النعمان بن مقرن
عدنان عون
هناك على الطريق الى المدينة كانت مساكن مزينة برئاسة سيدها النعمان بن مقرن . وهذا القرب من المدينة اتاح لمزينة أن تسمع المثير عن محمد صلى الله عليه وسلم واخباره ، مما جعلها تنظر اليه والى دعوته نظرة ملؤها الاكبار والاحترام و الاعجاب .وذات مساء فاجأ النعمان قبيلته بما يختلج في اعماقه وقال لهم : " ما علمنا عن محمد - صلى الله عليه وسلم – الا كل خير ، ولا سمعنا عن دينه و دعوته الا ما يجعلنا نسارع اليه ـ وقد عزمت على الايمان فانظروا امركم " . ولامست كلمات النعمان خواطر القوم ، و اتفقت هواجس الاعماق فتلألأت الوجوه ، وابتسمت الشفاه، و اعلن القوم جميعا اسلامهم ...
وانتظر القوم - والاشواق تحرقهم الى اللقاء- الصباح ، وما هي الا ان اشرقت الشمس فاذا النعمان و اخوته العشرة و نفر كثير من قومه في طريقهم الى المدينة و لم ينس النعمان ان يخص الرسول ببعض الهدايا فحمل معه ما ابقت لهم سنون القحط و سار الوفد يدفعهم الحنين و الشوق و الايمان حتى اذا وصلوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلهم بكل سرور، ولاقاهم اهل المدينة بار وع استقبال ورأى المسلمون في آل مقرن أنموذجا فريدا و رائعا فقد جاء الاخوة كلهم يعلنون – وهم عشرة – اسلامهم ، و يضعون بين يدي رسول الله ما حملته ايديهم فتقبلها رسول الله بقبول حسن وانزل الله في آل مقرن و جماعتهم قرأنا يبشرهم بالقبول و الجزاء الاوفى فقال تعالى : " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم " .
و منذ ان اسلم القوم لم تفتقدهم معركة ، وما رؤى النعمان بن مقرن الا في سرية او معركة او تحت راية من رايات الجهاد ، فقد شهد مع الرسول المشاهد كلها ، ووقف مع ابي بكر وقفة رائعة ايام الردة ، و حين تولى عمر تقدم النعمان ليعلن الولاء والسمع و الطاعة ، فكان له عند عمر مكانة عظيمة ، و مواقف خالدة تذكرها ايام العراق و ليالي نهاوند ، و لن ينساها التاريخ ابدا ...
قبيل القادسية ارسل سعد بن ابي وقاص النعمان بن مقرن على رأس وفد الى كسرى ، وهناك امام كسرى وعلى بلاطه وقف النعمان يدعو كسرى الى الاسلام الذي جاء ليخرج الناس من ظلام العبودية البشرية الى نور الهداية الربانية . وقف يقول لكسرى : " ان الله بدل بهذا الدين ضيقنا سعة ، وذلتنا عزة ، وعداوتنا اخاء و مرحمة ... وقد جئناك اليوم ندعوك الى هذا الدين فان ابيتم فالجزية و الا فالقتال " . وتغير وجه كسرى ، وكأن الكلمات العميقة الصادقة نزلت عليه صفعات مؤلمة ، كيف يجرؤ اعرابي – وكان الفرس ينظرون الى العرب نظرة ازدراء- ان يتطاول عليه ، فالتفت كسرى الى النعمان وقال له : " لست اعلم امة في الارض اشقى منكم حالا ، ولا اشد فرقة فإن كانت الحاجة اخرجتكم اعطيناكم ما يكفيكم..." . و لكنه ما ان انهى مقالته حتى رد عليه احد الحاضرين، واسمعه كلاما اطار صوابه فقام يزمجر و يقول : " قوموا عنى فليس لكم عندي شيء " . و لكن القدر كان يخبئ له اياما قاسية ، فقد لقنهم المسلمون ايام القادسية درسا اذل كبرياءهم و زلزل عروشهم و هددهم في عقر دارهم .
أذهلت ايام القادسية الفرس ، فما ان افاقوا من ذلهم حتى تنادوا من جديد ، فجمعوا جموعا كثيرة ، وصلت اخبارها الى عمر ، فاستشار المسلمين و لكنه سرعان ما فطن الى رجل عظيم تأمل منه كل الخير فقال عمر : " والله لاولين عليهم رجلا يكون اسبق من الاسنة إنه النعمان بن مقرن" . و كان والله ابن بجدتها ، و صاحبها فما ان وصله كتاب عمر حتى جمع جنده و سار لملاقاة اعدائه. فارسل اليهم طليعة تتقدمهم ففوجئت بالطريق قد نثرت فيه شذرات من الحديد اعاقت الخيل عن التقدم ، فارسلوا الى النعمان فما كان منه الا ان امرهم بالانسحاب و التظاهر بالهزيمة حتى اذا رأى الفرس ذلك منهم لاحقوهم فلما اطمأن المسلمون ان الفرس طهرت الطريق لفرسانها عادوا فكروا عليهم كرة واحدة . و تمكن النعمان و جنده من اكتافهم ، ولاحقوهم في كل مكان ، وعجت ارض المعركة ، و تناثرت الرؤوس تملأ الساحة ، وكتب الله للمسلمين نصرا عظيما ... وهناك في وسط أتون المعركة وجد النعمان مضرجا بدمائه قد انزلق به جواده فأصابوا منه مقتلا ، وسقط البطل العظيم بعد ان اقر الله عينيه بالفتح الكبير ولما سأل عنه جنده قال لهم اخوه " هذا اميركم قد اقر الله عينه بالفتح و ختم له بالشهادة " ...
وانتهت بموته حياة رجل صدق الله فصدقه ... رحم الله النعمان بن مقرن و جزاه خير الجزاء . و لله در ابن مسعود ما اصدق كلمتك حين قلت :" إن للايمان بيوتا ، وللنفاق بيوتا ، وان بيت بني مقرن من بيوت الايمان ..".