علام قامت الحضارة الإسلامية

د.غازي التوبة

[email protected]

شكّل القرآن الكريم أساس الكيان الحضاري للمسلمين، فكان مرجعهم في كل شؤونهم، فاستمدوا منه أحكامهم التشريعية، وأخذوا منه تصوراتهم الدينية، واستندوا إليه في أحكامهم الفقهية إلخ… وقد كان ذلك تطبيقاً لبعض آيات القرآن الكريم التي وصفت القرآن الكريم بأنه تبيان لكل شيء، قال تعالى: ]وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء[ (النحل،89)، وقال تعالى: ]قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين[ (المائدة،15)، وقال تعالى: ]وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم[ (النحل،44)، ]وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه[ (النحل،64). وقد تعامل المسلمون مع القرآن على هذا الأساس فأصبح الكتاب ركيزة في كل بنائهم الحضاري، لكن القرآن الكريم ترافق اعتماده كمرجعية لكيان المسلمين الحضاري مع أمرين اثنين بناهما الرسول صلى الله عليه وسلم هما: النفوس العظيمة، والعقول الكبيرة، وهذه الأمور الثلاثة هي الأعمدة التي ارتفع عليها كيان المسلمين الحضاري، فما السند الرئيسي الذي استند إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء النفوس العظيمة والعقول الكبيرة؟

كان التوحيد نقطة الاستناد الرئيسية في بناء النفوس العظيمة حيث قال تعالى:
]وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون[ (الأنبياء،25)، وتعني عبادة الله في أحد جوانبها الرئيسية: تعظيم الله، والخضوع له، والخوف من ناره ومقامه، ورجاء جنته تعالى، وحبه تعالى أكثر من كل محبوبات الدنيا، وقد جاءت الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج لتغذي هذه الجوانب النفسية، فعندما يصلي المسلم يفعل ذلك تعظيماً لله تعالى على خلقه العظيم، وعندما يركع يفعل ذلك طمعاً في جنته تعالى وخوفاً من ناره، وعندما يسجد يفعل ذلك حمداً لله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وعندما يصوم المسلم ويمتنع عن أهم شهوتين هما: الطعام والنساء يفعل ذلك في سبيل محبوب أعظم هو الله تعالى، وعندما يحج المسلم إلى المسجد الحرام ويضحي في سبيل ذلك بوقته وماله وجهده يفعل ذلك تعظيماً لله تعالى وخضوعاً وامتثالاً لأوامره تعالى.

أما الآلية التي تتحقق بها العبادة فهي الهدم والبناء: هدم الشرك وبناء التوحيد، لأن كل الصيغ التي دعت إلى عبادة الله احتوت النفي والإثبات، وقدمت النفي على الإثبات، كما جاء على لسان الأنبياء نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام في سورة الأعراف مثلاً حيث قالوا جميعاً: ]يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره[ (الآيات من سورة الأعراف)، ويؤكد ذلك أيضاً كلمة الشهادة التي يدخل المسلم الإسلام بها حيث يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، حيث ينفي في البداية استحقاق أي إله العبادة ثم يثبتها لله تعالى.

أما بناء العقول الكبيرة فقد استند الرسول صلى الله عليه وسلم في بنائها إلى مفهومي الميزان والحكمة اللذين تحدث عنهما القرآن الكريم، حيث وردت كلمة الميزان في آيتين في القرآن الكريم، قال تعالى: ]الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وما يدريك لعل الساعة
قريب
[ (الشورى،17)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: ]لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط[ (الحديد،25)، وقد فسّر ابن تيمية كلمة "الميزان" التي وردت في الآيتين السابقتين بأنها الأمور العقلية التي يحتاجها الناس في حياتهم والتي تجعل أحكامهم على الأشياء المحيطة صحيحة، والتي تجعل تعاملهم مع الكون سليماً، من مثل ربط الأسباب بالنتائج، والفهم، والتعليل والتحليل، وقد جاء كلامه
-أي ابن تيمية- في معرض الرد على الذين كانوا يوجبون على المسلمين بناء عقائدهم على مقدمات فلسفية، فبيّن أن الله أرحم بعباده من أن يكلهم إلى الفيلسوف فلان وإلى الفلسفة العلانية من أجل بناء عقولهم، لذلك أنزل مع أنبيائه الميزان الذي يبني عقولهم من أجل أن يكون هناك تعامل صحيح مع الكتاب، لأنه دون موازين عقلية صحيحة لن يكون تعامل صحيح مع الكتاب، ولن يؤتي الكتاب ثمرته المرجوة. ويتضح ذلك في إجابات القرآن الكريم عن الأسئلة التي وجهها المسلمون أو المشركون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل
]ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج[ (البقرة،189)، ومن مثل
]يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[ وفي إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل إجابته عن سؤال المرأة التي جاءت إلى النبي وقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" (رواه البخاري)، وفي خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كسفت الشمس يوم وفاة ابنه ابراهيم، وربط الناس بينهما، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة" (رواه البخاري ومسلم). ففي كل الإجابات السابقة للقرآن الكريم أو للرسول صلى الله عليه وسلم نجد البناء العقلي السليم، ففي جواب القرآن عن السؤال حول الأهلة، كان التوجيه إلى الجانب العملي المفيد للأهلة وهو أنها "مواقيت للناس والحج"، وفي جواب القرآن الكريم عن السؤال حول الروح كان التوجيه إلى التوقف عن البحث لأن هذا نطاق جديد لا يمتلك الإنسان وسائل البحث فيه وهو من أمر الله، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤال المرأة حول مشروعية حجها عن أمها كان التوجيه إلى التفكير العلمي في المقايسة بين ديْن العباد وديْن الله والخلوص إلى أن دين الله أحق بالوفاء، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم بعد وفاة ابراهيم توجيه للمسلمين بالابتعاد عن التفكير الخرافي، وتوجيه إلى التفكير العلمي الذي يربط تحولات الشمس والقمر بحركة الكون وليس بحادثة وفاة أحد أو ولادة أحد حتى ولو كان ابناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أما السند الثاني الذي استند إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في البناء العقلي فهو مفهوم الحكمة، فقد وردت كلمة الحكمة في عدة آيات كريمة، قال تعالى: ] هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين[ (الجمعة،2)، وقد امتن الله على العرب ابتعاث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ]كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون[ (البقرة، 151). وقد وردت عدة أقوال في تحديد معنى كلمة "الحكمة"، فقد جاء فيها أنها السنة النبوية، وأنها الأحكام المتفق عليها بين جميع الأديان والملل، وأنها الإصابة في القول والعمل إلخ... وبغض النظر عن تحديد المعنى المقصود لكلمة "الحكمة" والذي قد يجمع بين الأقوال السابقة جميعها، فإن "الحكمة" ترتبط بشكل أولي بالفهم والإدراك والعقل إلخ…، لذلك لابد من أجل أن تتحقق الحكمة في أية قضية من أن يكون هناك فهم لعناصر القضية، وإدراك لعلاقتها بما قبلها وما بعدها، وتحليل لكيفية تطويرها إلخ… وكل هذا يحتاج إلى تدبّر وتعقّل، وقد جاءت السنة النبوية الشريفة مليئة بالشواهد العملية على الحكمة في صورتها المثلى والتي تنتهي إلى الإصابة في القول والعمل، لذلك كانت أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تتصف بأنها من "جوامع الكلم" أي "الألفاظ القليلة ذات المعاني الكثيرة"، وكانت أعماله صواباً دائماً، وإذا كانت خلاف الأولى في بعض أحيان قليلة نبهه الوحي إلى ما هو الأولى ليعمله، وبذلك أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة للمسلمين كما وضح الله تعالى ذلك فقال: ]ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً[ (الأحزاب،21).

ومما يلفت النظر أن الآيات التي تحدثت عن الحكمة ربطت بين تعليم الكتاب والحكمة من جهة، والتزكية من جهة ثانية وهو أمر جديد كل الجدة، إذ المعهود سابقاً ولاحقاً أن التزكية مرتبطة بتعلم الكتاب وحده لأنه مستودع الهدى، ولكن أن تكون تزكية النفوس وتطهرها ناتجة عن تعلم الكتاب وتعلم الحكمة فهو الأمر الجديد الذي يرفع من شأن العقل، ويوجه المسلمين إلى ضرورة أن تكون عقولهم مبنية بناء سليماً ليكون التعامل السليم مع الكتاب، وينتج عن ذلك تزكية وتطهّر حقيقيّان.

بُني الكيان الحضاري للمسلمين -كما رأينا- على ثلاثة أعمدة: الكتاب والميزان والحكمة، وقد أفرزت تلك الأعمدة نفوساً عظيمة وعقولاً كبيرة، فأين حدث ذلك الخلل الذي عرقل استمرار مشروع الحضارة الإسلامية؟ قطعاً لم يحدث الخلل في الكتاب، لأنه محفوظ بحفظ الله حيث قال تعالى: ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[ (الحجر،9)، وبالفعل فإن إحدى ميزات الحضارة الإسلامية أن كتابها محفوظ بفضل الله ثم بفضل جهود الصحابة الذين اجتهدوا في حفظه في صدورهم أولاً، ثم في تدوينه بين دفتي المصحف الشريف الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس ثانياً، لكن الخلل حدث في بناء النفوس العظيمة والعقول الكبيرة، وقد كان التصوّف أحد أسباب هذا الخلل، حيث أخذت العبادة فيه منحى جديداً يقوم على تعذيب الجسد من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهو منحى جديد لم تعرفه أصول العبادة الإسلامية التي تعتبر الاستجابة لمتطلبات الجسد عبادة، وأصدق دليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم "وفي بضع أحدكم أجر" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر" (رواه مسلم)، وقد أدى ذلك التصوّف إلى الاستلاب النفسي  للمسلم وإلى ضعف فاعليته العقلية ممن أدى إلى خلل في تعامله مع الكتاب، لذلك نحتاج الآن مرة ثانية إلى تفعيل مفهومي الميزان والحكمة من أجل إعادة الفاعلية العقلية للمسلم المعاصر، لكي يحسن التعامل مع الكتاب حيث سيؤدي ذلك إلى التزكية المطلوبة وتتحقق دعوة ابراهيم عليه السلام عندما قال: ]ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم[ (البقرة،129).