح أكثر حضورا.
ويمتزج الألم مع الفرح والمكابرة، فعندما يعود أسير من وجبة تحقيق، وقد انكسرت نظارته، وتهشّم أنفه واحمر وجهه، وظلت آثار دمع عالقة في عينيه وفي ملامح وجهه، كانت حفلات السمر المكابر وجبة ثبات وصمود ولا مبالاة... والحقيقة إن الدفء الذي يجده الأسير هنا ينسيه كل المعاناة هناك، ويغسل روحه من الخوف والقهر.
ولقد وجد الأدب والفن لنفسه هناك سبيلا، فالبرنامج الثقافي الذي تحول تدريجيا في أنصار3 إلى نظام أكاديمي جامعي هو جامعة يوسف عليه السلام، وجد لديه مجالا للنشاط اللامنهجي وبابا من أبواب الترفيه، لذلك تشكّلت اللجان الفنية في كل مردوان جنبا إلى جنب مع اللجان الأخرى الأمنية والثقافية والسياسية.
وحظي يوم على الأقل في الأسبوع بالمسرح والنشيد والشعر والسمر، واهتمت فئة من الأسرى باكتشاف المواهب وتقديم الفقرات الفنية التي كانت تسابق الزمن ليكتمل برنامجها قبل انطفاء المصباح الداخلي في إشارة سلطوية إلى ضرورة الخلود إلى النوم أو الصمت حتى وإن جافى الأسرى النوم!
إحدى المسرحيات لم تكتمل بسبب انطفاء المصباح الداخلي للخيمة، وصاحبنا فيها الذي مثّل دور "نبهان الصاحي" وجد نفسه متورطا بثوب شخصيته الرمزية الدالة على مفارقة الواقع العربي بين واقع يقظة ظاهري وغفلة حقيقية! وكان صاحبنا في المسرحية -المحكوم عليها بعرض بقيتها في الليلة التالية- واحدا من طلبة يدرسون لدى أستاذ، يحاول أن ينمّي حسهم الوطني، لكن نبهان كان ينام نوما حقيقيا في الفصل، مما أثار موجات الضحك، فآلى صاحبنا وهو الممثل للمرة الأولى، الذي تفاعل معه الجمهور؛ آلى على نفسه أن يكسر نهاية المسرحية في اليوم التالي، وبالفعل انقلب إلى شخصية واعية من خلال معطيات المدرس الموجوع الذي لا يجد استجابة من طلابه، حيث بيّن أنه يمتلك الوعي الحقيقي، وأن الغفلة قد زايلته، وناشد المدرس أن يدرس تلاميذه بطريقة عملية وأن لا يكتفي بالدرس النظري، وأن يبدأ رحلة نضاله لتتعلم منه الأمة. وحصد صاحبنا التصفيق الحار الذي ما فارقه الإعجاب في الحالتين: الفكاهة والجد.
ومن أروع المشاهد الثقافية هو التزاور بين الفصائل داخل المعتقل، حيث وجد الأدب والفن والخطابة له دورا في تلك البرامج الاجتماعية، حيث كانت تدور أكواب العصير (عبارة عن كأس ماء حُركت فيه معلقة مربى الفراولة) وكان يلقي الشعراء من الطرفين ما لديهم، ويتبادل الخطباء الترحيب، ويقدم بعض المنشدين تحية فنية بأنشودة جميلة تطرب الجميع.
أما الأروع من ذلك كله فهو البرنامج الخاص بالعيد في مهرجان فني ينافس مهرجانات الفن في الخارج، حيث تلبس الخيمة ثوبا جديدا وتتحول الأبراش إلى كنب فخم تغطيه المفارش الملونة، ويبدأ المهرجان باستعراض شبه عسكري يرافقه النشيد الحماسي، ثم تبدأ الفقرات بالقرآن الكريم والكلمات المنتقاة، والنشيد المنوّع بين الهادئ والصاخب مع سلسلة من المشاهد المسرحية... إنه برنامج فني ثقافي مكثف، تعدّ له اللجنة الفنية من زمن مبكر، بالتنسيق مع اللجنة الثقافية. وأنا أستطيع القول هنا –دون مبالغة ودون إحساس باستمتاع بالألم- إن أجمل الأعياد التي عشتها كانت هناك في المعتقل!! ولعلي أستطيع التأكيد أنني أدركت معنى المقولة الصوفية: (نحن في سعادة لو علم بها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف) إدراكا كاملا هناك !
أما المطابع، وما أدراك ما المطابع! فقد كانت عبارة عن خطوط جميلة يتم انتقاء أصحابها بعناية، ليقوموا بنسخ الكتب الاعتقالية على دفاتر، وتشمل تلك الكتب فروع العلم والثقافة المختلفة، التي تأتي من خلال كتابات المعتقلين المثقفين الذين تواردوا على السجن في فترات مختلفة بالإضافة إلى ملخصات كتب يوجد بعضها في مردوانات أخرى، وقد أعطى حجم المعتقلين المثقفين مساحة واسعة لإثراء مكتبة المعتقل الغريبة تلك!
وقد حظي المعتقلون بوقت كبير سمح لهم بإحياء جانب ثقافي هام، تمثّل في الفن التشكيلي والتحف الفنية التي تعددت أشكالها بين مجسّمات الأقصى وقبّة الصخرة، ومنحوتات الصخر الفنية، ومناديل الرسم القماشية، وذلك بإمكانات بسيطة، تكمن في بساطتها عظمة الإبداع الفلسطيني، فالمنحوتات تُستمد مادتها من أرضية المعتقل أحيانا، ومن المساحات الداخلية المحيطة به، والمجسّمات تعتمد على علب معجون الحلاقة ومعجون تنظيف الأسنان! أما اللوحات فتعتمد على ما يتسلل للمعتقلين من مناديل قماشية (محارم)!!
وأذكر أنني وجدت متسعا من الوقت لصياغة منديل قماشي لأمي وأبي زيّنته الآية القرآنية: "رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، وجدتهما قد قاما بصناعة برواز فاخر له عندما خرجت من المعتقل فيما بعد!
أما الدورات العلمية، ودورات (كيف تكتب الشعر في سبعة أيام) تحديدا، فقد كانت لها حكاية لطيفة... حيث كنا قد أُجبرنا على ترك المردوان (مجموعة خيام تضم ما يقارب 300 معتقل) وتم حشرنا في ممر ضيق بين الأسلاك الشائكة في شمس النقب الصحراوية ظهرا، من أجل إتاحة المجال للجنود حتى يقوموا بتفتيش المردوان! وعاتبني صاحبي لأنني لم أعلمه كتابة الشعر فقلت له: هذا قلم معي، فهات ورقة نكتب عليها. فجاء بورقة من زملائنا مثل حجم كف اليد كانت مغلفا لعلاج حصر البول بحبوبه الحمراء، وورقة أخرى كانت عبارة عن مغلف علبة سجائر (اسكت) المعروفة في المعتقل، وكان درسنا الأول هناك على مدار ساعة تقريبا، في حر الشمس الصحراوية، وبين الأسلاك الشائكة، وفي ظروف استثنائية تعطلت معها البرامج الثقافية المعتادة. ولما عدنا انزوى صاحبي جانبا، ولم تمضِ ليلته الأولى حتى كتب قصيدة جميلة على تفعيلة بحر الوافر!!
صديقه في المردوان المقابل تفاجأ مما حدث بعد أن قرأ القصيدة، وأصرّ على تعلّم الشعر، وتعلمه مني في أقل من ساعة، وكان يفصل بيننا خطان من الأسلاك الشائكة، والممر الضيق الذي تعلم فيه صاحبنا الأول، ليكتب هو الآخر قصيدة أخرى... ليحدث انقلاب في المعتقل وهجوم للراغبين في تعلم كتابة الشعر، اضطرنا لصياغة كتاب في موسيقى الشعر من نسخ ثلاثة يُلقى بها إلى أقسام المعتقل المتباعدة، وذلك كان كتاب مجلة الرابطة الشهري الأول على ما أذكر!!
وبعد أن كان البرنامج الثقافي يحتوي على دروس السيرة والعقيدة والتلاوة والسياسة والأمن وجد الشعر له متسعا بين كل تلك الأشياء! وتم عقد عدة دورات في موسيقى الشعر، كانت أشبه بسفينة نوح وسط الصحراء القاحلة!