محمد رسول الإنسانية والحرية
محمد صلى الله عليه وسلم
رسول الإنسانية والحرية
كاظم السباعي
ماذا فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى أصبح عظيماً بهذه الدرجة...
ماذا صنع محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان في تلك الفترة من حياته... حتى نجد أن البشرية كلما يُبرز فيها عُظماء عباقرة ومفكرون، شخصيات تحولوا إلى أقزام بين يدي ذلك العملاق...!
حتى يقول فيه البروفسور (ستوبارت): "إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يُقارب شخصية محمد! ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية، وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسماً منيراً كإسم النبي العربي، الذي قدمه للبشرية سابقاً...!"
وهل لا زالت أمتنا تتمكن من أن تستفيد من هذا الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إذا عرفنا أن الشيء الذي قدّمه الرسول للإنسانية هو إتيانه بدين جديد شأنه شأن سائر الأديان التي جاء بها الأنبياء قبله، مثل موسى وعيسى...!
فإنه في هذه الحال يبقى سؤال أنه لماذا أصبح إذن محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين وخاتم الأنبياء...؟
ما هي هذه الميزة الموجودة في خاتم الأنبياء التي لا توجد في غيره ممن سبقه...؟
وإذا اعتبرنا محمداً صلى الله عليه وسلم كأي مُصلح آخر جاء إلى شعبه وأنقذهم من التخلّف والإنحطاط والحرمان، وأوجد لهم حياة حرة ينعم فيها الناس بالرضا والمحبة والوئام؛ فإذن يجب أن يكون شأنه في هذه الحال شأن سائر المصلحين الاجتماعيين وهو أن يأتي فترة ويحكم ويحتل صفحات معينة من التأريخ ثم يمر عليه زمن وتُطوى تلك الصفحات، ويُنسى ذلك المصلح، ويخرج من ذاكرة الزمن والأجيال الجديدة، إلا اللهمَّ مَن كان همهم هو دراسة التأريخ ورجاله، ومَن أراد أن يُراجع أوراق التاريخ الصفراء، ويقرأ سطورها المنسية فيعثر على اسم رجل كان في فترة كذا وعمل كذا...
إذن ما الداعي إلى أن يعيش محمد صلى الله عليه وسلم في حياة الناس اليومية... ويُعاصر الزمن ويبقى الناس يُرددون اسمه كل يوم!!؟؟
وهل يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم أن يدخل في حياة الإنسان اليومية إلى هذه الدرجة حيث يُصاح بإسمه كل يوم عشرات المرات... ويُذكر ويُصلى عليه؟
وماذا فعله محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظل إلى هذه الفترة يعيش مع الأجيال المتجددة، ويحتفلون كل سنة بمولوده، ومعراجه وهجرته... وحروبه وغزواته!!؟؟
واليوم حيث يطل القرن الخامس عشر على هجرته فتتحول الدنيا إلى مهرجانٍ كبيرٍ احتفالاً بهذه المناسبة، نحن نعرف بأن أشخاصاً عظماء زاروا الحياة فترة، وعملوا ما عملوا وأنجزوا أعمالاً ضخمة، لكنهم نتيجة قِدم الزمن، ومرور الأيام والعصور تحولوا إلى فُسيفساء جميلة تُزين جدار التاريخ، وتحولوا إلى مواد أثرية... أو أساطير مدونة في الكتب التاريخية! مثل الإسكندر المقدوني المعروف بذي القرنين... أو سقراط وأفلاطون ونابليون وغاليلو وكوبرنيكوس ونيوتن وأديسون وإينشتاين وغيرهم من العلماء والمخترعين والملوك والفاتحين. إلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم الوحيد الذي يُشارك الناس في حياتهم اليومية، ويحوز هذا الذكر الخالد، والمعاصرة اليومية لحياة المجتمعات الحديثة.
إنه جزء محسوس من حياة المسلم العادية... فتراه يُصبح على ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ويُمسي على ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ويلهج على ذكر محمد صلى الله عليه وسلم .
إنه الإنسان الوحيد الذي يعيش في كل زمان وفي كل مكان، لا تخلو أرض من ذكره ولا تخلو لحظة واحدة عمن تلهج شفتاه بإسمه المبارك، هل هناك سرٌّ...؟ وهل أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا زال حيّاً بفعل الأمر الذي صنعه للحياة، وبفضل الشيء الذي قدّمه للإنسان؟ ويا ترى ما هو؟ وماذا عمل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى يستحق كل هذا المجد والخلود؟ وماذا قدم، ولا زال، لأفراد البشرية... حتى يتطلب من الإنسان أن يذكره كل يوم ويستحضر شخصيته في عبادته وتوجهه لاستقبال كل يوم جديد؟
الجواب:
نحن الآن في عصر الصاروخ والكهرباء... وفي عصر "العقول الإلكترونية" والنظريات العلمية الحديثة. أي أن الإنسان سدّ حاجاته المادية تقريباً، واكتفى من الناحية التكنولوجية والآليات المكانيكية. ويعيش من ناحية الوسائل وطُرق الرفاه والمواصلات الحديثة في أرقى المستويات.
ولكن هذه الوسائل والتقنية لبّت حاجات الإنسان الجسدية فقط! أما الحاجات النفسية والروحية فلا زالت بحاجة إلى إشباع، ولم تتمكن "الحضارة" الحديثة بما أوتيت من وسائل وقوة أن تسدّ هذه الحاجات. فالحضارة المادية المعاصرة أوصلت الإنسان إلى حافة الدمار... لأنها لا تحمل في طياتها المضمون الإنساني... والهدف الحقيقي... للكائن الحي، (((ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم))).
إن أعظم مهمة في رسالة النبي هي: تحرير الإنسان... تحرير الإنسان من القيود التي تُبعده عن الحق، تحرير الإنسان من الأغلال النفسية (الجبت) والأغلال الاجتماعية والسياسية (الطاغوت). فشرط الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم : أولاً الكفر بالجبت والطاغوت... أي رفض القيود والأغلال، وإزالة الأنظمة الجائرة، ومكافحة الطغاة من الخارج بعد تحرير النفس من أغلال الخوف والجُبن والكِبر والشهوات في داخل النفس.
إن أعظم ما قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصنعه وقدّمه للحياة والإنسانية: هو أنه كسر عن الإنسان تلك القيود التي كانت تُكبّل عقله ونفسه، يديه ورجليه، وتمنعه من الانطلاق بحرية في الحياة من أجل تأمين سعادته واستقلاله وكرامته؛ لقد كانت القيود والأغلال النفسية والخارجية تُكبل حياة الإنسان كثيرة... ورهيبة... وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ، برسالة الحرية، وكسر تلك القيود الواحد بعد الآخر.
أول قيد وأعظم غلٍّ كان يطوق رقبة الإنسان في ذلك العصر:
الجهل والتقليد الأعمى.
أغلال الخرافة والتقاليد الجاهلية.
لقد كان الجهل سائداً في ذلك المجتمع الجاهلي... وكان ظلاماً مسيطراً على تفكير الناس... وكان هذا الجهل سبباً لكل الآلام والمشاكل والجرائم التي يُعاني منها الإنسان في ذلك العصر. وكان الإنسان يرضى بذلك الواقع الفاسد والوضع المتردي لأنه كان يجهل طريق السعادة والصلاح في الحياة.
وكان الإنسان يرضى بأن يُسيطر عليه حفنة من المرابين والتجار... تحت غطاء الأصنام والأوثان المقدّسة... فكان هؤلاء المُضللون والدجالون يلعبون بعقله، ويستنزفون جهوده، ويسترقونه، ويُبقونه عبداً خاضعاً لهم... لقد كان أغلب الناس في مكة يعيشون عبيداً تحت سيطرة مجموعة من السادة، والأغنياء المستكبرين... وهؤلاء يُلهبون ظهور أولئك العبيد بالسياط، ويحملون على ظهورهم الأثقال وهم يئنّون تحتها ولا يستطيعون أن يتنفسوا في الهواء الطلق أو يستنشقوا نسمة الحرية.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع نصفه عبيد ونصفه سادة مترفون ومستكبرون... يستعبدون الناس الضعفاء بالقوّة، ويسرقون جهود ونتاج عملهم، ويستنزفون أقصى طاقاتهم، ويُلقون لهم بفتات موائدهم التي يأكلوها ممزوجة بالذل والهوان.
وبعدما جاء النبي، ودعاهم إلى دين التوحيد، ورسالة الحرية كانت أول كلمة في رسالة النبي هي كلمة: (إقرأ) وهي كلمة العلم والمعرفة... (((إقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم))).
كلمات تتحدث عن العلم والقراءة والقلم وتشرح معلومات عن طريقة خلق الإنسان؛ علم التشريح والفسلجة... إنها رسالة العلم ضد الجهل والخرافة... في هذا المجتمع الأُمي الجاهلي حيث كان الأشخاص الذين يعرفون فيه القراءة والكتابة لا يتجاوزون عدد الأصابع. وإذا بالرسالة التي تقرع سمعهم تتحدث عن القراءة والكتابة، وعن القلم أداة التثقيف والتعليم!! (((ن، والقلم وما يسطرون)))؛ القلم والفكر.
وفي ذلك المجتمع يأتي النبي بحقائق علمية ويصدمهم بها... حينما كانوا لا يفقهون شيئاً عنها... تلك الحقائق العلمية التي ذكرها النبي والقرآن، جاء العلم الحديث ليتوصل إلى بعضها اليوم ويكتشف بعض أسرارها.
حتى لكأن وعد القرآن بذلك منذ أول يوم حين قال: (((سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا إنه الحق))).
إن رسالة تتحدث عن العلم، والثقافة جاءت لتكسر قيود الجهل والخرافة والتقليد عن عقل الإنسان وتفكيره، ألم يعترف أولئك الذين رفضوا قبول دعوة النبي، وأتباع رسالته بهذه القيود التي تمنعهم من الإيمان برسالته، والقبول بدعوته.
اعترفوا بأن الذي يمنعهم عن قبولهم هو جهلهم بما يقول: (((وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون))).
فعقولهم الغارقة في الجهل والظلام لا تفقه قوله، وآذانهم المثقلة بأحاديث الخرافة والأفكار الجاهلية... تجعل بينهم وبين فهم دعوة النبي وفهم أهدافها هذا الحجاب السميك.
كما إنهم كانوا يُبرروا بالتقليد الأعمى للآباء، والتعصب لدينهم: (((إنا وجدنا آباءنا على ملة، وإنا على آثارهم مهتدون))). (((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَ لو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))).
وحقاً كانت رسالة النبي رسالة العلم والنور.
فإن أولئك الذين اتبعوا تلك الرسالة، والتفوا حول دعوة النبي، وهم الفقراء والعبيد والمستضعفون الذين وجدوا في دعوته الخلاص، والمفتاح لباب الحرية والكرامة والهدى. حرر النبي الإنسان من قيود الجهل والظلم والظلام، وحطّم مقاييس التفرقة العنصرية والتمييز الطبقي بين أبناء المجتمع، وأعطى الإنسان شعوراً بالكرامة والسيادة والثقة بنفسه، والمساواة مع أبناء جنسه...
"لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى."
وأصبح المسلمون حملة رسالة العدل والأخوة والمساواة إلى الشعوب الرازحة تحت نير الطغاة، والمستعبدين والواقعة تحت وطأة الظلم والتمييز الطبقي... وهكذا حرر الإسلام شعوب العالم... عندما حرر الفرد وأشعره بقيمته الإنسانية... وحرره من سيطرة الأسياد والمستكبرين... والمتحكمين في مصيره...
الإسلام جعل الإنسان حراً في اختياره، وتقرير مصيره بنفسه؛ فقد وضع الإسلام مقياساً واحداً للحكم والرجوع إليه... وهو العقل والمنطق... فالعقل وحدة مقياس للحق والعقيدة... وإذا تحرر العقل من سيطرة الجهل والشهوات والتضليل والآراء... فإنه يُبصر النور، ويهدي الإنسان إلى السعادة.
إن القيود المفروضة على عقل الإنسان والتي تمنعه من التفكير الحر والصائب هي:
1 قيد الجهل والشهوات والأهواء النفسية.
2 قيد التقليد الأعمى واتباع الآباء والأجداد.
3 قيد المضللين وأصحاب الأغراض والمصالح المتحكمين في المجتمع؛ وهؤلاء يُشكلون الطاغوت في اصطلاح القرآن.
والطاغوت الذي أمرنا القرآن بالكفر به، وعدم الخضوع له يظهر في ثلاثة وجوه، أو يعتمد على ثلاثة أركان هي:
آ القوّة.
ب المال.
ج الإعلام.
ويُمثلهم في التاريخ فرعون رمز التسلط والطغيان السياسي، وقارون رمز الاستثمار والطغيان الاقتصادي، وبلعم بن باعورا رمز التضليل الإعلامي واستغلال ستار الدين من قِبل الرجعية.
فهؤلاء كلهم وقفوا في صف واحد ضد النبي موسى ورسالته التحررية. وحينما جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم ووجد هذه الفئات المتحكّمة في المجتمع ثار في وجه هذه الفئات... وكسر قيودها المسيطرة على الناس حينئذ. فثار ضدّ الأصنام وسدنتها الذين كانوا يُسيطرون على عقل الإنسان وشعوره، ويبتزون طاقاته عن طريق تقديس الأصنام وعبادتها في الكعبة. لقد كان تجّار قريش يستغلون الدين والعبادة المقدّسة عند الكعبة للتجارة والمصالح، فكانوا يستغّلون السُذّج والبسطاء، ويُضلّلونهم ويملأون عقولهم بالخرافات والجهل. وكانت سدانة البيت بيد تجّار مكّة وأثرياءها. وكانت المصالح تتركّز في يد طبقة من البرجوازيين والأثرياء أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف ورؤساء القبائل... وهم يُسيطرون على كل شيء، ويتحكّمون بكل شيء، ويستغلّون كل شيء من أجل مصالحهم المادية.
فكان الإنسان يعيش تحت سيطرة هذه الطبقة الأرستقراطية، ولا يملك حريّة التفكير والتعرّف، والخروج على هذه المعتقدات، والأفكار التي ينشرونها... وهي:
عبادة الأصنام والأوثان، وتقديم القرابين والنذور لها، فكانت واردات هذه الأصنام تصب في جيوب أولئك الأغنياء والمستغلين.
بالإضافة إلى مظاهر الميوعة والتحلل والفساد الخُلقي التي كانت منتشرة في ذلك الجو الموبوء... وهي التي كانت تستهوي شباب مكّة، والعرب فكانت تجلبهم إلى سوق عكاظ... لإقتراف المجون والتحلّل، في سائر المراكز والمحلات...
فكان ينظر النبي إلى هذه المظاهر بعين الاشمئزاز والتقزز، وكان يدعوه هذا المحيط الموبوء، والبيئة الفاسدة، بل وتلجئه إلى الهروب من مكّة، واللجوء إلى جبالها وشعابها المقفرة، والاختلاء بنفسه، والتفكير، والانقطاع، والتبتل في غار حراء على بعد ثمانية أميال من مكّة في وسط جبل خشن سُمي فيما بعد بجبل النور.