عندما يستعين درويش على الكارثة بنفسه!!

عندما يستعين درويش على الكارثة بنفسه!!

 د. أسامة الأشقر

 لعلها المرثية الأولى التي يكتبها محمود درويش لذلك لم تكن طويلة كشتاء ريتا، ولم تكن مرمّزة بالأقفال السحرية التي تفتح لك أبواباً بمفاتيح غيرها، ولم تكن ذات نغم حزين وإن كانت مسجّاة على حروف سوداء.

 غزة هي الجثة الملقاة على قارعة الطريق، لم يلتفت لها الأقربون فتركوها حتى تغير ريحُها، وانكمش لحمها الذاوي الأسود إلى عظمها الأخضر المتعفن... أهكذا أردتَ أن تترك الانطباع عن غزة أيها الشاعر العجيب !! ؟.

هل تريدني أن أصدقك الآن بعد أن خدعتني بقهوة أمي وخبزها وليمون أرضي وزيتونها وسجِّل أنا عربي، وجعلتني ألتهب حباً بفلسطين ثم تعود إلى غزة من ساحتها الخلفية في ليل أوسلو ثم تتسلل إلى حلمي وتغتاله بقلمك الأحمر الغادر يوم أن رأيتُك في يقظتي تبتسم لذلك اليهودي المستوطن وتصافحه بابتسامة أوسلوية حمراء منتفخة ثم تنحني لنيل جائزته !!، كيف تمس اليد الحرام أيها الشاعر العجيب !؟ أو تظن أن قريتك "البروة" ليست كقريتي ؟، أو تظن أن قريتك خارج فلسطين التي نراها بعيدة في يد عدونا بينما هي مزروعة في قلوبنا حباً كرملياً حلواً ؟ أو تظن أننا لا نحسن رسم لوحة العودة ببندقية الأجيال بعد أن تعلمنا معاً كيف نشتريها ونسرقها ونرمي بها ونُسجن من أجلها ونموت وأصابعنا على زنادها ونحن نبتسم بكل قسَمات وجوهنا ؟.

 لم تعد قيثارتك المكسورة تطربني أيها الشاعر العجيب؟ لأنني لم أعد أصدقك !! أنت خنتني وكذبتَ عليّ وغدرت بي يوم أن اغتلت حلمي الكبير وجعلتني بلا رمز ولا كلمة ولا صدق!

 قل لي كيف أحتج بشعرك وأنت تهشمه أمامي وترمي قداسة الكلمة التي صُنتها في دواوينك السبعينية والستينية بكومة قاذورات مصنوعة في مستوطنة !!؟

 ويوم أن جبنتَ عن وزارة الثقافة في سلطة الحكم الذاتي رأيتُ فيك بصيص النور من جديد لكنني لم أعد أرى ظله يوم أن جعلتَ سبب جبنك هو طراوة إحساسك، ولم تواجه السياسة الغائرة في حكايتنا بلسان الشاعر الحساس العارف فأسبغتَ عليها غطاء كرامة ووطنية لم تكن فيها.

  ثم طال صمتك عن فلسطين، أتذكر فلسطين ؟

 كانت مطيتك الأولى وأتانك القديمة الذي صعدت بها نحو النجوم فلم ير الناس فيك إلا فلسطين فتطامنوا لها وعظموك لأجلها بلغتك الفنانة، ثم انكب عليك الدارسون لأنك زيتونة فلسطينية حينها، وُلدتْ في فلسطين وبقيت عروقها فيها وكانت أغصانها تتحرك معك خارجها، فطار بك الناس واحتفوا وما درى هؤلاء المساكين أن شاعرهم الفنان قد انقضت لذته الأولى فامتطى غير أتانه العرجاء فاتجه نحو فضاء الليل وجماله الآخر فاغترف منه حتى الثمالة، وكان في فضائه الجديد مُشبعاً بإنسانيات لم نألفها عندما يحكي عن الآخر الجميل والآخر القبيح، عن الآخر الصديق والآخر العدو، عن الآخر الذي كان شيطاناً مطلق الشر واجب النهاية ثم صار بإرادة درويشية إنساناً له وعليه.

غزة أيها الشاعر العجيب كانت تحتضر بِصمتك وأنت ملك الكلمة عند قومك فلم تعزف لها لحناً ولم تكترث لخنق أهلها أو حصارهم المجنون، لم تقف معهم في طوابير المعابر أو تنحشر تحت شمسها المكشوفة أسابيع قاسية، ولم تجر مع أمهاتها بحثاً عن حليب لأطفالها، ولم تمر على أعراس شهدائها لتقول لهم : لكم البقاء !!

 كانت مجالس الشهداء الممتدة على طول الوطن كل يوم تتغنى بكلمات درويش لكن درويشاً لم يمر عليهم مرة واحدة، وبين الحين والحين كان يمد يده البيضاء المختفية عن عين الشمس في الغربة ليقول لبعض العيون التي تلمحه : سلام !!

 لم نرك معنا في أحزاننا وحصارنا وآلامنا وسجننا وعذابنا ثم تأتي لتفتي لنا أيها الشاعر العجيب بأننا في كارثة !!

 لقد كنا في الكارثة ولم تكترث لنا يوم أن اجتاحنا الفلتان والزعران الذين كانوا يغنون بعض كلماتك العجوز القديمة ويعيشون مثلك بعيدين عنها.

 وكنا في الكارثة يوم استسهل الناس الدم وتغولوا فيه ولم تتكلم، لقد كنا في الكارثة يوم أن دخل الشر بيوتنا وعدمنا الأمن والستر والغطاء، لقد كنا في الكارثة وأنت صامت تجبن عن الكلمة وتنصرف عن حريقها بدبلوماسية السفر والعيش في فراغ الآخر الهادئ الوديع.

 أنت لم تعد منا لتهجونا أو تمدحنا أو ترثينا لأنك جزء من الكارثة الأهلية التي حلت بنا، لقد أصبحتَ فناناً عالمياً وقريبا سوف تنال نوبل فأنت تحسن امتطاء الفنون وتحسن تلوين أوراق الأيام البيضاء بألوان تريح هذا الآخر، ورموزك السحرية العجيبة قادرة على الطيران والغوص والجري في غير بحرنا وسمائنا وأرضنا.

 قد نكون في مصيبة اليوم لكن المصيبة تبدأ كبيرة ثم لا تلبث أن تصغر أما الكارثة الكبرى فهي في الصمت ثم الحديث بعد فوات الأوان عن أمر لم يعد يثير فينا الأسى كثيراً كما أثاره فيك لهول ما رأينا من الكارثة التي صمتّ عنها، وأكثر ما آلمنا فيك أنك رثيت فلسطينيين ولم ترث فلسطنيين آخرين شاركوا في الكارثة فعلمنا أن فلسطين ليست هنا.

 أتعلم أيها الشاعر العجيب أن فلسطينيتنا أي هويتنا لم تعد ذات معنى يوم ألصقتها بهوية عدونا الآخر !! كنا فلسطينيين لما كان عدونا واحداً وكنا نقتسم اللقمة معاً لأجل نشتري البندقية التي نتناوب على حملها ! فما بالك اليوم وقد أصبحت بندقيتنا التي تروّحت بأرواح الشهداء وتحنّت بدمهم قد أصبحت حراماً علينا باسم فلسطين !!.

 وكيف لي أن أعرف هذه الهوية الفلسطينية التي تبكيها اليوم وتسخر من أواصرها ونسيجها، وأنت تفضح نضالها الكاذب الذي كنتَ شاهداً عليه في تونس وأنت صامت، ألم تقل في مرثيتك الأخيرة ) لافتة كبيرة على باب نادٍ ليليٍّ: نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. الدخول مجاناً! وخمرتنا... لا تُسْكِر! ). 

 وكيف لي أن أصدقك وأنت تفضح نفسك في مرثيتك وتستشهد بك عليك (سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية... لا فرق؟ قُلْتُ: لا يدافع!).

 كنا فلسطينيين يوم أن كانت يدنا تحرّم الحرام وتأبى أن تمسه أو تأخذ منه صدقة أو تفرج عن حق لتسجنه لنا ثانية !!

 كنا فلسطينيين يوم أن كانت فلسطين واحدة من بحرها إلى نهرها ثم أصبحنا نصف فلسطينيين وربع فلسطينيين ودون ذلك مع كل شرف وكرامة نقدمها لعدونا وسارقِنا بصك اعتراف منا.

 كنا فلسطينيين يوماً ما !!