الرجل الذي دفع نزار قباني للاستقالة

شمس الدين العجلاني

أوراق الزمن المجهول

(قل لي بالله عليك يا سيدي, ما الذي تفعله وراء هذا المكتب؟)

(4)

شمس الدين العجلاني*

[email protected]

... في داخله صراع بين نزار الشاعر ونزار الموظف (الدبلوماسي) فالشاعر حر والموظف قيد الأنظمة والقوانين وسبق للشاعر الدبلوماسي أن تعرض للمضايقات في مجلس النواب السوري, وكاد أن يطرد من السلك الدبلوماسي ..؟!

بقي الشاعر والموظف يتصارعان .. إلى أن جاءه في عام 1954 مواطناَ مغربيا فجر ما بداخله , وكانت الحادثة التالية أهم الأسباب التي دفعت الشاعر فيما بعد لتقديم استقالته من السلك الدبلوماسي وليتربع على عرش الشعر, يقول نزار قباني في أوراقه المجهولة :

لا تزال صورته واضحة التقاطيع, ولا يزال صوته القوي يهدر في مسمعي, بعد مرور أربعين عاما على لقائي الدراماتيكي معه ..

بطل القصة مواطن مغربي لا أتذكر اسمه, جاء عام 1954 إلى دار القنصلية السورية في لندن في شارع Kensington palacc Gardens  حيث كنت أدير الشؤون القنصلية, وطلب من السكرتيرة مقابلتي .

سألت السكرتيرة, إذا كان الأمر يتعلق بأي شأن من الشؤون القنصلية, أو بتأشيرة دخول متأخرة .

أجابتني السكرتيرة, أن الرجل قد حصل على تأشيرته, وأنك وقعت على التأشيرة, وانتهى الموضوع .

 ولكنه عندما رأى اسمك وتوقيعك على جواز سفره, سألني إذا كان القنصل الذي وقع على التأشيرة, هو نزار قباني الشاعر ... أم أنه شخص آخر ؟؟..

وعندما أجبته أن الشاعر والقنصل هما شخص واحد .. ظهرت الدهشة على وجهه,   والتمعت عيناه .. وطلب مقابلتك .. قلت للسكرتيرة : حسنا .. قولي له أن يتفضل ..

وانفتح الباب, ودخل منه رجل أسمر الملامح, نحيل القامة, يحمل معه كتبا وجرائد, وتوحي هيئته الخارجية بأنه أحد الطلبة المغاربة الذين يدرسون في انكلترا .

نهضت لاستقبال الزائر, مبتسما, وطلبت منه أن يجلس ويشاركني القهوة, ولكنه امتنع عن الجلوس, وبقي مزروعا في منتصف الغرفة, وفي عينيه شهوة واضحة للقتال والتحدي .

ظللت صامتا ومبتسما, حتى خرج الرجل عن صمته, وقال بلهجة يغلب عليها الانكسار والتوتر الداخلي :

..( يا سيدي الشاعر, ولا أقول يا سعادة القنصل, لأن كل الألقاب الأخرى المضافة إلى اسمك كشاعر , لا تهمني .

قل لي بالله عليك يا سيدي, ما الذي تفعله وراء هذا المكتب ؟ هل مهمتك أن تنظر في جوازات السفر, وتدقق في أسماء طالبي التأشيرات, وتلصق الطوابع عليها .. وتمهرها بتوقيعك الشريف ؟؟

لا يا سيدي, هذا عمل يمكن أن يقوم به أي موظف من العصر العثماني, أو أي كاتب عرضحالات ... 

أما أنت, فشاعرنا, وصوت ضميرنا, والناطق الرسمي باسم أحلامنا, وأفراحنا, وأحزاننا, وهمومنا العاطفية والقومية .

أتوسل إليك, يا سيدي, باسم الأجيال العربية التي قرأتك, وأحبتك, وتعلمت على يديك أبجدية الحب والثورة ..

أتوسل إليك باسم جميع الأنبياء والرسل, وجميع الشعراء الذين استشهدوا من أجل كلمة جميلة, أن تترك هذا المكان فورا .. وتبقى عصفورا يوقظ الشعوب من غيبوبتها, ويغني للحرية والإنسان من المحيط إلى الخليج ..) .

و يتابع نزار قباني بالقول : (... وخرج الرجل من مكتبي دون كلمة وداع .. وغادر دار القنصلية كالبرق تاركا وراءه كلماته الغاضبة, تشتعل كالحرائق الصغيرة في رأسي, وفي ثيابي, وفي أوراق مكتبي ...

والحقيقة أن الرجل ذهب .. ولم يذهب ..

لأن كلماته ظلت تطاردني اثني عشر عاما, أي من عام 1954 حتى عام 1966 , حتى ظهر لي مرة ثانية وهو يلوح لي بمنديله, وأنا على ظهر السفينة في ميناء برشلونة, منتظرا رحيل الباخرة إلى بيروت .

كان واقفا على رصيف المرفأ, والدمع يملأ عينيه, وعلامات الانتصار واضحة على وجهه ..

وعندما بدأت الباخرة تبتعد عن الرصيف, وصلتني أصداء كلماته وهو يقول : شكرا لك أيها الشاعر ...

شكرا لأنك اخترت الشعر !!.. )

 

و يضيف الشاعر : ( في عام 1996 أي بعد مرور أربعين عاما على هذه القصة المثيرة, أجلس في منزلي في حي نايتس بريدج في لندن, وليس عندي من الالتزامات سوى التزامين أساسيين : التزامي نحو الشعر, والتزامي نحو الحرية .

فهل كان الرجل المغربي يدري أن كلماته الرسولية قد غيرت مسار حياتي, وأن الشرارة التي أشعلها في عقلي, أضاءت طريقي, وأوصلتني إلى مرفأ الشعر !!.

وأنني لأتساءل اليوم, هل كان هذا الرجل مجرد سائح يطلب تأشيرة دخول من قنصلية عربية, أم أنه كان رسولا هبط من كوكب آخر لينير بصيرتي, ويفتح عيني, ويدلني على الصراط المستقيم ؟ إنني لا أشك في أن السماء لعبت دورها في رسم مصيري .. وإنهاء حالة الازدواجية التي كنت أعيشها بين الدبلوماسية والشعر.. بين أقنعتي .. وبين وجهي الحقيقي

ومن المؤسف أن لعبة الدبلوماسية استغرقتني عشرين سنة, حتى جاء الرجل المغربي فألقى عصاه... التي ابتلعت كل ملابسي الرسمية, وقمصاني المنشاة, وأحذيتي اللماعة, وربطات عنقي السوداء في لحظة واحدة .

هذا الرجل أدين له بحريتي .. وبإعتاق رقبتي من السيف الحكومي الذي يصبح مع الزمن جزءا من الرقبة ..

أدين له بإنهاء حالة الفصام التي كنت أعيشها بين خطابين ... ولغتين .. وسلوكين .. قناعين .. وعالمين متناقضين .

أدين له لأنه أخرجني من جحيم الاستقبالات, والكوكتيلات, والصالونات التي تختنق برائحة السيجار الكوبي, والثرثرة, والاستعراضية, إلى فضاءات مفتوحة على المستحيل .

وأخيرا أدين له لأنه حررني من كل السلطات الأبوية, والسياسية, والقبلية, والعشائرية, والجاهلية ..

وأرجعني إلى رحم القصيدة . )

يتبع

              

* صحفي وكاتب