صعود المشروع الصهيوني وانحساره

أحمد الجدع

وأعني بالمشروع الصهيوني احتلال فلسطين ، والامتداد من خلالها نحو الدول المحيطة ، والإعلان عن هذا المشروع تحت شعار : إسرائيل من الفرات إلى النيل .

وحشد اليهود لمشروعهم هذا حشدهم ، وأنفقوا في سبيله أموالهم وأموال داعميهم ، وجمعوا من أجله أنصارهم، واستطاعوا بالكيد والتآمر أن يحققوا مأربهم ، فأقاموا لهم في جزء من فلسطين دولة ، اعترفت بها كل الدول ذات الكلمة والنفوذ في العالم ، وأمدوها بالأموال والرجال والسلاح ، وأطلقوا لها التأييد دون حدود أو قيود ، بل أعلنوا بكل صراحة ووضوح أن هذا الكيان برسم التأبيد، لا يسمحون لأحد أن يمسه بسوء ، بل قدمه بعضهم في المصلحة على نفسه وفي السلامة على أمته ..

وهم في سبيل المحافظة على هذا المشروع أحاطوا هذا الكيان بدول عربية ضعيفة ، حرموها من القوة في السلاح والاقتصاد ، وأشاعوا فيها كل ما استطاعوا من فرقة ، وجعلوا من جيوشها فرقاً للاستعراض لا القتال ، ونفخوا في صورة إسرائيل ، فوصفوها بالديمقراطية والتقدم وبأنها ذات جيش لا يقهر !

 ومن المؤسف والمؤلم أن مقولة الجيش الذي لا يقهر قد أشاعها العرب حتى أصبحت عقيدة لهم ولشعوبهم ، فانهارت لديهم إرادة المقاومة فضلاً عن إرادة المنازلة .

وما خاضت " إسرائيل " منذ قيامها حرباً مع العرب إلا هزمتهم وشتتت شملهم وأذلت كبرياءهم ، وعندما تململت الشعوب حقنوها بمخدر شديد التخدير اسمه " الانقلابات العسكرية " وأخذ أصحاب هذه الانقلابات ينفخون في أبواق القتال والنضال ، ويطلقون التصريحات العنترية التي تضر ولا تنفع وادعوا أنهم يعدون جيوشهم لإلقاء إسرائيل في البحر ، وطالت وعودهم وعلت رعودهم ، وسمعنا جعجعة طواحينهم فحسبناهم يعدونها لطحن عدونا ، وما أعدوها إلا لطحننا ، ورأيناهم يوجهون جيوشهم للقتال في كل مكان إلا في فلسطين ، وعندما أنهكوا جيوشهم واقتصادهم في القتال في الكونغو وزائير واليمن و .. و ... فاجأنا العدو المستعدّ بالحرب العوان ، فاحتل ما تبقى من فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وأضاف إليها سيناء مصر وجولان سورية ، كل ذلك في ساعات معدودات أذهلت العالم وصعقت أمتنا التي سقطت جريحة مدماة ، لا تدري من هول الصدمة ما الذي جرى وتكاد لا تصدق أنها ترى حقاً جنود اليهود فوق ذرى الجولان وعلى شواطئ السويس وفي ساحات الأقصى والقدس الشريف !

 لقد صعد الخط البياني للمشروع الصهيوني إلى الذرى ، وتساقط العرب واحداً تلو الآخر يطلبون ودّ هذا الكيان ويطلبون رحمته ، ثم أخذوا يزعمون أنهم إنما يطلبون السلام : سلام الشجعان !

 انظروا إلى هذا التعبير المضحك : المهزومون المنهارون المتخاذلون يدعون الشجاعة ، يا لها من مهزلة تثير البكاء والضحك معاً .

 ولم نعد نسمع في بلاد العرب من شامها إلى يمنها ومن مغربها إلى خليجها إلا نداء السلام ولا شيء غير السلام حتى قال شاعرنا حانقاً غاضباً :

ثَكِلَتْ أُمكم، أليس لديكم             غير يحيا السلام عاش السلام!!

* * * 

 كان هذا الانتصار المذهل الذي حققته إسرائيل قد أصابها بالغرور الأعمى ، فنامت على فراشه الوثير ، وأصمت أسماعها عن كل نداء ، واستخفت حتى بالدول التي ناصرتها وأيدتها وأمدتها ، فأعرضت عنهم تحسب أن الدنيا أصبحت ملكها ، وأن الناس كلهم أصبحوا طوع أمرها .

 هذا الموقف الإسرائيلي كان أول سهم أصاب الكيان الصهيوني في مقتل ، وليس هناك من سهم أنكى من سهم الغرور .

 أقفلت إسرائيل أهم ممر مائي في العالم ، قناة السويس ، وهو الممر الذي لا يستغني عنه أحد من دول العالم ، فهو العصب والشريان .. وربما كان القلب النابض لكثير منهم .

 وحاولت كل دول العالم أن تقنع الصهاينة بالانسحاب من شاطئ السويس بضعة كيلومترات حتى يقنعوا مصر بتنظيف القناة وإعادة فتحها أمام الملاحة الدولية ، وكان ردهم بناء جدار بارليف الذي زعموا أن أحداً لا يستطيع اقتحامه ، وأداروا ظهورهم للعالم ..

 سنة واثنتان وحتى السنة السادسة ظلوا على غيهم وعنادهم ، فنفذ صبر العالم ، فغضوا طرفهم عن مصر وأغضوا عن استعداداتها لشن الحرب ، وعندما اقتحمت جيوش مصر قناة السويس ودمروا خط بارليف أو جدار باليف كما يحلو لي أن أسميه ، إذ أن هؤلاء القوم مغرمون ببناء الجدر ، عند ذلك أفاقت إسرائيل على حقيقة ساطعة : إنها أضعف من أن تقف أمام الجيوش العربية إن أتيح لها أن تقاتل وتهاجم ، فأخذت صرخاتها تعلو ، تطلب النجدة .. ولولا أن أنجدها الغرب آنذاك لكانت الآن تعيش مع الفعل الماضي .

 وكان زلزالا حرب 1967 وحرب رمضان قد أصابا اليهود إصابة مؤلمة ، وحرّكا في أمة العرب إرادة القتال وحب الانتصار ، فقامت فئات من أبناء فلسطين تأخذ على عاتقها مهمة تحرير فلسطين ، وساعدها على ذلك كثير من العرب .. ولكن وأسفاه لقد سلكوا في مسيرتهم طرقاً مغلقة لم يجدوا فيها منفذاً ، فارتدوا يقاتل بعضهم بعضاً ، وأخذوا يناضلون في غير نضال ويكافحون من دون كفاح ، ويجاهدون ..؟ إنهم كانوا يكرهون الجهاد !

* * *

 وعقدت مصر معاهدة السلام ، وقعها الجانبان هناك ... بعيداً في كامب ديفيد ، بعيداً عن البلاد التي يهمها الحرب والسلام .

 غضب العرب على مصر .. فقاطعوها ، هل هذا غضب حقاً أم مؤامرة لعزل مصر وهي أم العرب وسيفهم القاطع ؟

 ماذا كانت إسرائيل ترى في معاهدة كامب ديفيد ؟ إنها كانت ترى فيها شيئاً يشبه معاهدة الحديبية ، تحييد القوة الكبرى عند العرب والاستفراد بالقوى الصغرى التي لا حول لها ولا طول، تماماً كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ، حيّد قريشاً أكبر القوى في الجزيرة العربية وتفرغ للقوى الصغرى ليقضي عليها ، وبدأ أول ما بدأ بيهود خيبر !

 أكانت معاهدة كامب ديفيد شبيهة بمعاهدة الحديبية ؟ أنا أرى أن في واحد من أهدافها الرئيسية شبهاً وهو تحييد القوة الكبرى ، وفي سائرها اختلاف ، وخاصة في هدفها الرئيسي وهو التفرغ للدعوة ونشر الخير .. وأنى لإسرائيل أن يكون لها مثل هذا الهدف ؟

 وفي كامب ديفيد أقرت إسرائيل بأن سيناء مصرية وأنها ليست إسرائيلية ، فانسحبت منها ، وهدمت ما كانت بنت فيها من مستعمرات ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) ثم اعترفت بملكية مصر بطابا وما حولها .. وهذا أول شرخ في المشروع الصهيوني الذي يزعم أن النيل حدوده .

 * ويبدو أن تداعيات حرب رمضان أصابت المشروع الصهيوني بحمى المفاوضات والمعاهدات ففاوضت الفلسطينيين واعترفت لهم بحقهم في جزء من فلسطين وسمحت للذين قاتلوهم في الأردن ولبنان بالدخول إلى غزة والضفة الغربية زاعمة أنها سوف تمنحهم دولة .

 و كانت هذه الخطوة شرخاً آخر في المشروع الصهيوني ، وكان هذا الشرخ أكثر عمقاً من شرخ كامب ديفيد إذ أدى إلى تداعيات الانتفاضة الأولى .. وفيها قتل إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الذي وقع المعاهدة مع ياسر عرفات .

 كنت آنذاك في زيارة لمدينة جدة ، وعندما عدت إلى الفندق ودخلت حجرتي فتحت التلفاز فرأيت العالم كله في هرج ومرج .. ماذا حدث ؟ قُتل رابين ، أشفقت أن يكون قاتله فلسطينياً حتى لا يتعرض شعبنا للانتقام .. وعندما تبين لي أن قاتله يهودي .. هتفت من كل قلبي : مرحى .. مرحى .. هذا شرخ غائر في كيان العدو ، وسهم نافذ في قلب المجتمع الإسرائيلي لا أظنه يبرأ منه ..

 نعم شق هذا الحدث المجتمع اليهودي وتحقق قول الله فيهم : { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } نعم إن قلوبهم شتى .. فليلْهُ كل بكل .. وقد كان .

 ويجدر هنا أن نضيف أن السيد ياسر عرفات الذي وقع معاهدة السلام مع إسحاق رابين قتله أيضاً من قتل رابين .

 ثم وقعت الأردن معاهدة السلام .. واعترفت لها إسرائيل بحدودها وأرضها ضاربة عرض الحائط بزعمها أن الفرات حدودها !

 أوردت هذه الأحداث لأبين أن تحجيم إسرائيل وتقوقعها على نفسها قد أخذ يزداد يوماً بعد يوم ، ولو أردت أن أستبق الأحداث لقلت إن بناء الجدار الواقي وانسحاب اليهود من مستعمرات غزة وتدميرها بأيديهم وانسحابهم من جنوب لبنان هو تحجيم آخر يضاف إلى ما سبق أن أوردناه ..

 أما جدار الفصل فهو يدخل في سياق { لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر } والحقيقة أن جدار الفصل ليس جداراً واحداً ، بل هو جدر يتصل بعضها ببعض لتبدو المعجزة القرآنية ماثلة للعيان تحكي إعجاز هذا القرآن العظيم .

* * *

 وتندلع الانتفاضة الثانية أشد من الأولى وأعنف ، ويستعمل فيها شعبنا كل أنواع الأسلحة المتاحة وينجح في زلزلة الكيان الصهيوني في أكثر من مفصل :

 أولاً : أنهك الجيش الإسرائيلي وقزمه ، فبعد أن كان هذا الجيش معداً لمحاربة الدول العربية مجتمعة والانتصار عليها بلمح البصر ، لم يستطع أن ينتصر على مجموعات صغيرة من المحاربين ، فأنهكت قواه ، واضطر لأن يقزم من أهدافه حتى أصبح هدفه الأكبر القضاء على هذه الانتفاضة ثم تصاغر حتى غدا هدفه قتل هذا أو ذاك من قادة المقاومين ثم فر فراراً من قطاع غزة في إعلان واضح عن عجزه و عن هزيمته وجبنه .

 ثانياً : خلخل المجتمع الإسرائيلي وحطم أمنه بالعمليات الاستشهادية ، فجعل الحياة في إسرائيل نوعاً من الجحيم وصنفاً من العذاب ، فازدادت الهجرة منه وتوقفت الهجرة إليه !

 ولم تستطع دول العالم مجتمعة في شرم الشيخ أن تجلب له الأمن ، وكاد شمعون بيريز السياسي العجوز الفاشل دوماً أن ينفجر بالبكاء وهو يطلب النجدة والعون من دول العالم وهو يرى استقراره يتزلزل ويتحطم وينهار .

 ثالثاً : تفتيت المجتمع الإسرائيلي إلى آراء شتى وأحزاب متقزمة ، ينافس بعضها بعضاً ويلاعن بعضها بعضاً ويسخر بعضها من بعض ، وعندما جرت آخر الانتخابات الديمقراطية فيما يزعمون كانت نتائجها مذهلة : أحزاب تربو على العشرين كلها أقليات .. تماماً كما أن المجتمع الإسرائيلي كله أقليات .

 وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين الانتخابات الإسرائيلية والانتخابات الفلسطينية لوجدنا الصورة كما يلي :

 اختار الشعب الإسرائيلي مرشحيه موزعين على أكثر من عشرين حزباً ، من المتعذر أن يستطيع حزب واحد بل خمسة أحزاب تشكيل وزارة تقود البلاد ، ومن الحقائق التي تزري بالسياسة الإسرائيلية أن الأحزاب تستغل هذا الوضع وتساوم حتى تكسب مراكز ومالاً ، وكم من فضيحة ثارت ثم تستروا عليها وأغفوا عن مقترفيها .

 واختار الشعب الفلسطيني مرشحيه موزعين على حزبين كبيرين ، استطاع أكبرهما أن يؤلف حكومة منفرداً ، ونال ثقة المجلس التشريعي بسهولة ، ولولا أن تآلب العالم عليه لاستطاع أن يسير بالشعب الفلسطيني نحو النصر ، ومع ذلك فإن هذه الظاهرة الصحية تنبي بمستقبل زاهر ، أقول هذا وأنا أرى تطور الأحداث المؤسف ، ولكنه فقاعات هواء لا تلبث أن تتلاشى ويذهب معها الغبار المتطاير الذي ما إن يقع على الأرض حتى يكنس .

* * *

 إذا كنا قد تحدثنا عن أثر الانتفاضة في زلزلة الهالة المعقودة على رؤوس الضباط والجنود الإسرائيليين فإن الهزيمة النكراء التي لحقت بالجيش الإسرائيلي في حرب لبنان ( حزب الله ) قد حطمت هذه الهالة ، وغدت صورة هذا الجيش صورة الفلول المهلهلة المتراجعة منهزمة أمام القلة المؤمنة .

 قد يقول قائل : إنك ترسم صورة مبالغاً فيها ، وتضفي على المقاومين في كل من فلسطين ولبنان هالة كبرى ، كأنك تنقل هذه الهالة من فوق رؤوس المقاتلين الإسرائيليين لتضعها فوق رؤوس المجاهدين .

 وأقول لكل من يقول ذلك : إن المجاهدين إذا كانوا مجاهدين حقاً فسوف يكونون بإذن الله أصحاب هالات وليس هالة واحدة ، وسوف يبقون الجند التي لا تقهر ما داموا يحققون قول الله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } وقوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض ...} .

 وبشريات النصر الإلهي لجند الله وحزبه كثيرة ، وهي التي سبقت المقاتلين الذين أطاحوا بدولتي الفرس والروم دفعة واحدة .. وهم المنتظرون القادمون .

* * *

 وصورة أخرى نضيفها إلى الصور السابقة لتراجع المجتمع الإسرائيلي وانحداره هي صورة التفسخ الأخلاقي من القاعدة حتى رأس الهرم .

 وهذا رئيس الدولة " كتساب " يتعرى أمام العالم ، ويقف مكشوفاً للجميع عاهراً يتحرش بكل فتاة عملت معه في إدارات الدولة التي يترأسها .. ثم قذف خارج هذه المؤسسات بعد أن انتشرت رائحته النتنة ولم يعد بمستطاع أن يتستر عليه ، ثم لم يجدوا بديلاً عن هذا الرئيس العاهر سوى شمعون بيريس السياسي الإسرائيلي الفاشل دائماً !!

 وهذه ابنة اولمرت رئيس الوزراء تصرح أنها متزوجة من أنثى وتعيش معها في شقة واحدة وأن أباها يبارك هذا الزواج .

 أهذه أمة جديرة بالبقاء .. بل هل تستطيع أمة بأخلاقها أن تبقى متماسكة ؟!

* * *

 أما الضربة المزلزلة لهذا المشروع الصهيوني فهي بناء ما يسمونه الجدار الواقي ، والحقيقة أنه مجموعة من الجدر ، إن هذا الجدار الذي يبنى ويحجم الكيان الصهيوني ويغلقه هو الدليل الساطع على فشل المشروع الصهيوني وتقهقره ، وهو أيضاً تحقيقاً لما ألمح إليه القرآن الكريم من أن هؤلاء القوم سيقاتلوننا من وراء جُدر وفي قرى محصنة ( مستعمرات كما يدعونها ) .

 { لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر } .

 إذن القتال قادم ، والمعركة الطاحنة في القريب العاجل ، ألم يعد المسرح ببناء القرى المحصنة ( المستعمرات ) والجدُر .. ألم يبنها هؤلاء القوم بأيديهم !؟ ولم يبق بيننا وبين المعركة الفاصلة سوى أن يرفع الستار !

* * *

 لولا أقوام منا يسندون هذا الجدار الإسرائيلي الواهي لانهار منذ زمن ، ولكن لكل أجل كتاب ..