مفهوم الأيقونية في السيميائيات
عبد المجيد العابد
يخلق مفهوم الأيقونية البصرية استشكالا معرفيا في السيميائيات البصرية، تطلب منا إماطة اللثام عن سوء الفهم الذي اعتوره من قبل بعض الباحثين، وسنرجع إلى تعريف بورس للأيقون، ونقد إيكو لمفهوم الأيقونية وغيره من الإسهامات التي تساعد في تجديد النظر إلى هذا المفهوم في الصورة عموما.
1. تحديد مفهوم الأيقونية
يجد مفهوم الأيقونية(Iconicité) أصوله في التحديدات الكنسية المرتبطة بالتمثيل، فالأيقون علامة دينية ابتداء[i]، ثم في تعريف شارلز ساندرس بورسCH,S.Pierce)) لمفهوم العلامة الأيقونية(Signe iconique) الذي شكل أساس سميأة (Sémiotisation)هذا المفهوم في الحقل السيميائي البصري على الخصوص، وبناء عليه جعلت الصورة تعيد إنتاج بعض خصائص الشيء الذي تمثله في العالم الخارجي، لكن الانتقادات التي وجهت لمفهوم الأيقونية بعد بورس من قبل باحثين سيميائيين ساهمت في تجديد النظر إلى مفهوم الأيقونية، وإماطة اللبس عن التعريف البورسي.
يعد الأيقون، كما يرى جون دوبوا (Dubois)من بين أكثر المقولات جدالا في السيميائيات البصرية، فكل القواميس تتفق في وسم الأيقونات بأنها "العلامات التي تربطها علاقة تشابه مع ما تحيل إليه في الواقع الخارجي"، إن هذا التعريف" لا يسمح قط بوضع المعادلة أيقوني =بصري؛ ومع ذلك ظل هذا الانزلاق الجسيم مدفوعا من قبل تأثيل هذا المفهوم نفسه: استعمل مفهوم الأيقون بكيفية مخصوصة في مجالات السينما والفوتوغرافيا"[ii].
بيد أن هذا المفهوم مستقل تماما عن الطبيعة الفيزيقية للوسيط، توجد أيقونية صوتية (الصخب، والموسيقى السردية والخطاب المنقول)، بله الأيقونية الذوقية والأيقونية الشمية، وهناك قليل أو كثير من الأيقونية داخل المحكي، لكن الذي يجحد من قبل التماثل الأيقوني والبصري ليس فقط تجانس قسم العلامات الأيقونية، بل كذلك وجود علامات هي في الوقت عينه بصرية وليست أيقونية.
عرف بورس الأيقون بوصفه علامة لها بعض المشابهة مع الشيء الذي تحيل إليه، أما بالنسبة لشارل موريس فالأيقون علامة تملك بعض خصائص الشيء الممثل، ويرى إيكو[iii] بأن هذا التعريف لا يزعزع ظاهريا بالأساس فكرة العلامة الأيقونية أو الصورة بوصفها شيئا له شبه فطري مع الشيء الواقعي، فإذا كانت لها مشابهة فطرية يدل ذلك على أنها ليست علامة اعتباطية، بل علامة معللة تأخذ معناها من الشيء الممثل، وليس من الاتفاق التمثيلي. نتحدث في هذه الحالة عن مشابهة فطرية أو عن علامة تعيد إنتاج بعض شروط الإدراك المشترك.
يؤكد إيكو كذلك بأن العلامة الأيقونية لا تملك خصائص الشيء الممثل، بل تعيد إنتاج بعض شروط الإدراك المشترك على أساس تسنينات عادية، وتسمح بتكوين بنية إدراكية تملك، في علاقتها بالتجربة المكتسبة، الدلالة نفسها التي توحي بها التجربة الواقعية من قبل هذه العلامة نفسها. تعرف المشابهة بالشرط الوحيد المتعلق بتمثيل العلامة للشيء الذي تحيل إليه عن طريق المشابهة حتى عندما يكون الشكل المحاكي مختلفا عن الشكل المحاكى. يشغل الشيء المسمى "أيقون" الوظيفة نفسها للموضوع(Objet)، يتعلق الأمر بتأسيس حضور بعض الخصائص الأولية، بدءا بحضور وظيفة تحديد ماهية الشيء نتاجا للانطباع بالأيقونية المقترنة عموما"بالمطابقة(Correspondance)لأن في الحالتين معا يوجد تشابه"[iv].
إن الأيقونية جماع علاقة تشابه جوانب وخصائص وعلاقات معينة بين الأشياء والعلامات، يتضح ذلك في المثال الآتي: س يمتلك الخصائص أ، ب، ج، د، هـ، والشيء ص يمتلك الخصائص ب، ج، د، هـ نتيجة لذلك من الممكن أن يمتلك ص الخاصية أ[v]. ويمكن النظر إلى هذا المفهوم كذلك بوصفه مرادفا لعدة مصطلحات ترد بالمعنى نفسه، حيث أمكن تعويض الأيقونية بمرادفات من قبيل: التشابه والقياس والتماثل، حيث ترى مارتين جولي (M. Joly) أن "مصطلحات مثل "تشابه"(Ressemblance) و"تماثل"(Similarité) و"قياس"Analogie)) تستعمل باعتبارها مترادفات"[vi]. ولعل هذا ما يشير إليه إليزيو فيرون (E. Veron) بصدد تعريفه للتسنين القياسي بقوله: "إنه يعبر عن وجود تماثل، أو تشابه بين العلامة وما تمثله[vii]. والأيقونية تعنى بخلق تشابه بين مقدارين(Grandeurs) أو أكثر، وهو ما يجمع نسقا سيميائيا ما مع مرجعه في العالم الخارجي. وتظهر هذه المرادفات في قلب الجدل حينما يتعلق الأمر بالسيميائيات البصرية، وتعتبر في أخرى محددة للأنواع السيميائية[viii].
يرى إيكو أن في تعريف بورس للأيقون الذي استلهم منه القياس فخ؛ حيث الأيقون علامة تحيل إلى مرجع كما لو أن المرجع يوجد حقيقة، إنه الجهة المرآوية بتعبير كامبريش(Cambrich)، "أي إعادة إنتاج الواقع البصري"، عكس الجهة الخارطية (التعبير يتم عبر ترسيمات)"[ix]. نجد أيضا أن الأيقون قد يكون تمثيلا لشيء غير موجود أصلا، مثل التنين(Dragon) والقارن(Licorne)، غير أن بورس أيضا يحصي ضمن الأيقون الرسوم البيانية(Diagrammes)، والمعادلات الرياضية والعلاقات المنطقية، وبعد ذلك يرى ضمنيا أن الأيقون صورة ذهنية[x].
نستنتج إذا أن الأيقون عند بورس لا يجمع أشياء مدركة حسيا، ويوجد لها معادل موضوعي في الواقع، بل من خلال الوعي باعتباره صورة ذهنية. ومن هذه الرؤية انطلق إيكو للقول بأننا لا نتواصل مع الأشياء بطريقة تلقائية، بل عبر وسيط إلزامي هو ما يسميه البنية الإدراكية أو النموذج الإدراكي. وتعود فكرة البنية الإدراكية نفسها إلى بورس الذي تحدث عنها من خلال المقولة الفانيروسكوبية الثالثانية، أي مقولة الضرورة والمنطق، وهي ما يجعل من الارتباط بين الأولانية والثانيانية يملك معرفة استقبالا، ويقدم بعد ذلك بورس مثال السيارة، فأنا لو تحدثت لشخص عن السيارة، وهو ليس على علم بها أصلا، فإن ما سيرتسم عنده ليس سوى أحاسيس ونوعيات (الأولانية)، وإذا أتيت بالسيارة فقلت: هذه هي السيارة فإني ربطت بين أول وثاني (الثانيانية)، غير أن هذا الفرد سوف لن يملك معرفة السيارة استقبالا، لأنه ربطها فقط بالنسخة، والنسخة تمثيل عابر يحيل إلى التجربة الصافية فقط، فنحن نتواصل من خلال النماذج لا من خلال النسخ؛ أما إذا أتيت بالسيارة وقلت له: هذه سيارة لها أربع عجلات وتستعمل للنقل... فإني أضفت إلى ذلك الحكم والضرورة والمنطق (الثالثانية)، سيجعل هذا الفرد يمتلك المعلومات المرتبطة بالسيارة استقبالا مهما تغيرت نسخها.
وهذه النظرة الظاهراتية أثرت في تصور بورس للعلامة عموما، فهي ثلاثية بدل أن تكون ثنائية كما أرادها دوسوسور، إذ تتضمن مأثولا (شيء يحل محل شيء آخر ويقوم بتمثيله) يحيل إلى موضوع(ما يقوم المأثول بتمثيله) عبر مؤول (يجعل من إحالة المأثول على الموضوع أمرا ممكنا). إن فكرة التوسط الإلزامي التي دعا إليها بورس كانت سندا للترسيمة المعرفية في التصورات المعرفية عموما. يجعل ذلك الإدراك مرتبطا ابتداء بالتدلال (Sémiosis)، وهي إوالية تعمل على تسنين بنيات معرفية تتم فيها المطابقة بين معلومات الدخل ومعلومات الخرج تباعا لذلك[xi].
وقد استند إيكو إلى بورس عندما اقترح البنية الإدراكية التي تربط الصورة بالمعطيات الخارجية (المعادل الموضوعي)، فنحن كما يقول إيكو لا ندرك الصورة انطلاقا من مباشريتها، بل بالنظر إلى نموذج سابق في الذهن هو بمثابة وسيط إلزامي. إن المشابهة الأيقونية في نهاية التحليل لا توجد بين الصورة والواقع، بل بين الوعي أو البنية الإدراكية والصورة (أنظر مثال الحمار الوحشي الذي يقدمه إيكو) إذ يشير إذا إلى قرابة خفية.
2. نقد مفهوم الأيقونية
يعتبر إيكو، بلا شك، أكثر الذين نقدوا المفهوم، حيث رجع إلى هذا الموضوع في كتبه البنية الغائبة(1972)، والعلامة(1988)، وإنتاج العلامات(1992). قام نقده للأيقونية على الأفكار الساذجة الحاضرة في كل تعريفات العلامة الأيقونية بعد التعريف الأصل لبورس مرورا بمصطلحات مثل: المشابهة والقياس والتعليل، حيث تؤكد هذه المفاهيم على المشابهة بين العلامة والشيء الذي تمثله. هكذا تحدث بورس عن مشابهة فطرية، واعتبر أن كل علامة هي علامة أيقونية عندما "يمكنها تمثيل موضوعها أساسا من خلال التشابه"[xii].
إن العلامة الأيقونية بالنسبة لموريس(1946) لها "في بعض وجهات النظر، الخصائص نفسها للشيء الذي تحيل إليه"، كما ذهب روبي كيس (kees) أيضا إلى القول: إن العلامة الأيقونية "سلسلة من الرموز التي تؤسس من خلال نسبها وعلاقاتها التشابهية مع الشيء والفكرة والحدث الذي تمثله"[xiii].
يقول موريس: إن صورة الملكة إيلزابيت للرسام أنيكوني (Anigoni) تحمل خصائص الملكة إليزابيت نفسها، أي أن لها العينين ذاتها، والأنف، ولون الشعر، ...عندما نقول مثالا إن لها الشكل ذاته للأنف، فإن للأنف في الواقع ثلاثة أبعاد، في حين أن الأنف في الصورة لا يتكون إلا من بعدين اثنين فقط، ويمكن القول هنا: إن ما يحمل خصائص الملكة إليزابيث ليس إلا الملكة نفسها[xiv].
يمكن أن نلمس الشيء عينه جليا عند ميتز[xv] في المقالة التي حاول فيها وضع مقارنة أساس بين المفاهيم اللسانية وكيفية انتقالها إلى السيميائيات البصرية، حيث إن القياس بالنسبة إليه هو المبدأ القادر على التمييز بين العلامة البصرية والعلامة اللغوية، فمثلا "قط" باعتباره صورة صوتية لا يماثل القط في العالم الخارجي، في حين أن صورة القط البصرية تملك هذا النزوع التماثلي. ولعل هذا ما يراه أيضا فيرون حين يقول: "إن الكلمات بعكس الصور غير قابلة بأي معنى أن تكون ثماثلية للأشياء في تعيينها"[xvi].
تكرر الشيء نفسه عند باسكال فايونت[xvii]، لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار نموذج جماعة مو، سنجد تصورا منسجما مع أطروحتها المنهجية، فهي تربط الأيقونية بدرجة المشابهة، حيث ترى الجماعة أن المشابهة ترتبط بكون أن لكل شيء له معادل موضوعي؛ فإذا أخذنا الدائرة مثلا: فهي أيقونية لأن هناك دائرة أخرى تحيل إليها، هي أيقونية كذلك لأنها ترجع إلى قسم من الأشياء الدائرية لنوع ثقافي قار"الدائرة". لكن في تمثيل الفراشة باعتبارها دائرة سنلمس أن الصورة الأولى "فراشة" أيقونية، وكذلك الدائرة أيضا فهي أيقونية، لكن داخل الإنجاز البسيط، لا يوجد مقام تداولي يعطي الأيقونية للرسم[xviii].
إن الاعتراض الذي يمكن أن يقدم هو أن الدائرة قد تحيل إلى رأس، وقد تحيل إلى شمس..إن الشكل الفضائي يمكن أن يكون أيقونيا إذا كان له معادل موضوعي، له المحددات الفضائية عينها(جشطالت)، وإذا لم يوجد فلا.
تبني العلامات الأيقونية نموذجا للعلاقات، فإذا كانت العلامة لها خصائص مشتركة مع شيء ما فهذه المشابهة هي مع النموذج الإدراكي للشيء، لا مع الشيء نفسه، إنها مبنية ومعروفة قبل العمليات الذهنية نفسها التي تتمم بناء المدرك في استقلال عن المادة التي تحققها تلك العلاقات. يبقى على مستوى الإدراك أن نثبت مثالا أن العلامة الأيقونية تؤسس نموذجا من العلاقات متجانسة في نموذج من العلاقات الإدراكية حيث نبني بالمعرفة ونحدد الشيء"[xix].
لقد بين إيكو أن هذه التصورات ضعيفة: أيقون مخصوص مثل هيئة ابيريالية لا تشكل خصائص الشيء الذي تمثله (مثلا نسيج الجلد أو حركية الشخص)، يمكن أن نثبت لتحديد الخصائص من خلال مسلمات مثل التي اقترحها موريس( في بعض وجهات النظر) أو التي اقترحها بورس (بالأساس) لا تؤسس إلا صورة كاريكاتيرية للمسيرة العلمية. هل يمكن القول إن "الذرة غير قابلة للتجزيء" من وجهة نظر معينة؟
قدم كودمان(1968) أمثلة مشابهة لما قدمه إيكو في العمل الذي ساهم به في السنة نفسها، لقد ميز في فكرة الأيقونية بين علاقتين متمايزتين: من جهة أولى علاقة المشابهة ومن جهة أخرى علاقة التمثيل: هاتان العلاقتان لهما خصائص منطقية مختلفة تماما، فالتشابه متعاكس وتماثلي لخصائص ليس لها تمثيل معين. إن من العبث كما يرى إيكو القول: إن شيئا يمثل نفسه (تعاكسية)، وبطبيعة الحال عبث القول إن شخصا يمثل هيئته(تماثلية)، وضحت مبرهنات أخرى تجريبية أن التشابه والتمثيل لا علاقة تربطهما: شيئان أكثر تشابها لا يمكن أن يكونا ضرورة جاهزين للتمثيل، ومن جهة أخرى يمكن أن يحصل التمثيل بمساعدة الأشياء المتشابهة. قدم كودمان مثالا جيدا يتعلق الأمر بنجمة ضابط شرطة: إنها تمثل خزان ماء لكنها تملك تشابهات كثيرة مع لوحات أخرى أكثر من أي خزان آخر، إن فكرة النسخ إذا فكرة خاطئة. ويضيف إيكو بأن أزمة الأيقونية تعود إلى أزمة العلامة نفسها، هذه الفكرة محكومة بكونها غير مستعملة إذا أردنا تقليصها في فكرة وحدة سيميائية تدخل دائما في علاقة ثابتة مع مدلول معين، ومن أجل المحافظة عليها نقول: إن أي تعريف مؤسس على مفاهيم حدسية مثل"القياس" أو "المشابهة" مفتوح إذا طرحنا تلك النتائج الأخيرة في قضيتين اثنتين متضادتين غير مهمتين: فكل شيء هو علامة على نفسه)مادام أن له كل المحددات والخصائص تباعا لتحديد موريس)، وأي شيء يمكن أن يكون علامة على شيء معطى (مادام هناك شيئان اثنان يتضمنان، صدفة، دائما هذه الخصائص أو تلك).
تؤول القضية الأولى إلى تذويب فكرة العلامة نفسها التي تفترض بالتأكيد التمايز بين التعبير والمحتوى، وتؤول الثانية إلى فك المنظور السيميائي نفسه: هذا المنظور يفترض في الواقع بناء أنطولوجيا لحقل المحتوى بالنظر لما تقدمه العلامات البصرية على مستوى التعبير، وهذا الشرط يتلاشى إذا رجع الكل من دون تميز إلى الكل، فلا يمكننا بعد ذلك التمييز بين ما يعود إلى التعبير وما يعود إلى المحتوى، وبالتالي سيؤدي هذا الخلط إلى غياب العلامة عن المنظور السيميائي عموما. إن حضور علامات موصوفة بالطرق الآتية: معلل من قبل، يتشابه مع، قياسا إلى، مرتبط طبيعيا مع، فسيشكل هذا التوصيف ارتباط العلامة بالموضوع الذي تمثله باعتبارهما تعالقا مؤسسا لاتفاق بين التعبير والمحتوى، يؤسس هذا الربط غير العلمي للعلامة بموضوعها مشكلا رئيسا للعلامة الأيقونية. إن فكرة "الاتفاق" غير حاضرة في فكرة "رابط اعتباطي" لكن موجودة مع فكرة رابط اتفاقي يؤسس عمق المشكل.
يصبح إنتاج إشارة كيفما كانت، بحسب إيكو، متعالقا مع مضمون ينتج وظيفة سيميائية: بهذا المعنى، كلمة أو صورة تمثل نوعين مختلفين من التعالق: الأول ثقافي والثاني كرافي، يتجسد المشكل في معرفة ما إذا كانت الكلمة، بخلاف الصورة، تؤسس تعالقا ثقافيا، أو أن هناك تعالقا ثقافيا في الحالتين معا، كما أن هذه التعالقات تظهر بصدد أنماط مختلفة تميز ما سماه إيكو أصل بسيطا في مقابل أصل معقد[xx]. إذا برهنا أن صورة شيء ما تدل على هذا الشيء على أساس تعالق ثقافي، يتعين علينا قبل كل شيء أن نتجنب بعض الأفكار الساذجة لمعرفة أن العلامات تحدد بوصفها أيقونية:
- لها الخصائص نفسها التي لموضوعها؛
- هي مشابهة لموضوعها؛
- هي قياسية لموضوعها؛
- هي معللة من خلال موضوعها؛
لكن، كما في الأفكار الأولى سنقع في دوغمائية مضادة، ينبغي أن نضيف إلى اللائحة الإثبات الآتي:
أ- العلامات المحددة بوصفها أيقونية مسننة اعتباطيا. نقول بصدد علامات أنها مسننة من قبل الثقافة: إنها اعتباطية جميعها.
ب- تحدد العلامات بوصفها أيقونية سواء كانت اعتباطية أم معللة قابلة للتحليل إلى وحدات واردة ومسننة وخاضعة إلى تمفصل متعدد كما هو الأمر بالنسبة للعلامات اللفظية، يتعين قبول القضية(ب) من دون احتياط يدفعنا إلى قبول القضية (أ)، وإذا اعتبرنا بحدة الإثبات (ب) للقضية(أ) سنقول إن العلامات المعرفة بوصفها أيقونية مسننة ثقافيا.
ويرى إيكو أيضا أن العلامات تعيد إنتاج بعض خصائص الشيء المدرك، تقوم بهذا العمل استنادا إلى سنن التعرف، وتحدد تلك الخصائص الواردة انطلاقا من توافقات، حيث توحي علامة مقدمة اعتباطيا بشروط معطاة في الإدراك، وبمدرك ينتج اعتباطا تمثيلا بسيطا. نختار الجهات الأساس للمدرك بواسطة أسنن التعرف، فعندما أرى الزرافة من بعيد فالعناصر التي أعرفها مباشرة والتي تتقبلها ذاكرتي بالنظر إلى موسوعتي الإدراكية وذخيرتي هي ملامح وليست شبحا، هذه الملامح تشبه بكيفية غامضة تلك التي للحمار والبغل، وهكذا عندما نرسم زرافة فنحن نشتغل على خطوط، الشيء نفسه عندما يكون رسمنا تقريبيا يمكن أن يعوض بملامح الحصان،"إن العلامة بذلك تحيل إلى نموذج إدراكي يحمل كل السمات الضرورية للشيء مبنينة سالفا عبر العمليات الذهنية نفسها التي تتمم بناء المدرك في استقلال عن المادة(النسخة)"[xxi].
لنفترض أنه توجد جماعة إفريقية حيث ذوات الأربع أرجل الوحيدة المعروفة هي الزرافة والضبع والفرس والحمار والبغل، لأجل معرفة الزرافة ليس من المهم رؤية الملامح، ولرسم زرافة سيكون من المهم التأكيد على شكل العنق وطول الساقين للتفريق بين ذوات الأربعة أرجل التي لها أيضا ملامح لا تؤسس عاملا للتمايز. إن أسنن التعرف متعلقة بالجهات الواردة، فاختيار هذه الأسنن خاضع لإمكانية التعرف إلى العلامات الأيقونية، لكن يجب أن تكون الجهات الواردة تواصلية، يوجد إذن سنن أيقوني يؤسس التوازن بين علامة كرافية ما وعنصر وارد لسنن التعرف[xxii]. إن تعريف العلامة الأيقونية باعتبارها تملك بعض خصائص الشيء الممثل يصبح أكثر استشكالا، فهل الخصائص المشتركة هي نفسها خصائص الشيء الذي نراه أو هي تلك التي نعرف؟
يقدم إيكو مثالا آخر للتوضيح مفاده رسم طفل لهيئة سيارة، لكن العجلات الأربع ظاهرة مرئية، إنه أعاد إنتاج الخصائص التي يعرف، وبعد ذلك أخذ يجعل لتلك العلامات سننا ومثل سيارة بعجلتين، فبماذا تفسر الاثنتين غير المرئيتين؟ إن الطفل لم يعد إنتاج إلا الخصائص التي يرى، كما يعيد فنان النهضة إنتاج الخصائص التي يرى، ويعيد الرسام التكعيبي إنتاج تلك الخصائص التي يعرفها (لكن الغالبية العظمى لا يعرفون إلا تلك التي رأوها...)، يمكن للعلامة الأيقونية أن تملك، من بين خصائص الشيء، الخصائص البصرية الأنطولوجية والاتفاقية.
يتعلق الأمر بترسيمة ذهنية سابقة في الوجود على التحقق هي الكفيلة بخلق تواصل فعال وتعرف أمثل إلى الأشياء والكائنات. لم يعرف إيكو الأسنن الأيقونية فقط بوصفها إمكانية استرجاع بعض شروط الإدراك من خلال علامة بصرية اتفاقية، لكنه أشار أيضا إلى أن علامة ما يمكن أن توحي عموما بمدرك يقلص إلى اتفاق كرافي يبسط بعض شروط الإدراك من خلال العلامة البصرية نفسها، كما أن علامة ما يمكن أن توحي عموما بمدرك يقلص إلى اتفاق كرافي مبسط، لأن من بين شروط الإدراك أن نختار الخصائص والسمات الواردة، حيث تحقق هذه الظاهرة المرتبطة بالتقليص في عموم العلامات الأيقونية، لكن بطريقة مخصوصة.
إذا كان هدف التحليل السيميائي ليس الوقوف عند ما يقدمه المعنى المباشر، وما تحيل إليه الأشياء بشكل تلقائي، فإن الأيقونية بالمعنى البدئي ستبقى حجر عثرة أمام السيرورة التدليلية. يفرض المنظور السيميائي على الباحث التمييز بين عالمين للصورة: عالم مدرك وعالم محقق، العالم المحقق هو ما يشترك فيه السيميائي والرجل العادي، والعالم المدرك، أي ما تحيل إليه التجربة الإدراكية هو ما يجعل الفعل السيميائي واردا، وما يبرر ذلك هو أن كل واحد منا ينظر من زاوية مخصوصة إلى الصورة، أي كل له عالمه المسقط.
إن ما نراه نحن متشابها قد يراه السيميائي غير ذلك، إذ يرتبط الأمر بنظرة العالم. يقول إيكو: نأخذ مثالا التجربة المشتركة، نحن نعلم أن الساكرين (Saccharine) يشبه السكر، لكن التحليل الكيميائي أوضح العكس تماما، حيث إن المادتين ليس لهما الخصائص المشتركة نفسها، فالسكر هو سكر ثنائي (Disaccharide) صيغته الكيميائية (C12 H22 O11)، بينما الساكرين مشتق من حمض سولفاميدوبينزويك(O-sulfamidobenzoique). سنقول إذا إن ما سميناه بالخصائص المشتركة لا يتعلق بالمكونات الكيمائية، بل بالتأثير المنتج من قبل المركبين على ألسنتنا الذوقية، فكل واحد منهما حلو، كما أن الحلاوة ليست خاصة المكونين معا، ولكنها نتيجة وضعها على لساننا، والحلاوة الموجودة في الساكرين ليست هي الموجودة في السكر. كما نجد أن رساما ما يعرف درجات خضرة اللون ولكنا نرى اللون نفسه[xxiii].
أثبت إيكو أن التشابه ليس إلا شبكة من الترابطات التي تحددها التجربة الساذجة، ويمكن أن نخلص استنادا إلى هذه المعطيات إلى ما اطمأن إليه ميتز بقوله:"إن القياس البصري يخضع لتغيرات كمية وكيفية، فالتشابه يختلف من ثقافة إلى ثقافة أخرى، كما يختلف من فرد إلى فرد آخر"[xxiv]. ومهما حاولت النسخ(Répliques)، بتعبير إيكو، أن تحاكي النموذج، فإن هذه المحاكاة تكون أشبه بنملة تضاهي فيلا، أي ستظل دائما قاصرة مطلقا، ويقدم إيكو مثالا للتبسيط، يقول: لو أننا طلبنا من نجار أن يعيد صنع كرسي كالذي يراه أمامه، فإن هذا الكرسي الذي سيصنعه لن ولن يشبه السابق مهما بدا لنا كذلك. وقد دفعت هذه الملاحظات وغيرها كريستيان ميتز[xxv] للقول بنهاية القياس وبداية الفعل السيميائي الذي يقوم على التفكيك والتجزيء وإعادة البناء فلا يكترث للنسخ، بل إلى النماذج التي تعد ابتداء البؤرة الأولى لبناء النسخ وضمان بقائها، فما نراه أمامنا ليس إلا نسخا متحققة تحاول أن تحاكي نموذجا، وشتان بينهما، ولعل هذا ما يدفع إلى استبدال أشياء أخرى بالمشابهة تعد الكفيل بتجاوز قصورها.
إن ما يمكن أن نقوله للبرهنة على أن العلامة الأيقونية اتفاقية أنها لا تعيد إنتاج خصائص الشيء الممثل، بل تنتقي بصدد نسق ما بعض شروط التجربة، إذ تشكل النموذج القياسي كما في التحسيب، فنحن نعلم مثالا أن الحاسوب الرقمي، أي الذي ينبثق عن إجراء ثنائي ويجزئ الإرسالية إلى عناصر رصينة أو قياسية، أنه يعبر مثلا عن قيمة رقمية من خلال شدة تيار مؤسس لتوازن صارم بين مقدارين، حيث يحول الصورة إلى قطعة معدنية قياسية، والصورة في الحاسوب تصدر من خلال إشعاعات مهبطية(Cathodique)، حيث أمكن اختزال القياسية في الرقمية[xxvi].
لكن مهندسي التواصل يفضلون استعمال التعبير"نموذج قياسي" بدلا من الحديث عن قياس"[xxvii].
تحاول الحركة السيميائية من جهة أولى البرهنة على أن كل إرسالية تستند إلى اتفاق، لأننا عندما نعرف الاتفاق نفسر الإوالية، ومن جهة أخرى تبحث من أجل إنتاج أو اقتراح إوالية السنن الذي يقع تحت قاعدة الرسالة لأنها تنتج لكي تعرف. لقد عرفنا أن التفسيرات التقليدية للعلامة الأيقونية لا ترجع إلى طبيعة السنن نفسه (لما يستعمل علامة) فقط للاعتقاد بكونها طبيعية، لكن تستند إلى سنن غير قابل للتحليل.
أشرنا سالفا إلى أن الأيقونية بالنسبة لموريس(1946) علامة تملك خصائص معيناتها، لكن باستقصاء قصير لتجارب في الأيقونية يقول إيكو: إن هذا التعريف توتولوجي، أو على الأقل ساذج، فهيئة مرسومة من قبل إيبريالي لا يظهر أنها تملك خصائص الشخص، هذا في الأخير ما يريد أن يصل إليه موريس عندما يؤكد أن الهيئة أيقونية إلى حد ما، وليس بطريقة تامة مادامت النجمة ليس لها نسيج الجلد الإنساني ولا حركية الفرد، والسينما تظل "أكثر أيقونية" من الرسم. وقد خلص موريس إلى أن العلامة الأيقونية ستصبح هي أيضا معينا(Denotatum) يمكن تسميته نسخة الشيء المعتبر.
ويضيف موريس بأن العلامات أيقونية "على نحو مقبول شيئا ما"، لكنه لم يقدم أي توضيح علمي. نتيجة لذلك "يسمح اتفاق كرافي بالتحول إلى عناصر مخططة لاتفاق إدراكي أو تصوري يعلل العلامة"[xxviii]. قاد التصنيف الإشكالي للرسائل البصرية مول (A Moles) إلى القول بـ"درجة الأيقونية (أو بالعكس درجة التجريد)، حيث "يمكن أن تتموقع على هذه الدرجة الأنواع المختلفة بحسب درجة المشابهة دال/ مرجع، حيث الصورة الفوتوغرافية أيقونية، بينما العلامة الكرافية اعتباطية جدا، ويوجد بين الأولى والثانية عدد لا يحصى من العلامات أقل أو أكثر أيقونية/ تجريدا. وقد أقر كذاك مول بأن "الصورة تواصل وظيفي" يقع بين تشخيص الواقع وتجريد العلامة. كل عوالم الرسائل داخل عالم التواصليات بما فيها الرسائل التخطيطية والترسيمات تقوم على التجريد، وعلى العكس من ذلك نقول: إن كل صورة هي دائما أقل تخطيطية ولا تدل إلا بواسطة إسقاط بعدين للأشياء ذات البعد الثلاثي.
بعد هذه المتابعات لا يمكن للفن التصويري أن يكون مشابها لفن تجريدي منمذج للواقع، إن الأمر يرتبط باستعمال العناصر الأولية للسنن الكرافي والألوان لتعيين عالم حميم من الأحاسيس والأفكار، عالم من الفكر الخالص بلا مرجع "تصبح النقط والبقع خالية من دلالاتها الثقافية الممكنة، لكي تصبح عناصر لسنن آخر"[xxix]. ولتوضيح العلاقة التي تربط بين العلامة الأيقونية ومرجعها الثقافي أخذ إيكو مثال حمار وحشي مرسوم من خلال جهات واردة مرتبطة بسنن إدراكي أوربي، تملك الحمر الوحشية المرسومة خطوطا مميزة لهذا النوع من الحيوان هي بمثابة اتفاق كرافي أساس، على العكس من ذلك إذا تخيلنا بلدا حيث إن ذوات الأربعة هي الحمر الوحشية والزرافات، فالسنن الإدراكي للتعرف سوف يختار جهات أخرى واردة مثلا "شكل وطول الساقين".
فنحن في الحقيقة لا نأخذ في تمثل العلامة البصرية الأيقونية بالخصوص إلا اتفاقا كرافيا مرتبطا بخصائص الشيء، هكذا تحدث إيكو عن مثال الشمس الممثلة بوصفها دائرة تحتوي على أشعة حيث "التجربة الأصلية للشمس تظهر بوصفها فقط مضيئة تملك أشعة غير متصلة تمثل بدائرة بيضاء.إن الشمس ترى من خلال العينين سواء كانتا مفتوحتين أم لا، إذن فالعلاقة الموجودة ليست بين الصورة الأيقونية والشمس/ الشيء، لكن بين الصورة الأيقونية والصورة المجردة للشمس بوصفها وحدة علمية. ليس القول: إن علامة متماثلة مع موضوعها هو نفسه القول: إن لها الخصائص نفسها للشيء. يوجد على كل حال وضع علمي دقيق لفكرة التماثل خلاف فكرة "لها الخصائص نفسها" أو"تتشابه مع"، يعرف التماثل في الهندسة بوصفه خاصة شكلين متساويين في كل شيء سوى ما يتعلق ببعديهما. فعندما أقترح على طفل من ثلاث سنوات مقارنة نموذج مدرسي للهرم بأهرامات مصر، وسأطلب منه ما إذا كانت متشابهة، ستكون إجابته بالنفي لأن مستجوبي العفوي سيكون في وضع يفترض أن يفهم أن الأمر يتعلق بسؤال يتعلق بتحديد تماثل هندسي"[xxx].
يعتقد إيكو أن ليس للعلامة الأيقونية وضع سيميائي، ولا تتضمن بالتالي سننا خارج سياقها، "العلامات الأيقونية" ليست علامات لأنها ليست مشابهة لموضوعها، إذ من الصعب أن نعرف كيف تدل، ليس فقط فكرة العلامة الأيقونية وحدها في أزمة، بل فكرة العلامة نفسها. إن فكرة العلامة ليست إجرائية. نتيجة لما سبق، يرى إيكو أن ليس هناك أنواع من العلامات كما حدده طيلة نقد الأيقونية، لكن أنماطا من إنتاج وظائف سيميائية (Fonctions sémiotique) مؤسسة لتيبولوجيا من العلامات كانت دائما مشروعا مغلوطا.
3. هل توجد علامة بصرية أصلا؟
ترى جماعة مو أنه ينبغي إذا أن نطرح، افتراضا، أنه لا توجد علامة أيقونية، بل يوجد على الأقل نوعان من العلامات البصرية: العلامات الأيقونية والعلامات التشكيلية. ليس هذا التمييز في عرف الجماعة بطبيعة الحال جديدا، إذ يمكن العثور عليه بهذا الاسم مع سوناسون وداميش(Damisch,1979,Sonesson,1987)أو مع آخرين (الأيقوني والتشكيلي عند أيان(Ayant,1980)الذي نسخ جماعة مو(1979) أو التصويري والتشكيلي في المدرسة الغريماصية مع فلوش(1982)(. وتعتقد الجماعة أنه ليس من السهل التمييز تجريبيا بين العلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية، نحن عندما نكون في الواقع أمام ظاهرة بصرية أمام بقعة زرقاء مثالا يمكن أن نشير بالقول: إنها زرقاء، أو نقول إنها تمثيل للأزرق. نحاول في الحالة الأولى ترجمة هذا السلوك سيميائيا، سنقول هناك حضور لظاهرة تشكيلية، وفي الحالة الثانية يتعلق الأمر بعلامة أيقونية. التردد نفسه سيحصل أمام شكل بسيط: هذه الدائرة أو هذا تمثيل لدائرة[xxxi].
ويمكن أن نستبق إلى حد الآن القول: إن العلامة التشكيلية تدل تحت قاعدة الأمارة والرمز، وأن العلامة الأيقونية لها دال تقبل بموجبه المحددات الفضائية للاستمرار مع محددات المرجع. إن العلامة الأيقونية علامة وسيطة بين وظيفتين اثنتين: الإحالة إلى نموذج للعلامة وعلى منتج العلامة.
لقد عبرت الجماعة عن الأيقونية بوصفها "مشكلا"، حيث تعرضت لأطاريح إيكو فجعلته أهم من تعرض لانتقاد الأفكار الساذجة التي تحضر في تعريف العلامة الأيقونية، مرورا بمصطلحات مثل"التشابه" "التماثل" "التعليل"، وأخيرا تخلص الجماعة إلى أن المرجع الذي تحيل إليه العلامة الأيقونية المرتبط بمشكل "الأيقونية" ليس مرجعا ماديا، بل إنه "مرجع ثقافي"، واقترحوا نموذجا ثلاثيا للعلامة الأيقونية[xxxii].
نوع
معرفة قرار
تطابق تطابق
دال أيقوني تحويل مرجع
تعرف العلامة الأيقونية إذا بوصفها نتاجا لعلاقة ثلاثية بين ثلاثة عناصر، أصل هذا النسق هو دحض العلاقة الثنائية بين الدال والمدلول التي تطرح مشاكل لم تتجاوز إلى يومنا هذا. العناصر الثلاثة هي: الدال الأيقوني والنوع والمرجع، إن التمييز بين هاتين الوحدتين الأخيرتين، غالبا، متضمن داخل مفهوم المدلول الأيقوني الذي يسمح باستبعاد المشاكل المطروحة سالفا. تولد بين هذه العناصر الثلاثة علاقتان ثلاث مرات. هاتان العلاقتان هي تلك التي تسمح بعدم تعريف عنصر ما في استقلال عن العنصر الذي ينتظم معه، يمكن أن نشير إلى تضافرهما وفق الشكل الآتي:
النوع والمرجع متميزان: المرجع مخصوص ويملك محددات فيزيائية، أما النوع فقسم بمحددات تصورية، مثلا: مرجع العلامة الأيقونية قط هو شيء مخصوص، بحيث يمكن أن نراه (إن له وجودا بصريا)، أو بشيء آخر لكنه لا يحيل إلا إذا كان هذا الشيء يمكنه أن يندمج مع مقولة دائمة الكائن قط. أما الدال فمجموعة منمذجة من المثيرات البصرية متطابقة مع نوع قار ثابت محدد من خلال خصائص هذا الدال الذي يمكن أن يندمج مع مرجع معروف. إنه يدخل مع هذا المرجع في علاقات من التحولات. أما بالنسبة للنوع فالأمر يتعلق بنموذج مستبطن ومستقر يواجه مع منتج الإدراك تحت قاعدة السيرورة المعرفية. يعد النوع في المجال الأيقوني تمثلا ذهنيا مؤسسا من قبل سيرورة الاندماج(Intégration). ليس للنوع محددات فيزيائية، يمكن أن يوصف من خلال سلسلة من المحددات التصورية يتطابق بعضها مع محددات فيزيائية للمرجع (مثلا فيما يتعلق بالقط، شكل الحيوان النائم أو الجالس أو الواقف، حضور الشارب والذقن والخطوط)، وما تبقى لا يتطابق مع أي محددات (مثل المواء). هذه الخصائص تتضمن منتجا من استبدالات في علاقة بحاصل منطقي (مثلا النوع "قط" يتضمن نموذج اللون: الأسود، أو الأشقر...الخ، وأيضا الوضعية...الخ)، إن منتج النماذج المعرفة لنوع لا يتضمن عددا ثابتا من المفاهيم: تسمح المفاهيم المحصلة بالتعرف إلى النوع بالنظر إلى السيرورة المحددة.
إن هذه التحليلات التي قدمتها جماعة مو تجد أصولها عند باحثين سيميائيين قبل، أولهم بورس في نموذجه الثلاثي للعلامة(مأثول يحيل إلى موضوع عبر مؤول)، ثم عنصر التوسط الإلزامي الذي دعا إليه إيكو لتفادي مشكل الأيقونية التي تهم العلامة نفسها درءا للأوهام التي وقع فيها مجموعة من الباحثين على رأسهم شارل موريس في فهمهم للتعريف الذي قدمه بورس سالفا للعلامة الأيقونية، وكذلك الأمر بالنسبة ليمسليف وغريماص في حديثهما عن الوظيفة السيميائية ونموذجه للعلامة(التعبير والمحتوى) بمختلف الإجراءات التي حاول استثمارها غريماص في نموذجه السيميائي السردي، واستفاد منها إيكو في نقد مشكل الأيقونية، وفي تحديد موضوع السيميائيات الذي اشتهر بأنه العلامة في حين أن إيكو يعتبره الوظيفة السيميائية.
وتضيف الجماعة أنه يمكن لملفوظ تشكيلي أن يختبر من وجهة متعلقة بالأشكال، أو بالألوان، أو بالنسيج، أو بالمجموع المكون من قبل العناصر فيما بينها، ينبغي بخلاف ذلك الإقرار أن هذه العناصر تحضر مجتمعة، بطريقة تجعل الصورة تظهر احتماليا على شكل سطح لوحة. في الحالة العامة، نحن أمام توزيع من الأشكال والألوان. يتضح أن المدلولات تتسلل داخل الأشكال في ذاتها، أو داخل الألوان في ذاتها أكثر من العلاقات التي تربط بينها. في التحليل الأول، يظهر المدلول علاقيا أو توتولوجيا، أما الوحدات فهي قبل كل شيء مبنينة من خلال النسق أفضل منه من خلال سنن ما[xxxiii]. لا توجد الوحدات البسيطة في مستوى الدال التشكيلي معزولة خارج كل تحيين./الوضوح/و/الصرامة و/الانفتاح/ ليست لها سوى وظيفة التعارض الذي يوجد ليس فقط في المحور التوزيعي، لكن أيضا في المحور الاستبدالي. يتم التحقيق الفعلي للمفاهيم الفضائية إذا من خلال الرسالة التشكيلية البصرية. لا تعالج الألوان هنا بوصفها أشياء تجريبية أو بوصفها أنماطا(Tokens) لنوع (Type)معطى، لكن بوصفها تشغل وضعا محددا في ملفوظ، ولأن وضعها ينتج تعارضات قابلة للتحول، نحن نتحدث عن شكل دائما بالمعنى اليمسليفي.
تختلف رمزية الألوان بصدد السياق التداولي للملفوظ في ثقافة مطابقة لا يخلق الرمزي البنيات نفسها عندما يتعلق الأمر بالتطابق العاطفي والدعاية السياسية. تمنح العلامة التشكيلية بطريقة مشوهة في تيبولوجيا العلامات التي ترجع إلى الرمز والأيقون، أما الألوان والنسيج فتؤول باعتبارها نتاج التنظيم النفسي والفيزيائي المفترض[xxxiv].
تركيب
تعد الأيقونية في السيميائيات معضلة بين منظري هذا الحقل المعرفي، فإذا أرادت السيميائيات البصرية أن تنفلت من اعتبارها فقط إبدالا نظريا، فعليها تجاوز الإرهاصات الأولى للمفهوم، لأن الفعل السيميائي لا يقف عند المعطيات المباشرة، بل يتعداها إلى خلق نماذج من خلالها يحدد رؤيته للتجربة الإنسانية. لهذا أمطنا اللثام في هذا العمل عن سوء الفهم الذي اعترى تعريف بورس للأيقون الذي شكل اللبنة الأولى في الحديث عن مفاهيم نحسبها مترادفة كالقياس والتشابه والتماثل والأيقونية، فتطرقنا بذلك لأهم الباحثين السيميائيين الذين بحثوا في مشكل الأيقونية، ومختلف الانتقادات التي ووجهوها للمفهوم. وقد ركزنا بالضرورة على أعمال أمبرطو إيكو بوصفه أكثر الذين تعرضوا لنقد مفهوم الأيقونية بشهادة معظم السيميائيين، كما قمنا بالرد على كل سوء فهم للتعريف البورسي للأيقون، حيث خلصنا إلى أن مفهوم المشابهة الذي تحدث عنه بورس بصدد العلامة الأيقونية لا يتعلق بالعلامة في علاقتها بالشيء، بل بالصورة الذهنية المنطبعة على هذا الشيء نفسه، وبالتالي فإن هذه العلاقة لا تربط بين عنصرين اثنين، بل بثلاثة عناصر رئيسة.
ولعل هذا ما ينسجم مع الطرح البورسي ابتداء، أليس بورس الذي جعل للعلامة البصرية ثلاثة مكونات(مأثول يحيل إلى موضوع عبر مؤول)؟!، كما أنه جعل الوجود الإنساني برمته مبني على ثلاثة (الأولانية والثانيانية والثالثانية). إن الأمر يتعلق بضرورة حضور عنصر توسط إلزامي بين العلامة والمرجع هو البنية الإدراكية التي تحدث عنها إيكو، وهو النوع بحسب جماعة مو التي دافعت أيضا على فكرة التوسط فجعلت للعلامة البصرية استنادا إلى ذلك ثلاثة عناصر (دال أيقوني يحيل إلى مرجع عبر نوع)، ومنه فالتشابه ليس بين العلامة والمرجع، بل بين العلامة والنموذج الإدراكي، نتيجة لذلك فالتشابه المتحدث عنه من قبل بورس موجود، لكن بين الترسيمة الذهنية والمرجع الثقافي.
وقد وقفنا من خلال هذا العمل أيضا عند تفسير أنه توجد علامتان اثنتان داخل العلامة البصرية الكل، وهاتان العلامتان هما العلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية: تتعلق العلامة الأيقونية بكل ما يحيل إلى الطبيعة ابتداء كالوضعة واستعمال الجسد والنظرة وغيرها، ثم العلامة التشكيلية التي تهم كل ما هو مضاف إلى الطبيعة وآت من الثقافة كالنقطة والخط والشكل واللون والتركيب، وقدمنا لكل علامة على حدة نموذجا عاما لفك تسنينيها، وبرهنا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التمييز بين هاتين العلامتين إلا إجرائيا في كل صورة كيفما كانت، إذ كل واحدة منهما لا تكتسب أهميتها إلا بالنظر إلى العلامة الأخرى.
[i]] - تعرف الصورة بوصفها"تمثيل شيء من خلال الفنون الكرافية أو التشكيلية" (Dictionnaire Robert) وأن الأيقون هو صباغة/ رسم ديني على خشب مؤسس على تمثيل لشيء ما مرتبط بالكنيسة ("أيقوني" في الإغريقية القديمة يقال بصفة عامة انتصارا في اللعب). تمتد كلمة صورة إلى الكلمة الإغريقية(ikôn) التي تشير إلى التشابه والتماثل، والتي ترجمت إلى (Imago) في اللغة اللاتينية و (Image)في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية مع اختلاف في النطق. ويتفق معجما لاروس(Larousse) وروبير(Robert) في أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما.
[ii] - GROUPE (u): Traité de signe visuel, pour une rhétorique de l’image, Seuil, Paris, 1992, pp113-114.
[iii] - ECO (Umberto): « sémiologie de message visuels », in Communication N15, 1970 p14.
[iv] - SECRETAN (Philibert): L’analogie, PUF, Paris 1984, pp 7-13
[v] - DECOSTER (Michel): L’analogie en sciences humaines, PUF, Paris, 1978, p20.
[vi] - JOLY (Martine): l’image et les signes, approche sémiologique de l’image fixe, Nathan, Paris, 1994, p92.
[vii] - VERON (Eliseo): « L’analogique et le contigu » in Communication N15.1970, p55.
[viii] - GREIMAS (A.J), COURTES (J): Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, T1 Hachette, Paris, 1979, pp13-14.
[ix] - ABMONT (Jaques): L’image, Nathan, Paris 1990, pp 151-152.
[x] - PEIRCE (Ch.S): Ecrits sur le signe, ressemblés traduis et commentés par Gérard Deledalle, Seuil, Paris, 1978, p132.
[xi]- MORONDO(Bernard): Logique de la conception, figure de sémiotique de Charles S Peirce, L’Harmattan, Paris,2004,P235
[xii]- PEIRCE (Ch.S): Ecrits sur le signe,op, cit, p132.
[xiii] - GROUPE (u): Traité de signe visuel, pour une rhétorique de l’image,op,cit, p124.
[xiv]- ECO (Umberto): La structure absente, introduction à la recherche sémiotique, Mercure de France, Paris, 1972, p176.
[xv] - METZ, (Ch.): « Au de la de l’analogie, l’image » in Communication N15.1970, pp4-12.
[xvi]- VERON (Eliseo): « L’analogique et le contigu », op,cit,, p55.
[xvii] VALLANT (Pascal): Sémiotique des langages d’icônes, Henoré Champions, Paris 1999, p26.
[xviii] - GROUPE (u): Traité de signe visuel, pour une rhétorique de l’image, op, cit, p121.
[xix] - ECO (Umberto): « sémiologie de message visuels », op. cit, p21.
[xx] - ECO (Umberto): Le signe, histoire et analyses d’un concept, Ed, Labor, Bruxelles, 1988, p34.
[xxi] - ECO (Umberto): Le signe, histoire et analyses d’un concept, op, cit, p72.
[xxii] - ECO (Umberto): « sémiologie de message visuels », op. cit, p16.
[xxiii] - Eco (Umberto): La production des signes, Librairie générale française, Paris, 1992, p39.
[xxiv] - METZ, (Ch.): « Au de la de l’analogie, l’image», op,cit, 1970, p10.
[xxv] - Ibid: pp8-9.
[xxvi] - ECO (Umberto): La structure absente, introduction à la recherche sémiotique, op, cit, p193.
[xxvii]- ECO (Umberto): La structure absente, introduction à la recherche sémiotique, op, cit, p191.
[xxviii] - ECO (Umberto): Le signe, histoire et analyses d’un concept, op ,cit, p38.
[xxix]- COUCULA(Bernard), PEYROUTET(Claude): sémantique de l’image, pour une approche méthodique des messages visuels, Librairie Delagrave,Paris. 1986, p27.
[xxx] - ECO (Umberto): Le signe, histoire et analyses d’un concept, op ,cit, p41.
[xxxi] - GROUPE (u): Traité de signe visuel, pour une rhétorique de l’image, op, cit, p15.
[xxxii]- Ibid: p136.
[xxxiii]- GROUPE (u): Traité de signe visuel, pour une rhétorique de l’image, op, cit, p189.
[xxxiv]- Ibid: p195.