هيغل والدين الإسلامي
ياسين سليماني
[email protected]
إنّ ما قدّمه الفيلسوف
الألماني هيغل (1770-1831) فيما يخصّ الشرق على العموم والإسلام على الخصوص
يجيء في سياق محاولته لاصطفاء الشعب الجرماني على أنّه أفضل الشعوب مثلما كان
أرسطو قبله بقرون يُنظّرُ لأفضليّة اليونانيّين على من سواهم، غير أنّ الرفض
الذي يصل إلى حدّ نبذ الآخر وعدم الاعتراف به مطلقاً لا يمكن أن يُعبّر إلاّ عن
صورة من التعصّب وصلت إلى أقصاها وهو ما لا يصحّ عند واحد من كبار الفلاسفة في
العصر الحديث مثل هيغل وفي هذه السطور سنحاول التعرّف على موقف فيلسوف قال عنه
شوبنهاور بأنّ " رأسه رأس صاحب حانةٍ للجعة" ونخصّ موضوع الإسلام
والمصادر التي قرأها في هذا المجال.
يعود اهتمام هيغل بالإسلام
إلى مرحلة الدراسة الثانويّة ، وُظهر ما دوّنه في فترة الشباب إلى أنّ العالم
الإسلامي كان حاضراً في ذهن هيغل منذ بدايات وعيه الفكريّ واستقى هيغل أكثر
المعلومات عن العرب وعن الإسلام كحضارة من كتاب جيبون "
تاريخ انحطاط وسقوط الامبراطوريّة الرومانيّة"
الذي قرأه هيغل وفيه فصول عن الفتوحات الإسلاميّة وتطوّر العلوم عند العرب ونقل
المعارف الفلسفيّة والطبيّة إلى أوروبا بواسطة مراكز ثقافيّة مثل قرطبة وطليطلة
وأماكن أخرى من إسبانيا وإيطاليا.
تناول هيغل-كمؤرّخ
للفلسفة- الفلسفة العربيّة كجزء من مرحلة كبيرة في تاريخ الفلسفة تمتدّ إلى حوالي
الألفي سنة ، من أواخر القرن الخامس الميلادي(نهاية الأفلاطونيّة المُحدثة) حتّى
النصف الثاني من القرن السادس عشر مع بداية الفلسفة الحديثة وتحديداً ديكارت
، لم تحظَ بكبير الاهتمام من جانب هيغل وبالتالي فقد سمح لنفسه بأن يجتاز هذه
المرحلة من تاريخ الفلسفة بخطى سريعة ولم يُكلّف نفسه عناء العودة إلى مؤلّفات
فلاسفة هذه المرحلة واكتفى بما كتبه مؤرّخو الفلسفة من معاصريه رغم انتقاده الشديد
لهؤلاء المؤرّخين.
خصّص هيغل خلال معالجته
فلسفة القرون الوسطى بعض الصفحات لما يُسمّيه فلسفة العرب بما في ذلك ابن
ميمون مُمثِّلاً للفلاسفة اليهود غير أنّ هيغل كان يعود في هذا الفصل بشكل شبه
كليٍّ إلى ترجمة لاتينيّة عن ترجمة عبريّة رديئة لكتاب "دلالة الحائرين"
لابن ميمون وهذا في رأي بيار غارنيون مُترجم محاضرات هيغل في تاريخ الفلسفة
إلى الفرنسيّة . كما اعتمد على كتابات وترجمات المستشرقين المعاصرين له مثل
تولوك
Tholuk
صاحب أوّل كتاب في أوروبا عن التصوّف الإسلامي ، إضافة إلى روكرت
Ruchert
الذي
ترجم بعضاً من أشعار جلال الدين الرومي وآخرين ، ويعتبر هيغل أنّ ترجمات روكرت لا
تقلّ أهميّة عن أشعار غوته ، كما اطّلع على ترجمة لديوان حافظ الشيرازي إلى
الألمانية التي أنجزها هامر
Hammer
وهذه هي المراجع
الأساسيّة لهيغل عن الإسلام.
اهتمّ هيغل في "محاضرات في
فلسفة الدين" بالتوفيق بين فلفته والديانة المسيحيّة (البروتستانتية) فيقول:
" للفلسفة دور مزدوج، إذ
يتعيّن عليها أوّلاً أن تُزيل هذا الانفصام (بين الفلسفة والدين) وثانياً أن توحي
للدين بالشجاعة من أجل معرفة أهميّة الحقيقة والحريّة"
ويقول:
"إنّ الأديان إنّما تقرّرت
في تتابعها بموجب المفهوم وليس من الخارج، أنّما تحدّدت الأديان بطبيعة الروح الذي
اندفع في العالم من أجل إدراك وعيه لذاته"
، إذن لا محالة هنا حسب تعبيره لـ"الصدفة" كما يقول بذلك المؤرّخون.
يُفهم من هذا الروح بالمعنى الكبير
للكلمة عند هيغل أنّ الأخير لا يقبل بظهور دين جديد بصرف النظر إن كان بوحي أو بدون
وحيٍ فالنتيجة واحدة في نظر هيغل بعد ظهور "الدين المطلق" وهكذا في هذه الصورة التي
يرسمها للأديان لا مكان للإسلام كدين.
يعترف هيغل في " محاضرات في فلسفة
التاريخ" بـ" أنّ العلوم والمعارف خاصّة الفلسفيّة منها
جاءت إلى الغرب من عند العرب وبمجرّد الاحتكاك بالشرق اشتعلت شعلة شعر جميل وخيال
خصب عند الجرمانيين" ويتحدّث عن الإسلام كـ"ثورة الشرق" لكن دون أن
يتلفّظ بكلمة "إصلاح" أو "مقارنة" صراحة بين الإسلام والإصلاح البروتستانتي ، إذ
كيف يطرحها وهو يعرف أنّ أنصار الكنيسة التقليديّة قد اتّهموا "الإصلاح" بالإسلام
وأنّ أنصار الإصلاح البروتستانتي ردّوا على خصومهم بالتهمة نفسها؟
يميّز هيغل بين الإسلام الأصلي الحضاري
الذي انسحب أو اختفى من ساحة التاريخ العالمي ودخل في هدوء الشرق ولامبالاته من جهة
وبين الامبراطورية العثمانية وما آلت إليه أمورها من جهة أخرى ، ويكاد لا يخفي
إعجابه وتقديره لجوانب يراها نموذجيّة في الإسلام مثل:"إنّ
العرب في فترة وجيزة من الزمن وجدوا أنفسهم متقدّمين على الغرب بكثير".
ويضع هيغل الإسلام في سياقه التاريخي
مقارنة مع الأديان الشرقية الأخرى فيقول:"لم يكن يهوه
غير إله شعب واحد... لم يعقِد ميثاقه إلاّ مع اليهود وحدهم ، هذه الخصوصيّة ألغاها
دين محمّد".
ويقول:"إنّ
الإسلام لا يسمح بأيّ تصوير لله ، حيث هذا الموضوع روحيّ محض".
وهنا يمكن أن نلتمس المقاربة الحاصلة
في ذهن هيغل بين الإسلام وموقف الإصلاح البروتستانتي تجاه الأيقونات والتماثيل
وعلاقة الكاثوليك بهذه الرسوم وموقف الإسلام من كلّ الرسوم والتماثيل التي ترمز إلى
الله .
ثمّ يقول:"لا
ثورة دون إصلاح" والمقارنة مع روبسبير والثورة الفرنسية أنّها "إشراقة
شمس رائعة" واعتبار الإسلام ثورة الشرق، هذه الاعتبارات جميعها قد تكون كافية
لافتراض المقارنة مع لوثر أيضا.
و هيغل يعترف للعرب بفضل الإسلام ،
وكغيرهم من الشعوب بأنّهم ملأوا "الدرجة" المُقرّرة لهم في التاريخ العالمي ، فلم
يترك العرب ساحة التاريخ العالمي قبل أن يورثوا العالَم الجرماني مساهمتهم الملحوظة
في دائرة الروح المطلق أي الفن والدين والفلسفة وِفقاً للّوحة الثلاثيّة العزيزة
على هيغل ولِتصوّره عن علاقة شعب من الشعوب بالروح العالمي، وفي ختام الفصل الخاص
بالإسلام في "محاضرات في فلسفة التاريخ" يعترف هيغل بفضل العرب على الغرب
فيما يتعلّق بالفن والفلسفة عندما يقول:" إنّ العلوم
والمعارف خاصّة الفلسفيّة وصلت إلى الغرب من عند العرب" ولكنّه لم يذكر
الدين بكلمة ، فهل هذا تخلٍّ عن الصيغة الثلاثيّة وإسقاط العمود الثاني من ثالوثه
المطلق"الفن والدين والفلسفة"؟ غير أنّه من يعرف الظروف التي كان يُلقي فيها
هيغل هذه المُحاضرات في جامعة برلين الملكيّة في عشرينيّات القرن التاسع عشر يُدرك
لماذا كان هيغل يكتفي بتلميحات هنا وهناك.
لم يقل هيغل أنّ الاحتكاك المباشر
بالإسلام كان سببا من الأسباب القريبة أو البعيدة للنهضة الأوروبيّة أو للإصلاح
الديني في أوروبا ولكن هذا الافتراض يبدو ضروريّاً على الأقل لإنقاذ صورة الثالوث
المطلق:فن،دين،فلسفة، في تحقّق الروح المطلق في مسيرته العالميّة.
سبق وأن ذكرنا أنّ هيغل استعان في
حديثه عن فلسفة العرب بكتاب"دلالة الحائرين"لابن
ميمون ولذلك نجده يتحدّث عن المُتكلّمين وكأنّ فلسفتهم تمثّل كل ما هو فلسفيّ
في الفكر العربيّ والإسلاميّ، أمّا أسماء مثل الكندي ،الفارابي،الغزالي،ابن
رشد،فيذكرهم هيغل على أنّهم شُرّاح لأرسطو فقط ولولاهم لما عرف الغرب أرسطو، فلم
يُطل الحديث عنهم واكتفى بالقول:"إنّهم طوّروا الميتافيزيقا العقليّة الحججية
والمنطق الصوري ويقصد بذلك أنّهم لم يخرجوا عن الميتافيزيقا والمنطق التقليدييْنِ
بنظر هيغل.
وما نشير إليه كذلك أنّ هيغل لم يُخفِ
إعجابه وتعاطفه مع الفلسفة القائمة في أساس الشعر الصوفيّ في مقابل أنّه لم يعرف
شيئا بصورة مباشرة عن الفلاسفة العرب ، إلاّ أنّ هيغل في أغلب الظن لم يعرف الإسلام
معرفة مباشرة عن طريق مصادره الرئيسيّة وأوّلها القرآن الكريم كما أنّ أغلب
معلوماته عن الفلسفة العربيّة مُشوّهة وهي في مُجملها محدودة.
كذلك فهيغل الشاب يرى بعض شُرّاحه أنّه
آمن بـ"الحلوليّة" في ذلك الوقت، خاصّة أنّه تأثّر بجلال الدين الرومي في
أشعاره الصوفيّة ، فهو يُهدي قصيدة إلى صديقه هولدرلين بعنوان إيوزيس يقول
مطلعها:"أنا به،
أنا الكل، أنا لست إلاّ هو" وهو هنا يخاطِب
صديقه ويخاطب الحبيب الأوّل في آنٍ واحد . ولا يقتصر الأمر عند هذه القصيدة فقط ومن
الممكن الحديث عن تصوّف فلسفي أو عقلي عند هيغل قابل للمقارنة مع التصوّف الفلسفي
عند العرب خاصّة الفارابي.
كفيلسوف عالمي خيّب هيغل الطموحات،
فالفيلسوف لا يكون مُتعصّباً ولا داعٍ للكراهية والحقد، ولقد وجد الباحثون أنّ هيغل
كان سبباً في الحركة النازيّة لأنّها أُقيمت على فلسفته، وهذا يدعونا للحديث عن
آرائه في الاستعمار فهو قد هنّأ فرنسا مثلاً لاحتلالها الجزائر عام 1830 غير أنّ
القدر لم يمهل المسكين فمات بالكوليرا في العام الموالي.
مصادر ومراجع المقال:
1-Higel
.leçons sur la philosophie de la religion . ed vrin.paris.1979.
2-Higel
.leçons sur la philosophie de l histoire.tra Gilelin.ed vrain.paris.1979.
3-راتب حوراني،مجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد 62-63 ،مارس-أفريل 1989 ،مركز
الإنماء القومي ، بيروت ، باريس.
ويقول هيغل مُجرياً مقارنة بين ثورة الشرق(الإسلام) والثورة الفرنسيّة ويتحدّث عن
العرب والمسلمين الأوائل الذين حقّقوا هذه الثورة :"إنّ
مبدأهم كان الدين والعنف مثل مبدإ روبسبير "الحرية والعنف"