من أساليب التربية النبوية 19
من أساليب التربية النبوية
السؤال
(19)
د.عثمان قدري مكانسي
يدخل أحدنا على أهله أو أصحابه ، وكان قد رأى لتوه حادثاً في الشارع ، فيسألهم : أتدرون ماذا رأيت قبل قليل ؟
فهل هو في سؤاله هذا يريد إجابتهم ؟ إنه لا يريد ذلك ، فهو متأكد أنهم لم يروا شيئاً .
فلماذا يسألهم إذاً إذن ؟
إنه يريد أن يحوز اهتمامهم ، ويستجمع انتباههم ، فلا يفوتهم شيء من الحديث يبدؤه.
هذه الطريقة في تجميع الذهن وتهيئة النفس للاستقبال نجدها كثيراً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
- فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : يا معاذ ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ وما حق العباد على الله ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله : أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً .
قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس ؟
قال : لا تبشرهم فيتوكلوا(1) .
- وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً ( أي طرح هذا السؤال ثلاث مرات ليعلنوا عن رغبتهم في ذلك ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بينهم فليغتنموا الفرصة وليتعلموا ) .
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، ( وجلس وكان متكئاً ) ألا وقول الزور ( وما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت ) (2) .
- وعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : صلى بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في الحديبية على أثر سماء(3) كانت من الليل .
فلما انصرفَ ( انتهى من صلاته ) أقبل على الناس ( طارحاً سؤالاً لينتبهوا )
قال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر : (4)
فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال : مُطرنا بنوء(5) كذا وكذا فذلك كافر بي ، مؤمن بالكواكب(6) .
لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمق إيمان المسلمين بربهم ، وأن يوجهه الوجهة الصحيحة ، فيسند الأمر كله لله ، وكان المعنى كله مجموعاً في الجملتين الأخيرتين ، ولكنه صلى الله عليه وسلم سألهم ليستجمعوا شتات أفكارهم ، ولينصتوا إليه صلى الله عليه وسلم حتى لا تضيع كلمة واحدة مما يقول ، فلما أجابوه مسلمين إلى الله ورسوله أمور الغيب ، ذكر ما ذكر ، ليعلموا أنه ما مِنْ حركة ولا سكنة إلا بأمر الله سبحانه وتعالى .
- وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف المؤمن فيأتم به الناس ، وأن يصف الشرير فيبتعدوا عن محاكاته ، فجاءهم بصيغة السؤال :
فعن أسماء بنت يزيد قالت :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخياركم ؟
قالوا : بلى .
قال : الذين إذا رُؤوا ذكر الله .
أفلا أخبركم بشراركم ؟
قالوا : بلى .
قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العنت (7) .
إن رؤية المؤمن الخيّر والنور يطفح من وجهه ، والإيمان يزيده بهاء ، تذكر بالله سبحانه ، وإن رؤية الفاسد الشرير ، النمام المفسد المؤذي ، تجعل الناس يستعيذون من شره ، فوجهه أسود ، وعيناه عينا شيطان .
- وقد يكون السؤال حقيقياً يقصد به النبي صلى الله عليه وسلم مشاركة أصحابه له في الفكرة ، أو شحذ أفكارهم لتكون أكثر استعداداً لتلقي المعاني التي يوردها النبي صلى الله عليه وسلم .
فعن ابن عمر رضي الله عليهما قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروني بشجرة مِثْلِ المسلم ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، لا تحتُّ ورقها ؟
فوقع في نفسي النخلة ، فكرهت أن أتكلم ، وثمَّ ( هنالك ) أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يتكلما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هي النخلة .
فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتِ ، وقع في نفسي النخلة .
قال : ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي ّ من كذا وكذا .
قال ( عبد الله ) : ما منعني إلا أنّي لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما ، فكرهت(8) .
- ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصبح اليوم منكم صائماً ؟
قال أبو بكر : أنا .
قال : من عاد منكم اليوم مريضاً ؟
قال أبو بكر : أنا .
قال : من أطعم اليوم مسكيناً ؟
قال أبو بكر : أنا .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعت هذه الخصالُ في رجل في يوم إلا دخل الجنة(9) .
فقد لاحظنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح صفات المؤمن التي تؤهله دخول الجنة بطريقة السؤال ، ليقارن السامع نفسه بما فعل الآخرون ، فيشجع على منافستهم .
إن السؤال أسلوب من أساليب التربية التي تشد انتباه السامع ويدعوه إلى التفكر والتدبّر واستكناه الفكرة بقدح زناد التفكير والمشاركة .
(1) متفق عليه.
(2) ليته سكت : كناية عن أن الخوف من نتائج قول الزور مَلَكَ قلب أبي بكرة . والحديث من الأدب المفرد رقم / 15 / .
(3) على أثر سماء : أي بعد نزول الغيث .
(4) الناس قسمان : مؤمن بالله وكافر به .
(5) نوء النجوم : قيل : سقوطها ، وقيل : طلوعها ونهوضها .
(6) رواه مسلم .
(7) الأدب المفرد الحديث / 223 / .
(8) الأدب المفرد الحديث / 360 / .
(9) الأدب المفرد الحديث / 515 / .