وبيني وبين العالَمينَ عَمَار

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 فى إحدى القاعات بالقاهرة حضرت محاضرة لمفكر مشهور,وكان موضوع المحاضرة(حب الله,والحب فى الله).

 ورأيت الرجل يفرق بينهما تفريقا نوعيا,فالعلاقة بينهما ـ كما قال ـ علاقة ضدية, فيجب أن يكون الحب خالصا لله, ولا يمكن أن يجتمع حب العبد لله, وحب العبد لعباد الله, واستشهد المحاضر بشعر كثير ينسب إلى رابعة العدوية منه:

أحـبـك  حبين حـبَّ الهوى
فـأمـا الذى هو حب iiالهوَى
وأمـا  الـذى أنـت أهل iiله



وحـبـا لأنـك أهـل لـذاكَ
فـشـغلى بذكرِك عمن iiسواك
فكشفك لى الحجْب حتى أراك.

وتمثل كذلك بالأبيات التالية المنسوبة لرابعة العدوية:

لـيـتك تحلو والحياة iiمريرة
وليت الذى بينى وبينك عامر
إذا صح منك الود فالكل iiهين



وليتك ترضى والأنام iiغضابُ
وبـينى وبين العالمين iiخراب
وكل  الذى فوق التراب ترابُ

وأخذ المحاضر يلح على البيت الآتى ويكرره:

وليت الذى بينى وبين عامر               وبينى وبين العالمين خرابُ

وانطلق منه إلى الحديث عن رابعة العدوية التى وصفها بأنها : النموذج الأعلى للحب الإلهى.

 وأخذ يسوق وقائع من حياتها يؤيد بها رؤيته, ومنها : أن رابعة خرجت من البصرة إلى مكة للحج , وهى حافية القدمين. بل يقال إنها ذهبت لأداء الفريضة من البصرة إلى مكة وهى متدحرجة على جنبيها , ولم تستعن لا بناقة ولا بجمل , ولا بسفينة .

 وسمعت آهات الإعجاب من الحاضرين الذين كان أغلبهم من ذوي الطوابع الخاصة. وجاء دوري فى التعليق على المحاضرة, وبدأت بمناقشة الواقعة الأخيرة, وخلاصة رأيي أنها مرفوضة عقلا ودينا :

1 فهى مرفوضة عقلا وواقعا , لأننا لو فرضنا أن المسافة بين البصرة ومكة ألف ميل لاحتاجت رابعة قرابة عامين للوصول الى مكة دحرجة. هذا على فرض أن تقطع فى اليوم الواحد متقلبة على جنبيها ميلا ونصف ميل .

2 وكيف تمكنت من ذلك والأرض ليست مستوية, بل فيها الجبال والوهاد والبحار والمستنقعات...الخ.؟!

3 وماذا كانت رابعة تفعل لتحقيق الضرورات البشرية من طعام وشراب وقضاء حاجة ؟

4 ألم يكن فى الطريق أخطار من بشر او حيوانات كاسرة , مع أنها لم يصحبها واحد من البشر ولو كان دليلا ؟.

5 وأين مكان القواعد الإسلامية المشهورة: الدين يسر, ودفع الحرج, ولا ضرر ولا ضرار؟

 **********

 وظهر الغضب على وجه المحاضر الكبير , وجاء جوابه فى الكلمات الآتية أقدمها للقارىء كما قالها حرفيا:

الله ؟؟!!... هو انت بتحسب رابعة دى زيي وزيك ؟! دي نوع خاص من البشر أكرمه الله , فمَحَض حبه لله, فأتى بما يعجز عنه الآخرون.

 قلت نحن لم نسمع بمثل هذا لنبى من الأنبياء. وتمثلتُ بكلمات لابن تيمية: لو أتونى برجل يمشى على الماء ما قطعت بأن عمله هذا يصدق عليه وصف كرامة الأولياء,

لأن مثل هذا العمل يأتيه الولي كرامة , وقد يفعله الساحر سحرا.

وعرفت أن مواصلة اعتراضاتى على ما ساق الرجل سيكون من قبيل إهدار الوقت, فآثرت أن أستوفي ما فى نفسى فى كلام مكتوب أعرضه فى السطور الآتية:

 بيت من الشعر غريب عجيب, ينسبه بعضهم إلى رابعة العدوية . وينسبه آخرون إلى غيرها,ولكن الجميع ينشدونه معجبين بمضمونه وأعنى به البيت الذى يخاطب الذات الإلهية بقوله:

فليت الذى بينى وبينك عامر         وبينى وبين العالمين خرابُ

 أقول : إنه غريب على روح الإسلام , والخلق الإسلامى . والشطر الأول لا اعتراض لنا عليه , فالمسلم الحق مطالب بأن يجعل حياته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين, وأن يعمل على إرضاء الله فى المنشط والمكره والسراء والضراء, وبذلك يكون ما بينه وبين الله عمارا.

 ولكن هل يمكن أن يتحقق للمسلم ذلك مع تحقق الوجه المقابل: وهو أن يكون ما بينه وبين الناس خرابا؟

 إن الإجابة على هذا السؤال تقتضينا أولا أن نفهم المقصود بالشطر الثانى, وهو لا يعنى إلا واحدا من المعنيين الآتيين :

الأول هو البعد عن الناس واعتزالهم للتفرغ للعبادة. وهذا ما حرمه الإسلام تحريما قاطعا , لانه يعنى(الرهبانية), ولا رهبانية فى الإسلام.

والثانى: مغاضبة الناس, ومخاصمتهم, والإساءة إليهم , ومعاملتـهم بجفـاء وخشونة ( مع أداء الفروض الدينية من صلاة وصيام وزكاة وحج).

 وهذا أشد حرمة من الأول, لأن من أهم قواعد المعايشة في المجـتمع الإسلامـي :

أن يـكون( المؤمنون إخوة). والنبى صلى الله عليه وسلم جاء (رحمة مهداة). وبعث ـ كما قال عن نفسه ـ (ليتمم مكارم الاخلاق). وقال عنه ربه (وإنك لعلى خلق عظيم). ـ القلم 4 ـ ووصفه ,ووصف المؤمنين بقوله (…أشداء على الكفار رحماء بينهم ….) ـ الفتح 29 ـ

 ودعاهم الى التكافل والتعاون ( وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...) ـ المائدة 2 ـ

. ودعاهم الى العدل بصرف النظر عن الشعور النفسى الخاص (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى...) ـ المائدة 8 ـ

. حتى فى التعامل مع المشركين يقول تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه…)ـ التوبة 6 ـ.

ومن ناحية اخرى نرى أن دعوة (وبينى وبين العالمين خراب ) مستحيلة التوافق والتطبيق عمليا مع ( بينى وبينك عامر ) , لأن المسلم مطالب بأن يصلي الجمعة ويصلى الجماعة, وأن يؤدى الزكاة, ويحج البيت , ولكل هذه الفروض هدف اجتماعي نبيل هو تقوية أواصر المحبة والود والأخوة بين المسلمين. اما الخراب فتدمير, وهتك , وقطع لحبال الخير الموصولة, وهذا لا يستقيم مع الدين الحنيف, بل هو حرب وتخريب لقيم هذا الدين.

لذلك نجد من حقنا , وحق ديننا علينا, أن يتوجه كل منا إلى ربه بقوله :

 فليتَ الذى بينى وبينك عامر               وبينى وبينَ العالمين عمارُ