شهيدة

منى كوسا

[email protected]

أرادت الحق والشهادة لتدخل رحاب الملكوت ....إلى جنان الخلد , شابة بريعان الصبا ونضارته , ربما أرادوا أن يعطوها المصير الذي ينتظرها إن حاولت الفرار من لعبتهم المكشوفة .

بيضاء الوجه مشرقة سقطت ككتلة مملؤة بالدم من رأسها و أسلمت روحها لربها لتسكن جنانه . تشعل في قلوبنا قصائد عشق لم تكتب بعد .

أصبحت وردة حب في البيت والوطن هي الملازمة لنا ..حديث عاشق معه تصمت كل لغات العالم , نداء اللهفة في عيوننا ولوحة فنان خالد ألوانه لا تبهت أبداً.

حبيبتي وضعت الشال الحرير على رأسها , ذهبت كي تصلي وهي في حضرة الملائكة و ألق الأرواح الرقيقة , ينساب الشال على كتفها وفي حضرة الموت والشهادة والخشوع يتطاير الحرير في وداده .

تولد إيقاعاً فينا وتتجلى رؤياها تارة عندما تهب نسمات روحها في ذكرانا , بها نذرف دموع الفراق وفي الفراق صرنا نذرف دموع العراق .

الحزن يصاحبنا وكل شيء يشاركنا مأدبة البكاء وشمع الضياع , لكن آن الأوان أن نشعل الحطب الآتي من كل الأصقاع لنوقف الحرب في العراق .

.........كلماتها لا تزال لها أثراً عميقاً جداً على كل من كان حولها بحيث تتحول إلى منبع للحياة الأبدية , تحرك داخلنا , مثل الحمامة البيضاء انطلقت إلى السماء ونحن نتابعها حتى كّل منا النظر وهي تعلو وتعلو تاركة منزلها وعيادتها تخترق الفضاء , تختار طريقها المزركش بزهور عطر مقدس من الجنان تستطيب به وتمتلكه لوحدها لا تمل وتتركنا نتكلم عن ألق حضورها وصراحة وزخم كلامها وجميل أفعالها مع كل من مرضاها و جرحى الحرب إذ تداويهم بدموع عينيها , كذلك روحها الحنونة على زوجها و أولادها وأهلها .

نتحدث ولا نملّ عن محاسنها وقامتها الأنيقة المثقلّة برحيقها الحاملة جرّة الطيب وقمقم البحبوحة والعطاء لتكون صرخة قوية تدوي في سماء العراق شمعة خصبة في كهف مظلم لنبصره ونبصر ارتعاش ذواتنا , تبني الحب والحب يفلت من المكان يمضي إلى حيث الخصوبة يجري بلا توقف تضطرنا للبحث عن مكان يهدأ به الحلم والحلم هي ذاتها برحلتها إلى ديار الحق لتعيش برغد بين الزهور و أمواج الأثير , تتغلغل داخل أجنحتها الملائكية الصغيرة تتفتح بأنوثتها بخوراً, لوّنت شفاها من حمرة دم الشهداء ولبست تاج زفافها يوم استشهادها ,تربعت على عرش الياسمين بجسدها الأبيض كالثلج وفي حديقتها الغّناء تحلّق الشهداء حول موائد الشراب اللذيذ يتلذذون بخمر الجنان المعتق .

في غمرة تأملنا لصورتها الماثلة على جدار منزلها غصت حناجرنا فنهض جسدها الممتلئ بأجنة الورد الشامخ بفطنة رأسها المعطر من مطر سماء العراق , مدت يداها تصافحنا ثم أغمضت عيناها وفوق الورق ذاب الدمع وتمنينا لو لم نصحو من الذكرى .

نسمة أيقظتنا من ذلك الحلم , نتلفت يمين وشمال وبالقرب من لوحتها اتكأنا ننسج لها خيوط وصلٍ تبعث الدفء في الشرايين أفاقت من نومها العميق على وقع أقدام المحبين لها , تنظر باتجاه مصدر الصوت وبوجهها الجميل الطفولي تتأمل أمامها , حينها تصوب سهام عيناها إلى أجمل مكان في العالم ....إلى العراق الذي كان ولا يزال يناديها ثم تغوص إلى أعماق الجنان , بصمت تجعلنا نحاول الفرار من واقعنا , نحاول لمس شفاها المخملية , نقرأ أفكارها النضالية وكمن قرأ كل شيء في ذهنها وعن روحها الثورية نخاطبها : لا تخافي يا أميرة الجنان , أخذك الله ليرعاك ِلأنك ٍبحاجة إليه , يا خميلة مجبولة من تراب وشمس العراق قاتلت ِإلى أن نلت ِشرف الجهاد العظيم واستوعبت ِدروس الحياة وصرت ِ شيئاً أكبر من استشهاد .

آه يا حبيبتي يوم استشهادك ِ تلقينا خطاباً عطرياً قدسياً حينها كانت بغداد مع بزوغ الضوء نائمة أو تستيقظ للتو وتلقينا الخبر .

بغداد يا حبيبتي تبكي الدموع تنهمر من سمائها كلها , تبكي إنها لا تكف عن البكاء و أظنها لن تدعنا ننام بل ستنهض ونظل نحمل السلاح ,يا حبيبتي سأركع عند قدميك ِلتطمئني وانتظر راحة الضمير عندها أستطيع أن أشم عشب الحياة ولن أخطأ برؤية الاخضرار الذي سيحل قريباً على العراق , عندها ستهديني عصافير الجنة لتحلق في سماء العراق , لا تنسي ذلك فالربيع قادم وسنخرج للحياة.يا حبيبتي ذبلت كروم الوجد والعشق على ربا استشهادكِ وصفقنا للأناشيد الوطنية وجاء الجنود من كل مكان للدفاع والاستشهاد هيا استقبليهم بكل ترحاب وعطريهم بعطرك ِالمقدس وجئت أنا أقبل يديكِ و وجنتيكِ القدسيتين الماثلتين أمامي على لوحة الجدار , أتبارك منكِ أدعو رب العباد أن نسترجع العراق ولا نرى فيها هجيناً.