جوانب مضيئة في حياة الحجاج
د. نعيم محمد عبد الغني
تقترن شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي (41-95هـ) دوما بالظلم والبطش والطغيان، حتى عد اسم الحجاج رمزا على ذلك الظلم، وآية عليه، وفي هذا المقال أحاول أن أنظر إلى الجوانب المضيئة في حياة الرجل؛ فإن ظلمه المشهور ينبغي أن لا يطمس حقه المغمور في الجوانب المضيئة التي انتفع بها المسلمون إلى يومنا هذا.
وهذه الجوانب المضيئة كشف عنها المؤرخون الذين يحكمون على الأشخاص بإنصاف، وموضوعية، ومنهم ابن كثير الذي يقول: "إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن؛ فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم".
وحينما نذكر الجوانب المضيئة في حياة الحجاج نركز على بعض النقاط الشخصية فيه، والخدمات التي أسداها للإسلام والمسلمين، فنذكر أن من الملامح الجيدة في شخصية الحجاج، أنه كان فصيحا بليغا، فقيها، له قدرة على الإقناع، وكان به خوف من الله سبحانه وتعالى، وكان يختم القرآن في أربعة أيام، ومن المأثورات في صفاته فصاحته ورجاحة عقله ما قاله أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أحداً أفصح من الحسن ومن الحجاج. فقيل: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. قال عتبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.
ويروى أن الحجاج قد خطب بعد مقتل الزبير مبررا فعلته بقوله: "يا أهل مكة، بلغني إكثاركم واستفظاعكم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانعا للعصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته وأباحه كرامته وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة. اذكروا الله يذكركم".
وأما الجوانب التي أفادت المسلمين بصفة عامة فمنها:
أولا: نقط المصحف ووضع علامات الإعراب عليه، وتقسمته لأجزاء وإلزام الناس بمصحف عثمان ونسخ المصحف وتوزيعه في الأمصار، وقد كلف بهذه المهمة نصر بن عاصم.
ثانيا: تعريب الدواوين والإصلاح النقدي للعملة وهي من مظاهر سيادة الدولة وتفوقها الحضاري، وقام بإصلاح أحوال الزراعة ومن يقومون عليها، فشق الترع والأنهار والأدوات اللازمة لهذه الحرفة.
ثالثا: الاهتمام بالإصلاحات المدنية التي تشمل الصحة والإدارة وغيرها من شئون المجتمع، فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.
ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، وشرع في بنائها سنة (83هـ = 702م)، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرا لحكمه، ومات بها وتوفي الحجاج في (21 من رمضان 95هـ = 9 من يونيو 714م).
وبعد فهذه بعض الجوانب المضيئة في حياة الحجاج بن يوسف الثقفي التي يذكرها التاريخ على استحياء، فالتاريخ يدون في الغالب ما اشتهرت به الشخصية من حسنات وسيئات، فإذا كثرت السيئات، أظهرها جلية أمام الناس، وهذه حكمة الله في أن يبشع صورة الظلم في أعين الناس، حتى يبتعد الناس عنه خوفا من لعنات التاريخ، ومن قبل غضب الله تعالى، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".