الحسد

منى كوسا

[email protected]

الحسد جرثومة حارقة و هو متوجس في المجتمعات توجساً شديداً مما يثير القلق, حتى بات الحاسد يغدو ذئبا ًيطرد كل طيور الخير من صدره يمشي فوق العصافير و عيناه تنفثان حمماً و الألم العميق هو الوحيد الباقي في نفسه , لا يستطيع أن يرى الناس سعداء لا يسأل عن نفاقه البشري الذي زرعه في كل مكان يسعل غيظا كأن النيران في ثيابه وجلده و وجهه خريطة ملأى بالحزن وحالته تسوء يوماً بعد يوم  و الحسرة تطالعه لا يعرف ماذا أصابه , ماذا جرى لصحته النفسية , ها هي مواكب الحسد   أعمدة دخان  تتعالى وراءها و كأنها إعصار مخيف كاسح يحرك الأرض و يساقط الثمار من الشجر و لكن ماذا تفعل الكلمات عن الحسد والحاسدين ؟ سنوات طويلة مريرة وشعوب تحاول استبدال بدلته الحربية المخيفة بمعطف عصفور و تزرع الأزهار في صحرائه المتوحشة .

بيد أن السؤال الملح في هذا السياق يتمثل في الاستفهام التالي : هل نحن حقا بحاجة إلى عملية بناء الإنسان أم بناء مجتمع يضم الإنسان السوي ؟ و للإجابة عن هذا الاستفهام يتوجب علينا أن نكون واقعيين و موضوعيين بالقدر الذي يمنحنا الفرصة والشجاعة لاعتماد منظور حيوي , عملي و اجتماعي يتناول الإنسان بمعناه الإنساني الذي يوحي بصناعة المستقبل و يولد أفكارً جديدة تهدف إلى التقدم والتطور .

ليس سهلا أن نجعل الحسد و الحاسد موضوعا للتأمل و مجالا لاستقصاء و ليس من اليسير أن نجعل منهما موضوعا للتنظير مثلما يتعذر علينا أن نضع مسافة فاصلة بينهما لذلك فإن صعوبة الحديث عنهما بشكل مفصل في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة يرتبط بصعوبة حصر أدوات التحليل فليس الموضوع شديد الارتباط بمستوى التصور و الفعل الخطير فقط بل متعد نحو تخوم تحاذي آليات إنتاج الثقافة و ما تنتجه من تجليات للأنساق القيمية الخلاقة , لذلك علينا بداية الإقرار بتعدد تعريفات الحسد كما عرفّها المفكرون و الفلاسفة و الكل يجمله بأنه قوة خطيرة قاتلة للناس بصورة أكثر مما يقتله الفقر , الإيدز ,الحروب و الخطر النووي , إنه جرثومة فظيعة تهدم الذهن , يعتبر سرطان  أخلاقي , عقلي و هو أداة هدامة لقوى الخير والجمال , يلوث ويشوه المجتمع .

وهو معروف منذ القدم على قول أحد المفكرين " الحسد قديم قدم العالم " .

أما دي فرانسيسكو دي كيفيدو يؤكد أن طاعون العالم يتمثل في أربعة : الحسد و الخيانة و التكبر والبخل .

ويقول شوبنهاور : " من الطبيعي أن نحزن لنقصنا عندما نتأمل السعادة  والخير عند الآخرين ..." .

أما أر سطو يرى أن الحسد مرض روحي يظهر عند " حدوث خير لشخص آخر " و أن الحسد يظهر أمام كل ما يمكن أن يسبب السعادة . و " إن من يبتغي النصر " هم أكثر الناس سعادة " .

أفلاطون يرى أن " الحسد هو الشعور باللذة أمام شر يصيب شخصاً آخر , أي الفرح لألمه . و كان يصفه بأنه شر ضد المجتمع لأنه " يضعف المدنية " .

أما ميكل دي أنا مونو يصف هذا الإحساس بأنه " لذة نفسية نجسة , و غرعرينا داخلية , جامحة وفظيعة و سرطان في روح الإنسان "

بينيطو إسبيبنوسا / فيلسوف هولندي من أصل إسباني / يقول : " أغلب الناس يحسدون و لا يتحملون بعضهم البعض " , و أكد أنه موجود بشكل أكثر عند المتكبرين بشكل مفرط .

و يؤكد كونسالو فرناندس دي لامورا صاحب " الحسد المتعادل " أنه من غير الصحيح أن الناس يخلقون سواء بل الواقع أنهم يأتون إلى هذا العالم بقدرات مختلفة و من البديهي أن يكونوا درجات .

وبرأيه الحسد هو" الذنب الأكبر الوحيد الذي لا يعترف به أحد من أجل خداع النفس و عدم الافتضاح أمام المحسود , و ذلك لأن الإنسان له وعي تلقائي بأن ذلك إحساس شرير .."

أيضا قال عنه " الشر المطلق في الحسد هو السبب الذي يجعل من يعاني منه يستره حتى عن نفسه "

" الحسد هو إحساس يوجد في كل زمان ومكان ..."

كذلك وصفه بأنه " إحساس سافل و يضر الحاسد و المحسود , إنه الشر بعينه , لأنه ليس هناك شيء يبرر الألم لسعادة الآخرين و الفرح لمصائبهم , إنه إحساس وضيع ليس فيه أي خير ...".

أما ميلاني كلين : إحساس الحسد يبدأ دائماً بالإعجاب الذي يحسه الفرد اتجاه شخص ما , إحساس يتحول إلى الحب و الحنين , في وجهه الإيجابي , أو على الحسد في وجهه السلبي .

ونصل إلى استخلاص النتيجة بأن الحاسد هو وحش خرج من كهوف التاريخ لم يعد أحد قادر على تهدئته, في كل لقاء له مع خصمه المتفوق لا بد له أن يدس بضعة ثعابين في صدره و يتركها مع سمومها تنفث حقدا و كراهية  و صرخات المحسود تتحول إلى نداء إنساني ,استغاثة و بكاء من أجل وقف كل هذا الخراب و الخطر الذي لحق به  , كذلك

تنام المدن  وتصحو على ساعته الخطيرة و هي محكوم عليها بالفقر و التخلف و الفشل وتسمع صرخات أفرادها و احتضارهم و انكسارهم تهز الأرض و الفضاء ..تدعو مواليدها كلما جلجل رعد الحسد حوض الغيوم , انتشت بعناق المطر و صوتها من قرار مرارتها تعلن موت الحاسدين بأن يخبئوا سعال عواطفهم في رفاه توابيتهم , بعدما كانوا يلعبون في خيالهم يطاردون  السعداء ,يطيرون بعيداً و يحطون قريبا ًعقلهم في مكان آخر في مكان غريب و أفكارهم تنمو وتتعفن .

لم يعد أحد قادراً على إيقاف انتشار تلوث الحسد , وباء كالطاعون , عفن اجتماعي , أزيز رصاص لا بل سم قاتل يأتي من خنجر أزرق ملعون كاوي  , طعنة منتقاة تخيّرها قاتل يعرفك يريد لطعنته ميتة خاطفة .

تحسس مواضع ألمك و لا تيئس حين تكشف وجه الغريم و تلقاه ذاك الصديق أو القريب الذي كان للتو قد قبّلك يريد إطفاء ما أشعل الله فيك من ذكاء و تعتيم تألقك و قل معي :ترفق يا قلب بنا و لا تبكِ, لا تنزفني أمام ناسِ و مجتمعي , لا تخذلني في قمة سطوعي , أنا الآن ملأت وطني صحوة و غضباً و غداً سأفعل أكثر و يكون لي شأن أكبر , بإشارة من يدي تصحو المدن وتنام وتبني في الرمل ورد جميل , تسطع شمسها وسط السحاب  , بورقة من قلمي تتدفق ألق , تنظر إلى القدر بعين وامضة فلا تدمع العين و لا يتشنج الوجه , بل الكيان سيبقى صلب و لا يشوى بنار حاسد لا تنفعه صلاته ما دام طاغوته لم يتزحزح من دمه و من فمه كمن عبر سياج الحق نحو الباطل وضاق ما اتسعت به الأكوان من غضب  .