مفهوم الصنم والصنمية
ما هو الصنم؟
(تشريح بنية الوثنية السياسية)
د. خالص جلبي
جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد:(يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلِّمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم أخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن)(1). إن هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فإن (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه إعيد أحياؤه مرة أخرى بدون اسم الخوارج. وفي الوقت الذي تعيش الطالبان خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا ولاتعرف ماهي المعاصرة وترتهن لقوة السلاح. فإن التاريخ ينقل لنا أنهم ليس أول من سن هذه السنة السيئة في هدم آثار من خالفه الرأي بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الأولى قام بها البروتستانت عام 1529 م في سويسرا وهولندا وألمانيا تحت شعار: أيها الصنم إن كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك؟ وإن كنت بشراً فيجب أن تنزف دماً بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر Peter Jezler) مدير المتحف التاريخي في (بيرن) هل كان مافعلوه جنوناً أم إرادة الله حقاً كما يزعمون؟ وختم كلامه ( إنه سؤال للضمير في أوربا المسيحية والعالم الاسلامي)(2). والمهم أن أعظم التحف الأثرية في الشمال الأوربي تم نسفها نسفاً بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس Erasmus von Rotterdam) ووصف تلك النزعة التدميرية:( أنها تشبه تدمير طروادة في العصرالقديم). وأما التدمير الثاني وكان أشد هولاً وأعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الأسبان حيث لاتعلم أوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني شبنجلر ماحدث بهذه الأسطر المأساوية:( فحضارة المايا لم تمت جوعاً بل قتلت قتلا وهي في أوج ازدهارها ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس إذا ماقطع أحد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية وأكثر من اتحاد وبما لها من حجم موارد أضخم بكثير من موارد الدول الأغريقية والرومانية في زمن هانيبال ونظام مالي أعد بعناية وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور وأنظمة إدارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية، مجتمعات لايستطيع الغرب أن يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك . أقول كل هذه الدول وبكل مالها من أرصدة حضارية لم تندثر نتيجة لحرب يائسة ، بل إنما جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها السكان بلهاء لاتحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. فمن المدينة العملاقة (تينو شتتلان) لم يبق حجر واحد لم يغيبه الثرى في أحشائه. وأذعنت العناقيد من مدن المايا العظيمة التي شيدت في غابات يوكاتان العذراء لهجمات نبات الأرض واستسلمت لها استسلام من فترت همته وخارت عزيمته. وهكذا ترانا اليوم لانعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار إلا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن أحد حتى الآن من قراءتها. أما أشد مظاهر هذه المأساة إيلاماً للنفس وترويعاً لها كون هذا التدمير الساحق الماحق يتنافى وأبسط ضرورات الحضارة الغربية. وقد جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا أو انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك ويحدث. وهذا المثال لدليل قاطع مابعده دليل على أن تاريخ الانسانية لايمتلك أي معنى كان . وعلى أن المغزى العميق إنما يكمن ويثوي في مجرى حياة كل حضارة على حدة. فالعلاقات المشتركة بين الحضارات هي من بنات الصدف ودون أهمية. ولقد بلغت الصدفة في هذه الحال درجة من القسوة والتفاهة والشذوذ والغباء بحيث لايجوز لنا أبداً أن نبدي أي نوع من التسامح نحوها. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها)(3). وقصة الطالبان اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم فما هو ؟ قد يكون الصنم حجراً أو بشراً أو (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوماً بأنه متعالي مافوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة أمام (سيطرته). لذا وصف الفيلسوف (محمد إقبال) أن الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الأزمنة:(تبدل في كل حال مناة ... شاب بنو الدهر وهي فتاة). ولم تهدأ معركة (الصنم) و(الفكرة) عبر التاريخ. قد يكون الصنم (تمثالاً) لامعاً يمنح البركات يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون أنه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشراً) متعالياً فوق النقد والخطأ كلماته حكم خالدة وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع وصوره مرفوعة بكل الألوان والأحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لاتقبل المراجعة فرضها كهان يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لايفهمها المواطن أكثر من فهم زمع الكهان ونفث السحرة. الذين ترتبط مصالحهم بالوثن الذي رفعوه وتتعلق كل امتيازاتهم بهذه المراهنة الحمقاء فيبنون لأنفسهم مجدا على حساب قتل الأمة ثم بدورهم يقتلون. أبسط الأصنام مانحت من الحجر لظهوره وأعقدها الايديولوجية لاختفاءها خلف الشعارات في كلمات ما أنزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الأصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من علٍ بوجه مكفهر ويد ممدودة إلى جماهير مطحونة تعيش كي لاتعيش مغموسة بالذل لقمتها ليس عندها قوت يومها غير آمنة على نفسها مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى وإذا تنفست كان الجو عابقاً بجزيئات (رجال الأمن). عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب الَّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب أنهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن. يخطيء من يظن أن (الصنم) مرتبط بالتمثال من حجر. كما يخطيء من يعتقد أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور أن معركة الأنبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن أن فرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنماً لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق:(إن البعرة لتدل على البعير وإن الأثر ليدل على المسير. سماء ذات أبراج. وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج. ألا تدل على وجود اللطيف الخبير). واختصر القرآن ذلك في نصف آية فقال:(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولُّن الله فأنى يؤفكون). كما أن معركة التوحيد التي خاضها الأنبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الأرض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم أدوات (علم الكلام) و (المنطق) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هُدِّد فيها الأنبياء بالرجم والهجر والإخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمناً لذلك، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع أن يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه والتحلي بأخلاقه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات وتحول أهله شيعاً. إنه لايهم أن يكون الصنم من حجر أو تمر أو شعار أو حزب أو عائلة بل نظرتنا إليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا السدنة الذين يقفون خلفه يوحون إلى الجماهير زخرف القول غرورا أنه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق .ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم إليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف المبين. إنها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. إن هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول (ص) يقرأ الآية(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله). إن عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له (ص):(إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فذلك عبادتهم إياهم)(4). وعندما وجه رسول الله (ص) رسله الى الأرض طالب بكلمة السواء أن لايتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا. وهي ماوصلت إليه الديموقراطية اليوم أي أن يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع أفقي. فنرى الرئيس الأمريكي (ترومان) يأكل مع الجنود ويحمل طعامه بيده وهو يعلن ضرب اليابان بالسلاح النووي قبل خمسين عاماً. أو نرى حفيده (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب أمام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. إنها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. إنها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لابصرون بها. أين الأصنام إذاً هل هي حقاً في أفغانستان ؟ هل هي أصنام بوذا العملاقة أم سدنة السياسة؟ إن اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ومع استيلاد الوثنية وسطوتها ورسوخ شجرة الاستبداد تموت الحياة ويستل منها رمق الحياة. ويعاني العقل من الاختناق بنقص اكسجين. وتسبِّح الأمة بحمد الجبارين جهراً وتلعنهم سرا لتنشأ ظاهرة النفاق. وإذا منحت أي حق هو لها كان منحة رائعة من يد عليا. ظلمات بعضها فوق بعض أذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور. إننا نضرب في المكان الخطأ كما ينطح الثور الاسباني خرقة المصارع وهو يظن انه يحسن صنعا. إن الطالبان يفعلون كما يقول النيهوم بالتورط في نوع من مصارعة الثيران يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها الطالبان (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوماً بالهجوم لكي يموت بعد ذلك أمام جمهور يصفق بحرارة وهي صورة تعالجها وسائل الإعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة رغم إلمامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الإعلام الرأسمالي أن يذهب إليه قبل أن يعرف أنه الدجال)(5). إن من السهل إزعاج الاخرين ولايحتاج كسر قلوب عشرين شخصاً اكثر من عشرين إهانة في عشرين دقيقة. ولاحاجة لأن تستعدي عليك العالم أكثر من التعرض لمقدساته ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع الى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتجتون) يفرك يديه فرحاً الآن بتحليل صدام الحضارات عندما قام الطالبان بالمهمة مجاناً بصدم العالم الاسلامي بالبوذي. إنه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. أو كما يقول مونتسكيو :(موقف الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة)(6). أو كما يقول (لورد اكتون):( كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق). لايمكن لأي سيارة أن تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل ولا رائحة للمعارضة في حالة أكبر من الكارثة. أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم. إن وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التي جاء من أجلها الأنبياء وعليه مات بعضهم والآمرين بالقسط من الناس أو طوردوا الى حافة الصلب فرفعه الله إليه؟ وكما يقول جودت سعيد ( إن البشر حين يعظّمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من أمريكا إلى أصغر ديكتاتور... ولفهم الطاغوت قصَّ الله علينا قصة أكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات أكبر الآثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفراً بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر. وقصة فرعون مع موسى من أطول قصص القرآن وأكثرها تكرارا حتى لايبقى شيء من أمر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون أكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى أكثر من مائة مرة، وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. إنها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وماوراء الكلمات من مسلمات وأسس يبني عليها وهي ليست ظاهرة بل خفية تحت الأبنية التي أقيمت عليها. وسيكون هذا موضوعاً شيقاً للدراسة والمقارنة ومعرفة طبيعة الانسان)(7).ولكن من الغريب أن المسلمين يلعنون فرعوناً خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الأوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) في شاهد صاعق عما تفعله الثقافة في تعطيل أقدس النصوص وأن معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (إمام عبد الفتاح إمام) يسجل مثل هذه الفقرات الحزينة المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية):(وعندما أجلت البصر وأمعنت النظر في مجتمعنا العربي بصفة عامة بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم أشد سوءاً وكلما أوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على مايسوء حتى وصلت الى البدايات الأولى عند البابليين والفراعنة. دون أن أجد مرحلة استطاع فيها المواطن أن يقول بملء الفم هذه بلادي وأنا أنعم فيها بانسانيتي وكرامتي وأتمتع بجميع حقوقي وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصتع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة أشد تشاؤماً:(إننا نتقهقر .. ومن هنا فلاتزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلاً والنفس حزينة حتى الموت)(8). وأنا كنت أتأمل دعاء الفجر (إنه لايذل من واليت ولايعز من عاديت) فعرفت سر الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس لإن الوثنية تتمتع بحصانة عندنا وخفاء، في الوقت الذي تخلص الغرب من أوثان السياسية واقترب درجة اكثر من التوحيد فرفعه الله. وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى أن هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم :(وإذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لايغرس أفكارا بل ينصب أصناماً ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح) ورأى أن الوثنية غيرت لونها فاستبدلت (الدروشة الجديدة التمائم والحروز بأوراق الانتخابات) والمطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن :( الحكومة مهما كانت ماهي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه. وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلابد أن تكون حكومته استعمارية) ولذا فإن ماحصل كان سقوطاً :(في أحضان الوثنية مرة أخرى كأن الاصلاح حطم الزوايا والقباب من دون الوثن.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية)(9). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو أن هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن عبد الطاغوت يقتربون في أشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً. أذاعت محطة بريطانية في 31 مارس من عام 1846 م أنه سيكون في الأول من ابريل معرض هام وكبير لكل أنواع الحمير في صالة عرض فخمة وفعلاً جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة وأخذوا في الانتظار وهم يمنون النفس برؤية هذا الحيوان المشهور بآذانه الطويلة وغباءه المعهود فلما امتد الوقت لم يظهر أحد ولم يكن هناك في القاعة إلا من حضر عند ذلك ضحكوا على أنفسهم الى درجة الأغماء لأنهم عرفوا إن كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الأول من ابريل المترافق بكذبة نيسان(10) هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
مراجع وهوامش
(1) كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد ج 2 ص 122 نقلاً عن كتاب (أدب الاختلاف) تأليف (طه جابر العلواني) المعهد العالمي للفكر الاسلامي ـ الطبعة الخامسة 1992 م ص 12 (2) مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 11 تاريخ 12 3 2001 م ص 223 عنوان المقالة هل أنت اله دافع عن نفسك؟ (3) أفول الغرب ـ تأليف أوسفالد شبنجلر ـ ترجمة أحمد الشيباني ـ دار مكتبة الحياة بيروت ـ الجزء الثاني ص 285 (4) يراجع في هذا كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم ـ أبو الأعلى المودودي ـ فصل الأله(5) كتاب (صوت الناس ـ محنة ثقافة مزورة) ـ تأليف الصادق النيهوم ـ نشر رياض الريس ـ ص 236 (6) كتاب (الطاغية) الدكتور إمام عبد الفتاح إمام وهذه الفقرة والتي بعدها للورد اكتون من نفس الكتاب نشر مدبولي ص 49 (7) جودت سعيد ـ مجلة المجلة ـ العدد 1102 ص 76 (8) كتاب الطاغية ـ تأليف أ . د . إمام عبد الفتاح إمام ـ الناشر مدبولي ـ ص 27 (9) مالك بن نبي ـ شروط النهضة ـ ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبد الصبور شاهين ـ دار الفكر ـ ص 36 (10) كتاب (فلسفة الكذب) ـ محمد مهدي علام ـ مكتبة التراث الاسلامي ـ ص 69.