تشيخوف والمثقفون

تشيخوف والمثقفون

د. أحمد الخميسي . كاتب مصري

[email protected]

 أحيانا ترد إلي بريدي الإلكتروني رسائل تعليقا على مقال أو آخر، بعضها يمثل إضافة وليس مجرد إشادة أو انتقاد . من ذلك النوع رسالة جاءتني من الطبيب محمد نايف حسون من جنوب لبنان تعليقا على مقال بعنوان" في محبة الوهم "يقول فيها : " أنا طبيب ، درست في بيلاروسيا . أتابع أعمالك بواسطة الانترنت ، وأتابع أيضا الروايات الجدية ، كما إنني من محبي أنطون تشيخوف وقرأت كل ما كتبه ". حين قمت بالرد  على الدكتور محمد وصلتني منه رسالة أخرى يقول فيها : " أبعث إليك بنص قديم لأنطون تشيخوف وجدت فيه خير تعبير عن حقيقة معظم كتابنا في الصحافة . النص باللغة الروسية ". وبعد أن قرأت النص القصير، فتشت عن تاريخ نشره فوجدت أن الكاتب الروسي العظيم تشيخوف كتبه عام 1886 أي وهو في السادسة والعشرين . والنص نقد لاذع للمثقفين المزيفين والمأجورين الذين يمشون في ركاب كل سلطة. لذلك قررت ترجمة النص وتقديمه إلي القارئ ، خاصة أنه لم يترجم أو ينشر عندنا من قبل . النص – القصة – يصور موقف تشيخوف المبكر والثابت تقريبا من شريحة من المثقفين، وهو الموقف ذاته الذي عبر عنه قبل ذلك النص بعامين في قصته" القناع " التي عرض فيها لمجموعة من المثقفين داخل مكتبة في أحد النوادي بجوار قاعة أقيم فيها حفل تنكري. وحين يتسلل أحد أكبر أثرياء البلدة من الحفل بقناع إلي المكتبة لاهيا زاعقا فينهره المثقفون بشدة إلي أن يكتشفوا حقيقته فيصيبهم الذعر ويتسللون على أطراف أصابعهم لكي لا يزعجوا بوجودهم إغفاءة الثري داخل المكتبة ! وبعد ذلك النص بثلاثة عشر عاما في فبراير 1899 يكتب تشيخوف إلي " أورلوف " رسالة يعيد فيها تأكيد موقفه بقوله : " ليس الحاكم وحده مذنبا، إنما الصفوة المثقفة بأثرها . وأنا لا أؤمن بالصفوة المثقفة، المنافقة ، الكاذبة ، المهووسة ، قليلة الأدب، الكسولة ، إنني أثق فقط في أشخاص بعينهم " . النص القصير بعنوان : " حكاية مهداة إلي ذبابة ما حمقاء تتباهى بعملها في الصحف " : 

" ذبابة ما طارت في أرجاء الغرفة تتشدق بصوت مرتفع بأنها تعمل في الصحف.  وأخذت تئز في الجو : " أنا كاتبة ! أنا صحفية ! أفسحوا الطريق أيها الجهلاء ! " . سمع البعوض ، والصراصير ، والبق ، والبراغيث، أزيز الذبابة ، وشعروا ناحيتها باحترام خاص، وأخذوا يدعونها إلي بيوتهم لتناول الغداء بل وراحوا يقرضونها الأموال ، أما العنكبوت الذي يخشى الظهور علنا ، فقد انزوي في ركن وقرر ألا يلوح أمام عيني الذبابة ..

واستفسرت البعوضة – التي تتمتع بجرأة أكبر – من الذبابة :

- في أي صحف تكتبين يا ذبابة ايفانوفنا ؟

- تقريبا في كل الصحف ! حتى أن هناك بعض الجرائد التي أضفي عليها بدوري الشخصي صبغتها العامة ونبرتها بل وحتى اتجاهها ! ومن دوني لفقدت صحف كثيرة طابعها المميز !

- وما الذي تكتبينه في الصحف يا ذبابة إيفانوفنا ؟   

- أنا أترأس هناك قسما خاصا ..

- أي قسم ؟

- نعم .. أي قسم !

وأشارت الذبابة الكاتبة إلي بقع كثيرة من وسخ الذباب على سطح ورقة جريدة! "  

عند هذا الحد ينتهي النص الذي تشوبه روح السخرية التي رافقت إبداع تشيخوف المبكر ، ثم تبددت مع السنوات . كان تشيخوف يقدر كتابا مثل تولستوي ، وجوركي ، وعندما أصدر القيصر في 10 مارس 1902 قرارا بوقف اختيار جوركي عضوا فخريا في أكاديمية العلوم الروسية ، كتب تشيخوف خطابا إلي القيصر يطلب فيه الإذن من صاحب السمو بإعفائه هو أيضا من العضوية الفخرية احتجاجا على الموقف من مكسيم جوركي . وكانت كراهية تشيخوف لكل من يجعل نفسه بوقا للحكام والحكم واضحة ، ولهذا كتب عن أهمية شعور الكاتب بحريته الباطنية قائلا : " إنني أكره الكذب والسلطة في كل صورهما.. وليس لدي مقدسات سوى الجسد البشري والصحة والعقل والموهبة والحماسة والحب والحرية المطلقة والتحرر من الكذب والسلطة معا فكل منهما يعبر عن الآخر ".