ماراثون الهاوية
رياض الأسدي
بارع أنت في الجثو على ركبتيك، كصورة طفلة في الرابعة معلقة على جدار بيت طيني متهاو في أقصى منطقة (الرميثة) رافعة يديها للسماء مع كلمة بيضاء: يا رب!. لكنك تصهل من حين لآخر: حصان حجري بوجه بشري. تتحمل ما لا يطاق أحيانا. غريب. تبكي بحرقة دون أن يلحظ ذلك احد من المارة الخاكيين قبالتك. ثم تصهل أحيانا بصوت شبه مسموع ولا يسمعك احد. لا يسأل أحد عن أحد هنا، مادام الجميع في صفّ واحد متراص يمينا؟ الجميع ذاهبون إلى هاوية. وكلهم يعرفون ذلك. المحطة قصفت قبل يومين. وقد تنقل إلى مكان أبعد خارج المدينة حيث تمتد الصحراء بلا نهاية. أبكِ من اجل انتقال المحطة أيضا؛ فها أنت تباشر أشياء لا معنى لها مذ لبست الخاكي والتحقت في القاطع الجنوبي الجهنم هذا. لا احد يعرف على وجه الضبط ما الذي سيحدث في اللحظة القادمة.
بليد أنت، حقيقة، ومتغابٍ؛ كأنما يسرق العالم اعز ما تملك في لحظة واحدة وأنت تحدق مشدوها. طرن. ساكت. تنظر بعينيك الصغيرتين اللتين خصصتهما لرؤية ما بعد الصحراء، "زوووووج"! من نوع خاص؛ لا تدرك تفاصيل الأمكنة جيدا؛ تلك حالة ورثتها عن سلالة بلهاء تحدرت منها. سعيد بما ترى عن قرب.. وفي وحدتك العسكرية عملت موزع "قصعة". خائب. خرجت توا من جلد كتاب عباسي قديم كتب بماء الزعفران ولا عنوان له- ربما غاب عنوانه أثناء سلاسل الحروب التي مرت أو تلك التي لم تمرّ بعد- تصعب قراءة ذلك الكتاب كثيرا كما هو الجنوب الدخاني هذا.
نسيت القراءة تماما. لم تعد مهمة على أية حال في المواضع المتقدمة حيث يكون الموت كتابا مفتوحا للجميع. ماذا يعني أن يقرأ أو يكتب احدنا وسط القنص ورمي قذائف الهونات؟ طزززز! وعندما سئلت في الجيش عن تحصيلك العلمي قلت: أمّي! لم يشكّ احد في أميتك أبدا، بعد أن تلفعت بالصمت والبلادة والاستغراق في التأمل.. هذا الجنوب المشحون ببالوعات الأجساد يعلّم الكثير.
خلعت بسطالك في حديقة المحطة، وتوجهت إلى القبلة. الله اكبر.. صليت بصوت مسموع على غير العادة. جنود "الاستخبارات" العسكرية يكرهون هذه الطريقة في الذكر. في الأقل، كنت قريبا من روحك أكثر من أي وقت مضى. ثمّ بكيت قليلا من اجل نفسك والشفط الذي يواجهك، ومما رأيت في الجبهة في الأسابيع الأخيرة؛ ومن اجل أولئك الجنود الذين عرفتهم سريعا ثم غادروك بلمح البصر. لم يكن موتا، كانت بالوعة سماوية لأصدقائك الجنود قبالة خط البراميل، شرق البصرة الأولى، وشرق البصرة الثانية، وشرق الشرق المشقوق ثالثة؛ مثلما هي للجنود الإيرانيين أيضا. غابوا جميعا وسط الألغام. من أخترع الحرب؟ كنت حزينا أيضا من اجلهم ومن اجل أمهاتهم في إيران، حزنا لم تجربه من قبل. لم يكن حزنا بهذا المعنى أبدا: كان شيئا (ما) متحركا في الجوف مثل طفل بشهرين..تسير به ويسير بك في آن.
صليت بحرقة كبيرة هذه المرة، كأنك تخطب في تظاهرة، وكأنك لم تصلّ منذ ألف عام. اللهم صلّ على محمد وآل محمد. ثمّ جثوت على ركبتيك طالبا التحول إلى الخالق في أقرب فرصة، وبلا ألم، وبلا ضياع للأعضاء؛ كنت تريد المغادرة بكامل أعضائك من اجل وضع حدّ لما يحيط بك من بلاهة. البلاهة سلوك عام. هنا. مصنّعة من لاشيء غالبا. أنت. سواد في سواد. فراغ يتسع بعد كلّ إجازة دورية, ينمو كشجرة مبهمة تتفرع أغصانها إلى الروح؛فراغ ما قبل الأشياء وفراغ بعد الأشياء. لعبة. ولا شيء أسمه الواقع. ويصطرع سؤال دائم في رأسك : شهداء الحروب البونية! لماذا البونية؟ لا تدري هكذا قفزت الكلمة.
مدفوعا بقوة خفية إلى لاشيء. بله يقرب من العمى المطبق. لا يمكن إصدار أي صوت. ولا نأمة واحدة. الأصوات ممنوعة هنا. وكذلك الصراخ. للحديد الكلام وحده.. هكذا سمعت أخيرا من احدهم(*) صلب ومخيف مثل أصفاد في القدمين. مطيّن. ومرتبك المشي وضروري في الدفن. اكتب اسمك على كعب بسطالك. رائحة البسطال فواحة. قاتلة. لم تسبح منذ أسبوعين. وسخ تاريخي عمره ألف عام، ويزيد؛ ينمو على جلدك كنقرس. لا جلد لك. مملوك. عصر نخس. معارك الشروقات كلها من جديد. كذبات. وراء كذبات. غروبات. بس. كانت. خط البراميل النار. ذاك. شف. شووووووووف: ما أن يحمل منجله متلفعا بعباءة قرمزية؛ طيراني؛ حتى يشفط الجميع مرة واحدة ثم يغادر. شف. كانت الجريدة الحكومية التي اشتريتها من كشك المحطة لتستريح عليها تبعثرها ريح جنوبية شرقية رطبة هي بساطك الأرضي. يكره جنود الاستخبارات الجلوس على الجريدة. خفت. نهضت وجلست على الأرض. لم تقرأ حرفا واحدا منذ سقوط بغداد على يد المغول. الم تكتب انك أمي؟ وبكيت من لوعة الجوف لأول مرة. وحينما دقّ جرس القطار ركضت كالمبهور إلى أقرب عربة سياحي، لكن القطار كان أسرع منك هذه المرة ولم تستطع الاندساس بين الأجساد المغادرة إلى العاصمة ككل مرّة.
لهثت
توقفت
كأنما الأغلال السود في قدميك
والعربات تسير بسرعة
على غير عادتها
ها هو قطار الثامنة
يبتعد
هاوية
تراهم أمة جاثية على زجاج من وجوه سائرة، يتأملون من خلله الوقت المتبقي لهم. بارعون في النظر. مذهولون. جميعا. تقريبا. لحظتئذ: بدا كلّ شيء مشحونا بالوجوه البارعة الصنعة في التحرك وسط صناديق الحديد الهادر. أصوات سكة رتيبة ومتصاعدة كأنها طلقات مدفعية مجهولة. هول ذاهب. هول قادم. هول نائم. الوجوه: هي أول ما ظهر على سطح رغوة صابون السفر اللانهائي. ربما تكون وجوها مستنسخة، لكن رغم ذلك، لا يصعب تمييز الذكور من الإناث في خضم الرحلة الفارهة نحو العاصمة، ما عدا وجوه الجنود الكالحة المتعبة، المتشابهة؛ كأنما ولد الجنود من أم واحدة هنا.
ترقب الوجوه المكان الثابت دائما خارج العربات عند أول صوت هادر وزعيق مفاجئ للعربات. ولا شيء غير زعيق متواصل لكابحات الحديد. كانت السقائف البليدة الخاوية من الروح على الجانب الأيسر من المحطة تبدو مثل كائنات مقوضة هبطت من عل في ليلة ماطرة. أماكن تتنفس بصعوبة بالغة. السقائف الذاوية التي تبيع المرطبات والساندويتش شبه العفن. ورمقات سياجات الياسمين المملة. الرصيف الخاوي من الروح، وتلك العربات الهادرة في الأسفل. حركة ضخمة غير المرئية. كأن العالم ينتفخ ويتنفس بعمق في الأسفل. بفففف بفففف بفففف. لكنه يذوي تحت الهدير المتواصل للعجلات الحديد الدوارة. لا. ليس ثمة عالم؛ هو شيء آخر مختلف لا يمكن تحديده - أنا أكذب من جديد!- الله : وحده يعلم مدى ولعي بالنظر إلى أسفل، يعلم ماذا يعني النظر إلى أسفل، وما الأسفل؛ لذلك حاولت أن أعرف من خلال صلاتي. وحدها. بلا جدوى. ولكن لا احد معي في هذه الوهدة من السير.. عادة سر! ولك وحّد وحّد أبن الزمال! شنو أنت؟ من أين أنت؟؟ أهلك وين؟ ابن الأبنل..أمي!!
ربما لأني لست مؤمنا بما فيه الكفاية. سأحاول من جديد أن أكون أقرب إلى ما يجري للجميع. سأتكيف. حشر مع الناس. لكن. نهايتي أنا هي الأهم : وجوه شاحبة كأن مخلب وشق وحشي خربشها على حين غرة، ولم يلحظه احد. لا نهاية أبدا. خدعة أخرى. أيضا. في الحركة السريعة تتشابه العيون، والأنوف، والأفواه، والجلود كما البيريات الخاكية ليلا؛ حتى يبدو من الصعب تمييزها عن بعد. هكذا هي في كلّ ليلة منذ الساعة الثامنة وحتى انطلاق آخر قطار عند الساعة الثانية عشرة مساء. دوران دوائر سود وراء دوران... وراء.. كم هي واحدة سائرة في عالم مجهول. كم هي ساذجة. وكم هي بريئة!.غدا تصل، غدا تنال حصتها لما تبقى من الوقت. مرحى للوقت! مرحى لتكتكة الساعات الأكذوبات الكبرى. لا ليس ثمة وقت أبدا. إنه شيء آخر غير الذي ألفناه. الوقت أعرفه جيدا، لكن، هذا الشيء يشبه ألم الأمعاء الدائم: يندفعون نحونا ونندفع نحوهم ينحروننا وننحرهم، والدم إلى الركب: لماذا بحدث كلّ هذا الغياب يا ألهي؟!
عربات تمرّ ببطء، هذه المرة, على نحو مفاجئ. لكنك فقدت قدرتك تماما على القفز. في جميع الأيام السابقات كانت تتفلت مني أشياء أراها.. بالإمكان ملاحظة اكتظاظ الوجوه الكبير بالناس الذاهبين إلى العاصمة : ثمة جنود كثر في العربات قادمين من جبهات الجنوب. مطينون. مغبرون. مثلك. كأنما خرجوا توا من (دوغة) طابوق. غربة عميقة تكمن في الحركة دائما: القادمون والمغادرون، الذاهبون بعيدا، والآتون، الفرحون الذين تفلتوا هذه المرة من الغياب.
كم تأخذ الأرض منا نحن الجنود الذين افترشوا سطوح العربات المتمايلة المزعقة. سقط كثير منهم أثناء تلك الرحلات الليلية. لعبة البقاء القليل. المحتومة. والضرورية للحياة. أكذب من جديد ليس ثمة حياة أبدا؛ كانت محض أوهام للعيش. فقط. في كلّ يوم يحدث ذلك مرات عديدة. فتقف مذهولا صائحا: ومتى أغادر أنا !؟ متى أغيب عن الألوان المتداخلة القرمزية المضاعفة؟ متى أغدو مجرد ذكرى في سجل الذاهبين بلا رجعة؟ متى أنسى تماما. متى أتحول إلى رقم لا معنى له في سجل كبير؟ صحائف بيض منشورة على طول وعرض السماء، ورقاب باحثة عن نفسها في النهاية.
سجل دوام مدرسي. انتهت أيام اللعبة. ليس ثمة أميين هنا. الجميع يقرءون في حساب فلكي واحد؟ الجميع حاضرون. قطار جديد في الانتظار. أيضا. لا فكاك. لا تفلت. دائما. في كلّ الأحوال أنت موجود من اجل المراقبة الفجة. حدّق. وحدق جيدا. لا نوم. مهنة المنتظرين وليس الذين وصلوا توا. متى أدرك أن ليس ثمة ما يُتعلق به هنا أو هناك؟ ومن أوجد هذه الحركة المهيبة التي اكتشفتها لأول مرة؟ ليست حركة إنها سحق دائم لي و تغييب متواصل لغيري. وأكثر غرابة مما توقعت في هذا الصندوق الأجوف الوحيد المليء بالروائح العفنة: رأسي. ليست حركة البتة كم أنا غبي؟ أعمى العين والقلب. ليس ثمة عشوا ليليا. عشو نهاري أبكم. مبهم. ظلال من عدم الرؤية البشرية. فقط. حركة إحصاء لما يمكن أن يحدث بعد مائة عام من التمويه السائر.. أو بعد ألف عام.. ربما .. تكون اللعبة أشد حصافة أيضا. ثابتة ويمكن مساءلتها. لكن قواعدها غير معلومة تماما في كلّ وقت. وهي متفلتة هاربة وعنيدة. لم يحدث كلّ ذلك؟؟
لم تعد الصلاة نافعة تحت هذه الهواجس ورغم ذلك تصلي.. حصان الزمكان. لكن عليك اللعب تحت جميع الظروف. والزمن لا يعني الكثير هنا. طبعا. تلك حال لم يفكر بها كثير من أولئك المسافرين إلى وسط البلاد. والجنود لا يتوقعون إلا التحول بعد نهاية كلّ إجازة دورية. التحول في السير من الصعب وجهات النظر، ولا يمكن التأكد تماما من وجود الوجوه وأن أعدها وجوها مغادرة؛ ربما هم أنصاف موتى أو موتى كاملين، أو لا موتى رسميين. ليسوا وجوها أبدا. اكذب مرة أخرى. آسف!
ذات مرة جلسنا على جسر الهوى. أكذوبة صغيرة أخرى. الجسر الصغير الذي يفصل بين منطقتين موحلتين في مستنقع جون هويدي: يتحرك بنا نحو بحر.. كنا نرى البحر لأول مرة في حياتنا الصحراوية القاحلة: وحش أزرق عريض جئنا من جوفه ذات يوم : خرجنا دودا زاحفا برؤوس وأنوف وعيون وأقدام. وجوه لا حصر لها. لا أيادي لنا؛ لأننا كنا نزحف على بطوننا ككائنات دودية قزّ كبيرة.. أوائل الزواحف كنا. لم تكتب عنها بيولوجيا تصنيف الكائنات الحية. لم نكن نشعر وقتئذ بذلك الألق الغامض، لأننا، في حركة لم نعهدها من قبل. فرحون. خرجنا بمرسوم طبيعي خاص. نتشمم الهواء. سكارى الهواء فقط . وما نحن بسكارى، لكنه هول التحول. فركضنا جميعا نحو اليابس في مارثون يشبه تسارع الحيامن البيض ذات الرؤوس المدببة. لم نكن قد رأينا أي مجهر بعد لنعرف مصيرنا.
تلك كانت حركتنا الأولى على أية حال، ومن الجيد ان نتذكرها الآن والقطار لما يزل يهدر دمم دممم دممممم. ربما تكون الحركة الوحيدة الباقية في الذاكرة المتيبسة. الجسر بين وحلين ددددمممم تاريخيين هو أقرب ما ركز في صفحات رؤوسنا. أصبحت لنا رؤوس آدمية الآن. مبارك عليكم النزول. ورتب كلّ شيء على نحو مذهل. حدث ذلك ببطء مليوني. المهم لا أضواء ولا كاميرات تصور ما حدث. سرية كطلقة.
أدلس عليكم من جديد، الزمكان؛ كان يوجد ما يكفي من الكاميرات الخفية لتصوير أدق المشاهد. لكننا نسينا ذلك. لم نذكر في سياق أحاديثنا أبدا. بالنسبة لي لم انس تلك الصور. كنت أرغب بإبعاد شبح أن نكون قد خرجنا هكذا بهذه البساطة الكاميرية. وكنت ارغب بمزيد من الهول الدراماتيكي عنا. لسنا قليلين. دمم دممم دممم؟
طبعا. لكن من نحن حقيقة؟ لا حقيقة في المحطة. ربما ثمة حقائق خارجها. من يدري؟ العالم واسع. لم يتشرف ثمة احد لأخبارنا منذ البدء عن البدء. سلفنوا كلّ ما كان وناموا. نوم العوافي. لماذا. الموت الذي لفاهم ولفّهم لفا بغتة لم يعنيهم. لكننا؛ منذ قرون خلت، أدركنا كم هو بائس ما نعرفه عن تلك المرحلة الدورانية التي شهدها الجميع تقريبا، نحن عميان. أميون. ولا شأن لنا بما حدث. تكذبون وأرواحكم خارجة من أنوفكم؛ بل كنتم تسمعون كلّ شيء. ماذا تقصدون بكلمة كلّ شيء أيها المفتّحون؟ لم نكتشف ما حدث لنا حقيقة بشكل متواصل إلا بعد أن لطمتنا الأمواج العاتيات. ذهب القطار ثانية. فغرقنا في وحل ما نعرف.
أيها الغر ماذا تفعل الآن؟
أسافر..
إلى أين؟
إلى لا مكان، وحيث لا زمان
الزمان هو أسخف ما في اللعبة
كلها لو تعلم أيها الزوووووج!!
المكان اقل سخفا على أية حال.
أليس كذلك يا جاك!
تلك حركة لم يعرفها الجنود القادمون من الجبهة. كنا معا ذاهبين إلى جبهة اخرى. ولم يكن بحرا مما يعرف عن البحار.أجثو أجثو! من جديد جاء جنود الاستخبارات. كان قطار الثامنة عشرة قد ألغي موعده بسبب تجدد القصف على المحطة، وغادر الجميع إلا أنت، الذي تتقدم نحو الدوائر مخدرا وببطء الآن.
(*) من مقابلة تلفزيونية مع المستشرق الفرنسي الراحل جاك بيرك، رفض الأخير تفتيشه لمقابلة صدام حسين.