تصنع الطرابيش من البندورة
د.خالد الأحمد *
1
الطرابيش التي كان أجدادنا في المدن يلبسونها زمن العثمانيين لونها أحمر ، وكان أستاذي في الصف الأول الابتدائي يرحمه الله يلبس واحداً منها ، ولأن البندورة ( الطماطم ) لونها أحمر أيضاً ، لذلك يقول البسطاء السذج ، بما أن الطرابيش لونها أحمر ، والبندورة لونها أحمر أيضاً ، إذن تصنع الطرابيش من البندورة ...
هذه السطحية في التفكير تشبه من يقول جماعة الإخوان المسلمين ، جماعة إسلامية ، والإسلام دين ، إذن جماعة الإخوان المسلمين تدعو إلى حكومة دينيـة ( ثيوقراطية ) ، ومن يقول هذا فاتتـه عدة حقائق منها :
** دعا الاســلام إلى حكومة مدنيـة ولم يدعو إلى حكومة دينيـة ( ثيوقراطية ) ، بل يعتبر الإسلام الدعوة إلى حكومة دينية ( ثيوقراطية ) من الشرك الأكبر ، الذي جاء الإسلام للقضاء عليه ، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد ، وإليك هذا التفصيل :
فماهي الدولة المسلمة ؟ وكيف تكون مدنية ؟ وليست دينية !؟
1 ـ الدولة الدينيـة ( الثيوقراطية ) : ويقصد بها الدولة التي تحكم باسم الإلـه ، وتجعل نفسـها وكيلة عن الله عزوجل ، وفي هذه الحالة لايجوز مراجعتها ، ولامناقشتها ، أو محاسبتها ، ناهيك عن إقالتها واستبدالها بغيرها . يقول الدكتور صلاح الصاوي : ( الثيوقراطية هي ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهي مصدراً للسلطة السياسية ، ويدعي القائمون عليه أنهم مفوضون عن الله ، وأنهم ناطقون باسم السماء ،... ويجب الإذعان لجميع قراراتهم والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض لأن الاعتراض عليها يكون اعتراضاً على الله الذي يتحدثون باسمه وهم وكلاؤه على الناس ... وقد عرفت أوربا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطى ، بناء على الكلمة المأثورة لديهم والتي ينسبونها إلى السيد المسيح عليه السلام ( ماتحلونه في الأرض يكون محلولاًفي السماء ، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء ) ولهذا يملك الأحبار والرهبان حق النسخ والتحليل والتحريم من دون الله ، وقد شنع القرآن عليهم ذلك في قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ....}ـ التوبة 31 ـ
2 ـ مبدأ الحاكميـة :
يرى الخائفون من الدولة المسلمة من العلمانيين والليبراليين وغير المسلمين أن الجماعات الإسلامية كلها تتمحور حول فكرة الحاكمية ، حتى أصبحت أهم المنطلقات الفكرية عند التيار الإسلامي المعاصر . ألا تعني الحاكمية أن الحكم لايكون إلا لله ، ولايمارس إلا باسمه وحده ، الأمر الذي لايأتي إلا بدولة دينية ، ولايتمخض إلا عن طغيان يمارس باسم الدين ، وكهنوت يفرض وصايته باسم الشريعة على عامة المواطنين ؟
ويرد الدكتور صلاح الصاوي على هذا الخلط والالتباس فيقول جزاه الله خيراً : ( ولعل منشأ هذه الشبهة هو الخلط بين مصدر السلطة السياسية ، وبين مصدر النظام القانوني ، فالسلطة في الإسلام مصدرها الأمــة ، والنظام القانوني مصدره الشـارع ، وهذا المصدر الرباني للنظام القانوني لايضفي أي قداسـة على النظام السياسي ، ولايعني بالضرورة أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من الحق الإلهي ، بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل ضمانة تحول دون طغيان السلطة السياسية ، لأن هذا النظام القانوني يخاطب الحاكم كما يخاطب المحكومين ، ويخضع لـه الجميع حكاماً ورعيـة على السـواء ، ولاسبيل إلى تغييره أو العبث بـه باصطناع أغلبية مأجـورة تتبنى أهواء الحاكم داخل المجالس التشريعية ، كما هو الحال في كثير من الأنظمة الوضعية )( ) .
3 ـ الحاكم المسلم يخضع للشرع مثل أي مواطن :
ومما يؤكد أن الدولة المسلمة دولة مدنية ، أن الحاكم يخضع تماماً للشرع مثل أي مواطن ، ولايتميز عنه بشيء ، وهذا سـر عظمة الإسلام كما يتبين من الأمثلة التاريخية التالية :
أ ـ في غزوة بـدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه ، وفي يـده قـدح ( سهم ) يعدل به القوم ، فمر بسـواد بن غزيـة وكان خارج الصف ، فطعن في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد فقال : يارسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ، قال : فأقدنـي ( أي أقتص منك ) ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنـه ، وقال : اسـتقد ، فاعتنقه فقبل بطنـه ( ).
ب ـ قال العتبي : بعث إلى عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوب فصعد ( عمر ) المنبر وعليه حلـة ، والحلة ثوبان ، فقال : أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان : لانســمع . قال (عمر ) ولم يا أباعبد الله ؟ قال : لأنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة ( والحلة ثوبان ) . قال عمر : لاتعجل يا أبا عبد الله . ثم نادى : يا عبدالله ، فلم يجبه أحد ، فقال : يا عبدالله بن عمر ، قال : لبيك أمير المؤمنين . قال عمر : نشـدتك بالله ، الثوب الذي اتزرت به هو ثوبك ؟ قال : اللهم نعم . فقال سلمان رضي الله عنه : أما الآن فقل نســمع ـ [كتاب عيون الأخبار (1/55)].
ج ـ وكان القصاص من الحاكم أمراً عادياً ، وكتب التاريخ تروي لنا الكثير وهذه منها : ذكر ابن الجوزي أن عمرو بن العاص قال لرجل من المسلمين كان معه بمصر : يامنافق ، فشكاه إلى عمر بن الخطاب فكتب أمير المؤمنين إلى والي مصر يقول له : أما بعد فإن فلاناُ ذكر أنك نفقتـه ، وإني أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين ، فقام الرجل فقال أنشد الله رجلاً سمع عمروا نفقني إلا قام ، فقام عامة أهل المسجد ( يشهدون ضد الحاكم ( )) فقال له حشم عمرو : أتريد أن تضرب الأمير ؟ قال : وعرض عليه الأرش ( فدية مال ) فرفض ، فقال عمرو : اتركوه وأمكنه من السوط وجلس بين يديه ، فقال الرجل : أتقدر أن تمنع مني لسلطانك ؟ قال عمرو : لا ، فقال الرجـل : فامض لما أمرت به فإني أدعـك للـه ) . ( مناقب عمر لابن الجوزي ص 66) .
د ـ القضاة يحكمون على الخلفاء : روى البيهقي أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي ابن كعب رضي الله عنهما خصومة في حائط ، فقال عمر : بيني وبينك زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله ، فلما دخلا عليه قال له عمر : جئناك لتقضي بيننا ، وفي بيته يؤتى الحكم . فتنحى له زيد عن صدر فراشه ، فقال عمر : جرت يا زيد في أول قضائك ، ولكن أجلسني مع خصمي ، فجلسا بين يديه ، فادعى أبيّ وأنكر عمر ، وحكم زيد على عمر باليمين فحلف عمر رضي الله عنه ( ).
هـ ـ بيان الخليفـة الأول
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، يلقي بيان الحكومة الذي يبين سياسة الدولة المسلمة ، وموقفها من المواطنين فيقول في المسجد : ( أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ...... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، ... ( ) ) ، ويروى أن عمر رضي الله عنه كرر هذا البيان عندما بايعه المسلمون أميراً عليهم ، فيقف أحد المسلمين مستلاً سيفه ويقول : والله لو رأينا فيك اعوجاحاً لقومناه بسيوفنا ، فيقول عمر : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم اعوجاحه بسيفه .
وفي كتب التاريخ أمثلة كثيرة جداً تبين أن الحاكم المسلم كان فرداً من المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ماعليهم ، ولم يكن له أي صفة من القداسـة ، بل كان المسلمون يراجعونه في كثير من الأحيان ، لقناعتهم أنه بشر مثلهم يصيب ويخطئ ، وأنه محكوم بالشرع ، الذي إن دلوه عليه عاد والتزم بـه حالاً .
فهذا الفاروق عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه يروي عنه العقد الفريد : ( خرج عمر بن الخطاب من المسجد والجارود العبدي معه ، فبينما هما خارجان إذ بامرأة على ظهر الطريق ، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام ثم قالت : رويدك ياعمر حتى أكلمك كلمات قليلة . قال لها : قولي . قالت : ياعمر ! عهدي بك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الفتيان ، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين ، فاتق الله في الرعية ، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت ، فقال الجارود : هيه قد اجترأتِ على أمير المؤمنين . فقال عمر : دعها ، أما تعرف هذه ياجارود ؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سمائه ، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها( ).
وقال حذيفة : دخلت على عمر فرأيته مهموماً حزيناً . فقلت له : مايهمك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني اخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً لي . فقال حذيفة : والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك . ففرح عمر وقال : الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوموني إذا اعوججت ( الطنطاوي 358) .
وروي أنه قال يوماً على المنبر : يامعشر المسلمين ، ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا ( وميل برأسه ) . فقام إليه رجل فقال : كنا نقول بالسيف كذا ( وأشار إلى القطع ) . فقال : إياي تعني بقولك ؟ قال : نعم إياك أعني بقولي . فقال عمر : رحمك الله ، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني . ( المرجع السابق ) .
ولم يكن ذلك محصوراً في الخلفاء الراشدين ، بل امتد فترة طويلة ، وكان من صفات الحاكم المسلم ، خضوعه لشرع الله ، وامتثاله للنصيحة من المسلمين ، فقد وقف معاوية رضي الله عنه يوماً على المنبر يقول : اسمعوا واطيعوا ، فقام مسلم الخولاني فقال : لاسمع ولاطاعة ، كيف تمنع العطاء ؟ وإنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ، ولا من كد أمك ، فغضب معاوية ونزل عن المنبر ، ثم غاب برهة ثم عاد وقد اغتسل ثم قال : إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ] ( ). وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق أبو مسلم ، إنه ليس من كدي ، ولا من كد أبي ، فهلموا إلى عطائكم .
وحج أبو جعفر المنصور ، فطلب سفيان الثوري فجاءه ، فقال له سفيان : كم أنفقت في سفرك ؟ قال : لا أدري ، لي أمناء ووكلاء ، فقال سفيان ك فما عذرك غداً !؟ إذا وقفت بين يدي الله تعالى !!!؟ فسألك عن ذلك ؟ لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما رجع قال لغلامه : كم أنفقت في سفرنا هذا ؟ قال : ثمانية عشر ديناراً ، فقال عمر : ويحك !! أجحفنا بيت مال المسلمين ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ رب متخوص في مال الله فيما شاءت نفسه له النار غداً ] فيقول أحد متزلفي الحاشية : أمير المؤمنين يستقبل بهذا !!؟ فأجابه سفيان : اسكت ، إنما أهلك فرعون هامان ( البدري ، 73) .
وفي كتاب الشيخ عبد العزيز البدري يرحمه الله ( العلماء والحكام ) أمثلة كثيرة من هذا القبيل ، تبين مدى خضوع الحاكم المسلم للنصيحة ، واستماعه للعلماء ، واحترامهم ، والرجوع عن بعض قراراته عندما يسمع كلامهم .
هذه أمثلة من التاريخ تؤكد أن الحاكم المسلم حاكم مدني ، يطبق عليه القانون ( الشرع ) كما يطبق على أي مواطن آخر ... فالإسلام دين رباني خاتم للرسالات السماوية ، أنزله الله عزوجل ، وجعله صالح للبشر حتى قيام الساعة ، ومشكلة الناس عدم الاطلاع على الإسلام ، وربما يصدهم عن ذلك أن ( المسلمين ) ينشرون بسلوكهم وأفعالهم صورة مناقضة تماماً للإسلام الحقيقي الذي أنزله الله عزوجل في الكتاب والسنة ... وإذا عذر الجاهلون من العامة ، فلايقبل عذر المثقفين من العلمانيين والليبراليين والمتنورين الذين يمكنهم أن يقرأوا ويعرفوا الحقيقة ....
إذن لايكفي أن نحكم على الطرابيش بسبب لونها الأحمر أنها تصنع من البندورة ، ولايكفي أن نحكم على جماعة الإخوان المسلمين ، أنها تريد حكماً ثيوقراطياً لأن الإسلام دين ...ولابد من البحث عن التفاصيل لمعرفة الحقيقة ...
* كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية