أمهات المؤمنين
د.عثمان قدري مكانسي
كانت بنو النضير من المدينة على ميلين ـ ثلاثة كيلو مترات ـ فلما نقضوا عهدهم وتآمروا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأرادوا قتله غيلةً ، وخططوا لذلك فضحهم الله تعالى ، وأمر رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فزحف بجيشه إليهم ، فلما علموا بقدومه دخلوا حصونهم يحتمون بها ، فلما ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم ـ فقد نصر رسوله الكريم بالرعب مسيرة شهر ، فماذا تقول في ميلين ـ نزلوا على حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأجلاهم ولم يسمح لهم أن يحملوا معهم إلا ما يستطيعون من زاد ، وثياب ، وآنية .
فالمسلمون – إذاً - لم يقاتلوا ، ولا ركبوا إلى بني النضير طريقاً شاقاً ، ولم يبذلوا ذلك الجهد المضني ، افتتحها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم ، فجعلها الله تعالى لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة ، يضعها حيث يشاء ، وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين ولأقرباء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولليتامى والمساكين والغريب المنقطع . قال تعالى في سورة الحشر الآية 7 : (( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )) . . .
وتنطبق هذه الآية كذلك على يهود بني قريظة . وظن أزواجه حين قرأن هذه الآية أن الله تعالى اختصه بنفائس يهود وذخائرهم ، وكنَّ تسع نسوة ، فقلن :
يا رسول الله ؛ بناتُ كسرى وقيصر في الحليّ والحلل والإماء ، والخدم والحشم ، ونحن على ما تراه من الفاقة ، والضيق ، وقلـّة ذات اليد .
وآلَمْنَ قلبه بمطالبتهن إياه بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا وأزواجهم . . ولم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفكر بنفسه أبداً ، كما لم يفكر بأهله ، ولم يخطر على باله أن يوزع هذا المال على نسائه ليعشن في أبّهة ، وسعةٍ ، ورغد ، إنه لا يريد لنفسه ولا لهنّ أن يعيشوا كما يعيش ذوو الجاه والسلطان . إن المال يُطغي ، ويجعل صاحبه يترفّع .
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ( 6 ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ( 7 ) ) .
إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد لآله أن يعيشوا كفافاً لا لهم ، ولا عليهم وكثيراً ما دعا : (( اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )) .
وإذا كانت نساؤه يتطلّعن إلى مسَرّات الدنيا ويسعَيْن إليها ، فلهُنَّ ذلك ، شرط أن يفارقنه .
إنّه الداعية الأوّل ، والمال ورغد العيش يثني الداعية عن دعوته ويشدّه إلى أثقال الدنيا وملذَّاتها .
فأنزل الله تعالى عليه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( 28 ) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( 29 ) ) ] سورة الأحزاب الآيتان : 28ـ 29 [ .
فبدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقراءة هاتين الآيتين على نسائه ، وبدأ بعائشة رضي الله عنها ، ولما كانت رضي الله عنها أثيرة لديه صغيرة السنِّ ، وقد تتطلّعُ إلى الحياة الدنيا ، ولأنها المرأة الوحيدة التي تزوجها بكراً ، وأبوها رضوان الله عليه ، أقرب أصحابه إلى نفسه قال لها : (( إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك )) .
فقالت : ما هو يا رسول الله ؟
فتلا عليها الآيتين الكريمتين ، ونظر إليها يقرأ ما في نفسها .
فقالت : يا رسول الله ، أيها الزوج العظيم ، أفيكَ أستأمر أبويَّ ؟! أتتخلّى المرأة من أجل حطام الدنيا الفانية عن أشرف رسول وأكرم رجل ؟! .
قال : (( بوركت أيتها الصديقة ، يا بنت الصدّيق )) .
قالت : يا رسول الله إنها الدنيا الفانية من جهة ، ويقابلها في الجهة الثانية الله تعالى خالق الكون ومدّبره وسيده سبحانه والدار الباقية ذات النعيم الأبدي الخالد . ورسوله الكريم أحب الناس إلى قلبي.
فتبسَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضمَّها إليه . ثم انطلق إلى زوجاته الأخريات الكريمات فقلن ما قالته عائشة ، فشكر لهنّ إيمانهنّ وأكرمهن فأطلق عليهن (( أمهات المؤمنين )) .
إنَّ بعض مَنْ يتلفـّعن بعباءة الدعوة من النساء الآن تراهُنّ لا يحضرْن لقاءً بالثياب التي كانت عليهن في اللقاء الماضي . . فإذا نبَّهْتَهُنَّ إلى ذلك قلن : هذا أدعى إلى الاحترام !!!
وقلن : نجاري النساء حتى ندخل إلى قلوبهنّ !!!
وقلن : إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على أمَتِه !!!
وقلن ، وقلنَ ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . ولا حول ولا قوة إلا بالله .