التنمية الضائعة: أين نحن من الحداثة 3

أحمد أبو وصال الرموتي

التنمية الضائعة: أين نحن من الحداثة

المقالة الثالثة: في المجتمع

أحمد أبو وصال الرموتي

خصصنا المقالة الأولى للفكر والثانية للسياسة، وهذه المقالة الثالثة للمجتمع،من خلال دور التحول الإجتماعي في ترسيخ الحداثة الأوربية وإستمرار التقليد في عالمنا الإسلامي.لقد إرتبط دخول أورباعصر النهضة /الحداثة على الصعيد الإجتماعي ببروز طبقة جديدة غنية  (البورجوازية ).لقد شكلت هذه الطبقة رمزا للحداثة  الإقتصادية لإشتغالها بأنشطة غير الفلاحة ،ورمزا للحداثة  الفكرية بتبنيها للحركة الإنسية ،ورمزا للحداثة السياسية بدفاعها عن الدولة الأمة ومبادىء الديموقراطية خاصة الحرية  

الإنطلاقة الأولى لهذه الطبقة بدأت في المدن الإيطالية التي عرفت تطورا إقتصاديا ولم يعد إقتصادها يتقوقع حول الأرض ،كما هو الشأن في باقي أوربا .لقد نمت المعاملات التجارية والمالية لهذه المدن وتوسعت وإمتدت الى القارتين الأسوية والإفريقية مما سمح ببروز نخبة حضرية شكلت نواة البورجوازية ،هذه النخبة التي إرتبط بها تطور أوربا في مختلف المجالات طيلة القرنين 13و14 الميلاديين.أما الإنطلاقة الثانية لهذه النخبة فقد إرتبطت بالإكتشافات الجغرافية أواخر القرن 15م والتي أدى  توسع التجارة وتراكم الأرباح إلى دخول أوربا عصر المركانتيلية،أي عصر الرأسمالية التجارية بإمتياز وعصر البورجوازية كطبقة إجتماعية.لقد بدأ دور الأرستقراطية يتراجع تدريجيا رغم محاولة بعض اعضائها مسايرة الواقع الجديد والإستثمار في مجال التجارة والإعتماد على الربح بدل الريع(ويعرفون بالنبلاء الليبراليين).هكذا سيشكل القرن 16 و17م الهيمنة التدريجية للبورجوازية على الإقتصاد والتحكم في دواليبه والتطلع للمساهمة في  الحياةالسياسية،من خلال التسرب إلى مجموعة من المناصب العليا والضغط على قرارات السلطة الحاكمة خاصة في مجال الإقتصاد. 

كان لابد لهذه الطبقة أن توسع أنشطتها التجارية لذلك ساهمت بشكل كبير في تشجيع العلوم والإبتكارات خاصة في مجال الملاحة والمواصلات ،ولم يكن ذلك غريبا عى هذه الطبقة فهي وريثة الفكر الإنسي لعصرالنهضة.إن إزدهار التجارة مع مختلف القارات أدى إلى تراكم المواد النفيسة والمواد الأولية ،وواكب هذا التراكم نمو سكاني كبير ،وكان من الضروري لهذه الطبقة البحث عن أساليب جديدة لتلبية الحاجيات المتزايدة للسكان سواء في أوربا أو باقي

.القارات وكان الحل طبعا هو تطوير تقنيات الإنتاج

الإنطلاقة الثالثة لهذه الطبقة كانت في القرن 18م ،فقد أدت رغبة البورجوازية في تلبية الحاجيات من المواد المصنعة إلى تمويل أبحاث المخترعين ،وكانت النتيجة ظهور عدة إختراعات تقنية وطاقية ثم تطبيقها في مجال الإنتاج

وبالتالي دخول عصر الثورة الصناعية. لم تعد البورجوازية تقتصر في إستثمارتها على التجارة ،بل إهتمت بالنشاط الصناعي كقطاع جديد مربح (شكل الربح محركا لكل عمليات الإنتاج)وشكلت القاطرة الأساسية للإقتصادالأوربي وتطوره وفرض هيمنته على العالم .لقد أصبحت هذه الطبقة الأقوى إقتصاديا لكن مشاركتها في الحياة السياسية ظلت ضعيفة،لذلك كان عليها أن تضغط بكل الأساليب لتقسيم السلطة مع الطبقة المحافظة الحاكمة التي لازالت تحتكر كل السلط .وإذ تمكنت البورجوازية من إنتزاع الإعتراف بحقها في المشاركة الحياة السياسية سلميا ( كما حدث في إنجلترا )فإنها في فرنسا فرضت ذلك بالعنف عن طريق التحالف مع الفئات الشعبية وتأطيرها لإندلاع الثورة الفرنسية

الإنطلاقة الرابعة لطبقة البورجوازية كانت في النصف الثاني من القرن 19م ودخول أوربا عصر الإمبريالية ، لم يعد طموحها يقتصر على  إحتكار النشاط التجاري والصناعي والمالي داخل أوربا بل أصبحت لها رغبة أوسع هي السيطرة على الإقتصاد العالمي من خلال إستعمار المزيد من الدول ورفع حجم إستثماراتها وجمع الثروة ،هذه الثروة إعتبرتها البورجوازية مكافأة لمجهوداتها بإعتبار عملها أعلى من عمل العامل  وأفضل من خمول الأرستقراطي المحافظ. ولم يكن أمام السلطات الحاكمة سوى تلبية مطالب هذه الطبقة وتحقيق طموحها وذلك بالشروع في حركة إستعمارية واسعة شملت مختلف القارات ،ورغم التناقض الذي كانت تعيشه على المستوى الأخلاقي (دعوتها للحرية

 والمساواة وحقوق الأفراد والشعوب...وإستغلالها للعمال وإستعمار الشعوب...)  فإنها دافعت عن ذلك بمبررات إقتصادية وثقافية وأحيانا عرقية ،هكذا نمت البورجوازية مابين القرنين 13 و19 وأصبحت هي المهيمنة على كل القطاعات،ولها القدرة  على مواجهة  الأزمات،لذلك إستمر نموها طيلة القرن 20م  وصمدت أمام الحربين العالميتين كما صمدت أمام  أعدائها  الإشتراكيين.ولازالت البورجوازية الأوربية تطور نفسها بإستمرار ولها قدرة كبيرة على التكيف مع المستجدات: ونعود كما فعلنا في المقالين السابقين ونطرح السؤال هل عرف عالمنا العربي بروز طبقة جديدة لعبت نفس الدور الذي لعبته البورجوازية في أوربا؟

ظل المجتمع العربي محافظا على بنيته الإجتماعية التقليدية منذ القرن 15م وهي الفترة التي إنطلقت فيها أوربا نحو ترسيخ الحداثة  الفكرية والسياسية والإجتماعية.وتمكنت أوربا من الإستغناء عن وساطة التجار المسلمين،وتراجع دور هذه الفئة وفقدت أهميتها وتوارت ألى الخلف.وبالتالي حافظ المجتمع العربي على ثنائيته المكونة للبنية الإجتماعية ،فئة غنية تملك المال والسلطة (وليس طبقة بمفهومها التاريخي )وفئة فقيرة  مكونة من باقي أفراد المجتمع غير قادرة على إفراز طبقة وسطى تستطيع حمل لواء الحداثة كما فعلت البورجوازية.لقد إستمرت بنية المجتمع تقليدية وتحولها رتيب ولاتعرف صراعا طبقيا كما حدث في أوربا ( صراع بين النبلاء والفلاحين  ثم بين النبلاء والبورجوازية ثم بين هذه الأخيرة والعمال)فهذاالصراع كان يمد المجتمع بطاقة متجددة قادرة على إحداث تغييرات عميقة وثورات كبرى فكرية وسياسية وإقتصادية.فهل عرف مجتمعنا العربي هذا الصراع الطبقي ؟ وهل هناك أصلا طبقات بمفهومها التاريخي المادي حتى ينمو هذا الصراع  ويتطور ويفرز تغييرات عميقة وجوهرية .

لم يعرف عالمنا العربي ظهور بورجوازية خلاقة ومنتجة ،بل نمت فئة غنية  ليست لها من البورجوازية سوى الإسم ، فئة تسعى إلى تحقيق المزيد من الأرباح لإرضاء طموحها الشخصي عوض الطموح الطبقي والمجتمعي .وسارت هذه الفئة  دائما في ركاب السلطة الحاكمة المستبدة تستظل بحمايتها،ولم يكن لها  أي مشروع عصري بديل للمشروع التقليدي القائم ، ولم تضع ثروتها في خدمة تنمية إجتماعية شاملة.هكذا تحالف الإقطاع السياسي مع الإقطاع الإقتصادي المكون من عائلات محدودة تحتكر معظم الثروة البورجوازية الصغيرة الطموحة (التي تكونت في معظمها من المثقفين )والتي تحمل مشروع مجتمع حديث وتحلم بتحقيقه ،كان ينظر إليها كجماعة خارجة عن الإجماع وتهدد الإستقرار،لذلك كان أغلب ضحايا القمع والإغتيال والنفي من هذه الفئة الإجتماعيةا

لقدأدركت البورجوازية الأوربية أن نمو أرباحها رهين بإرتفاع الإستهلاك ،وهذا الإستهلاك لن يتحقق إلا بتحسين أجور العمال .بينما لازالت ًبورجوازيتنا ًحبيسة النظرة التقليدية القائمة على الإستغلال المتوحش لقوى الإنتاج ،وإعتبار العامل أداة من أدوات الإنتاج لا يختلف عن أي جهاز من أجهزة المعمل،بدل إعتباره شريكا في هذه العملية. أن تاريخنا للأسف لم يعرف بروز طبقة جديدة حملت لواء الحداثة العربية وقاد ت عملية التغيير .فالسلطة الحاكمة التقليدية في جوهرها وهي المالكة لمعظم وسائل لم تكن لتسمح بذلك  حفاظا على واقع تقليدي تتحكم في كل خيوطه وتمنع التغيير بإسم الدين أحيانا والأخلاق والأعراف احيانا أخرى.