الغول يظهر في فيينا من جديد
نوال السباعي
لم يتخيل «تشارلز بيراولت»، ومن بعده كل الذين أعادوا صياغة تلك الأسطورة الأوروبية التي ولدت في سفوح الألب وعلى رأسهم الأخويين «غرييم»: «الذئب والطفلة ذات الرداء الأحمر»، أو ما نسميه بالعربية «ليلى والذئب»، لم يتخيل أحد من كل هؤلاء أن يكون الذئب غولاً يسكن مع تلك الطفلة في الدار نفسها، بل وأن يكون والدها! المشتغلون بالآداب العالمية والأوروبية يعرفون أن تلك القصة العالمية كانت قد كُتبت نقلا عن القصص الشعبي الأوروبي تحذيرا للأطفال من الذئاب البشرية، والمتتبع لأصول القصة وتطورها منذ القرن الـ 16 يعرف أن ذلك الذئب استدرج تلك الطفلة لهدف غير شريف، لكن أحدا من أولئك لم تصل درجة تخيله للشر المحدق بالأطفال إلى ما نسمعه ونعيشه في أيامنا العجاف هذه!
مرة أخرى يتكرر الكشف قريبا من فيينا عاصمة النمسا عن واحدة من أفظع وأقبح جرائم الشرف التي عرفتها الإنسانية في تاريخها الحديث. رجل «يهودي» كان قد اختطف ابنته وهي في 18 من عمرها و «دفنها» حيّة في قبو منزله 24عاما، بهدف الاعتداء عليها. الأمر الذي كان يمارسه منذ أن كانت طفلة في الـ 11! ولا يقف هول القصة عند هذا الحد المثير للاشمئزاز والغثيان، بل إن هذه الابنة السجينة كانت قد أنجبت في ذلك «القبو-القبر» سبعة أطفال، توفي أحدهم بعد ولادته فقام «الغول» بحرق جثته في مدفأة المنزل! ثلاثة من الأبناء تبناهم قانونيا مدّعيا أن ابنته كانت قد هربت وانضمت لإحدى الجماعات الدينية المهووسة بالجنس وأنجبت هؤلاء الأولاد وتركتهم على باب منزل والدها، والثلاثة الباقون ممن تتراوح أعمارهم بين 5 و18 سنة فمحبوسون مع أمهم في قبو منزل «الغول» ذاك، لم يروا النور قط.
إصابة «الحفيدة-البنت» الكبيرة بمرض مريع اضطرت «الوحش» إلى حملها إلى المستشفى، حيث اكتشف الأطباء أن هذا المرض لا يصاب به الإنسان إلا من جراء ارتكاب الفاحشة مع الأرحام. وهكذا اكتشفت واحدة من أفظع جرائم الشرف الإنساني التي تجعل كل من يسمع بها يفغر فاه خجلا ورعبا من قدرة البشر على ارتكاب الفظائع!
وسائل الإعلام العربية المسموعة والمرئية لم تورد الخبر، ولعلها لم تفعل بهدف عدم خدش الحياء. وقد تناست أن وسائل الإعلام الغربية ما تفتأ تتصيد ما يشبه هذه الأخبار مما يحدث في بلادنا، والتي تظهر بين الحين والحين في زمن الانهيار الأخلاقي والإنساني الذي نعيشه، وتوردها في صفحاتها ونشراتها باعتبارها جرائم خطيرة ترتكب في بلاد العرب والمسلمين المتوحشين البعيدين كل البعد عن التحضر والتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما لا نعرف نحن استخدام مثل هذه الأخبار في قنواتنا الإعلامية، لا لفضح السقوط الإنساني المشين الذي يعيشه الغرب، ولكن للتدليل على أن العالم كله يعاني اليوم من هذه الفظائع بسبب البعد عن القيم والأخلاق والدين.
ثلاث نجمات داوودية ظهرت في الصور التي عرضت بيت الرعب والهول ذاك، لكن أحدا لم يشر إلى ذلك، ولم يستطع أحد أن يتلفظ بهذا الأمر في الوقت الذي تتعرض فيه أوروبا لدين المسلمين وقرآنهم ونبيهم بكل قبيح بدعوى حرية الرأي، بينما يطمس الجميع هوية «غول» مثل هذا ولا يتجرؤون على الإفصاح عنها. وليتخيل العالم المفجوع بهذه القصة ماذا كان يمكن أن يحصل لو كان ذلك «الغول» مسلما أو عربيا!
معظم وسائل إعلامنا المرئية لا تنشر عن الغرب من الناحية الاجتماعية إلا ما يجعل المواطن في المنطقة العربية يشعر بكثير من النقص، وهو يرى ذلك التقدم الهائل الذي حققه الغرب في مجال بناء هياكله الاجتماعية، بحيث لا يجد أية فرصة يتعرف فيها على السقوط الحقيقي الذي يعانيه الإنسان الغربي في مهاوي الرذيلة والجريمة والإغراق في البهيمية المتوحشة، تماما كما يفعل أي إنسان آخر على هذه الأرض التي ابتليت اليوم بسيادة شرائع الغاب التي تُروج لها آلة الإعلام الغربي، والتي تؤجج الشهوات ليلا ونهارا من خلال آلاف القنوات الفضائية الموجهة لهذا الهدف، بينما لا يجد الناس ما يطفئ هذه النيران المشتعلة في نفوس لا تعرف الانضباط ولا المتنفس الطبيعي لإشباع هذه الغرائز، فضلا عن وجود نفوس مريضة إلى حد الجريمة القاسية المرعبة كهذه التي كشف النقاب عنها.
إننا أمام أمر مفزع وقبيح هزّ العالم كله، وإنها لتُعجزني الكلمات في وصفه بدقة، ولا أجد مرادفات كافية للتعبير عما شعرت به وأنا أشهد تداعيات هذا الخبر الذي زلزل أوروبا، لكن يجب علينا أن نعرف وأن نعترف أن جرائم كهذه تحدث في بلادنا. لقد قرأت شيئا شبيها بهذا عن أب «مسلم» قبل 30 عاما، ارتكب جريمة مشابهة مع بناته الثلاث القُصّر، ومازالت الأخبار في تواتر عما خفي وهو أعظم مما لا تسمح مجتمعاتنا بالكشف عنه، ولا يجد الأطفال ولا النساء في بلادنا من يدافع عنهم ضد الغيلان!، لكن الجرائم المتعلقة بالشرف بين المحارم في العالم كله لم تبلغ من الفظاعة والشناعة ما بلغته هذه الجريمة التي ارتكبت في فيينا تحت سمع وبصر العالم المتقدم المتحضر الذي لا تغيب عن صواريخه وحكوماته وأجهزة مخابراته خافية، بينما استطاع هذا «الغول البشري» أن يخفي ابنته المؤودة المغتصبة 24 عاما عن أعين العالم والجيران والأهل والشرطة ومؤسسات الصحة العامة.. وأمها التي تسكن بيت الرعب ذاك، الشيء الذي يترك الآلاف من الأسئلة وإشارات التعجب والاستغراب!
لا أستطيع وأنا أعيش في الغرب إلا أن أشعر بالفضيحة المزدوجة والقرف والرعب والألم العميق وأنا أستمع إلى العشرات من الأطباء النفسانيين وإخصائيّ الجرائم والمتبحرين في علم الاجتماع يتخبطون وهم يفندون الحدث وانعكاساته ودلائله، لا أستطيع إلا أن أشعر بالغثيان لأنني أعرف أن التسيب الجنسي بلغ أبعد حدوده في الغرب، ويكفي أن يتودد أحدهم إلى بعضهن -أو بعضهم- بالدعوة إلى مجرد فنجان قهوة حتى تصحبه إلى حيث شاء. والدعارة في أوروبا مهنة معترف بها، تُمنح التأمينات الاجتماعية لمن يمارسنها -ويمارسونها- ومثل هذا شمل الشاذين والشاذات الذين صدرت القوانين بالموافقة على الزواج فيما بينهم، بل والسماح لهم بتبني الأطفال! كيف يمكن في مجتمع يفتح أبواب إرواء الشهوات على مصراعيها أن تظهر فيه مثل هذه الجرائم المغرقة في السادية والشذوذ والجريمة والحيوانية؟! إنه الفشل الذريع في إيجاد الحلول الخطأ للتصور الخطأ للمشكلات.
أما في بلادنا فعلى العكس من ذلك: كبت للرغبة الجنسية، وحرمان النساء والرجال من حقهم الطبيعي في الحياة السوية بعد أن أصبح الزواج طقسا اجتماعيا إعجازيا، مع التأجيج المستمر للشهوات وسقوط الناس في فخ التقاليد باعتبارها دينا والدين منها براء، كل هذا في بلادنا تسبب في ظهور هذه الفقاعات الخبيثة القذرة.
إن الإفرازات الشاذة للظواهر الجنسية الشبيهة بهذه القصة المرعبة في الشرق أو في الغرب ليست إلا التعبير الطبيعي لابتعاد الناس جملة وتفصيلا عن حقيقة الدين وأخلاقه وتعاليمه، والحلول الطبيعية التي يقدمها للمشكلات الطبيعية المطروحة على ساحة النفس البشرية.
الباحث في الإنترنت يجد العجب العجاب عن مثل هذه القصص التي تلوث أسماعنا والبراءة والطهر في نفوسنا، ولكنها تدلنا قطعا على أن العالم الذي نعيش فيه يعاني من مرض عضال، وتجعل من وجودنا فيه أمرا مؤلما.
إنها صور مختلفة لمرض واحد يتمثل في الإفراط أو التفريط، لعالم لا يريد أن يعترف أن النفس البشرية لا ترتوي قط إلا بمعرفة الحق والحقيقة، ولا تعيش في سلام مع نفسها ومع المجتمع إلا إذا عرفت طريق القيم والأخلاق. إنها معادلات لا تخطيء، عرفها أولئك الذين كتبوا عن ذلك الذئب قبل 500 عام، كما يعرفها اليوم كل من قرأ عن هذه الحكاية الفظيعة، عن فيينا وغول فيينا الذي ألغى في أقل من 24 ساعة كل ما كانت تمثله فيينا في أذهاننا من مدنية وتقدم ورقي.