بين الإسلام والعولمة
بين الإسلام والعولمة
د.محمد سالم سعد الله
إنّ العولمة شكل من أشكال الليبرالية الجديدة ، وقد نتجـت من اندمـاج ثلاث منظومات هي : ( الرأسمالية والإعلامية والمعلوماتية ) ، وتنتمي إلى مرحلة جديدة يطلق عليها : ( مرحلة ما بعد الاستعمارية Post-colonailism ) ، وإذا كانت العولمة تتعايش مع ذاتها بمعزل عن الآخرين فإنّها تتجه إلى بناء حصنها في مقابل تقويض نتاجات الآخر ، وإذا كانت تتعايش مع الآخرين بمعزل عن ذاتها بدعوى الانفتاح على العالم ، وعدم وجود حدود معينة أو خارطة مخصوصة للعلم والمعرفة ، وإلغاء الخصوصيات المتجه نحو تعظيم الإقليم أو الأمة أو الوطن ، فإنها في ذلك تتجه نحو طمس الهويات ، ومسخ خصوصية الأقليـات ، وتذويب المجاميع المتعددة ، لغرض بسط سلوك ونموذج معين .
* العولمة بين الواقع والغيب :
إنّ للعولمة جانبين هما : ( الجانب المادي ، والجانب الروحي ) ، يحيل الجانب الأول إلى شلل الدولة الوطنية لغرض تذويبها في المنظومة الرأسمالية ، وتوظيف الإعلام ووسائل الاتصال في عملية الاختراق الثقافي ، التي تمارسها العولمة بكل تمظهراتها المعاصرة ، فضلا عن التعامل مع العالم وفقا لمنطق البقاء للأصلح ، والأفضلية لصاحب القوة ، ولذلك عرّفها بعضهم بالقول : إنها فعل اغتصاب ثقافي ، وعدوان رمزي على سائر الثقافات ، إنها مشروع إمبريالي رأسمالي ، يمتلك أيدٍّ مطلقة في السيطرة على العالم ، والتصرف في شؤونه .
أما بالنسبة للجانب الروحي لها فإنّها تسعى وتطمح إلى قتل هذا الميدان ، من خلال تغليب الجانب المادي عليه ، ومحاولة تشجيع البناء الفيزيقي / الواقعي ، على حساب الجانب الميتافيزيقي / الغيبي ، وفي ذلك أثر بليغ في صرف الأفراد عن الدين والتدين ، والابتعاد عن سؤال الحاجة من الغيب ، مما يقود إلى خلخلة بنية الإيمان بالخالق ، والتشكيك بوجوده ، والتساؤل عن الغرض من وجوده ، ... ونحو ذلك ، فضلا عن نعت المتمسكين بالقيم الروحية والنقية والخلقية ، بأوصاف تقترب من التخلف والجهل والعيش في الفنتازيا ، ومحاولة البعد عن الواقع ، والهروب إلى حقول الغيب وتمظهراته .
وعليه فإن العولمة تعنى بكل الوسائل الكفيلة بتقديم الخبرة والابتكارات ونتائج البحوث في الميادين المتنوعة ، وخدمة الحقل العلمي بما يتناسب مع اللامحدودية في طموح الإنسان ، وتهتم أيضا في بناء هوة كبيرة بين الشعوب ـ فضلا عن الأفراد ـ من خلال سياسة النفعية والمصلحية والهمينة الاقتصادية ، ثم توحيد القيم والعادات والمعايير ، لتصبح نموذجا واحدا يحتذى في شتى بقاع العالم المعمورة ، حتى يتحقق حلم العولمة بصيرورة العالم قرية صغيرة واحدة .
إنّ الإسلام يقبل بكل ما هو مفيد للإنسانية والكون والحياة ، بما يحقق لها تواصلا ونجاحا واتساقا وتناغما مع مفردات الكون ، التي تشير جميعها إلى قدرة الخالق وارداته وجماله ، وتناغـم مخلوقاتـه ، ( والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها ) ، وفي مقابل ذلك رَفْض الإسلام للابتزاز والسيادة الرأسمالية والهيمنة الاقتصادية ، التي تشق العالم نصفين : نصف فقير معدوم ، ونصف غني مترف ، كما يرفض صيغ النفعية والمصلحية ، لأنّ ( خير الناس أنفعهم للناس ) .
* الاختراق الثقافي والتثاقف الحضاري :
يلتقي الإسلام مع كلّ نتاج هدفه خدمة البشرية وإسعادها ، وفقا لضوابط تحترم حرية الإنسان وكرامتـه ، وتحفظ له إنسانيته ، وإذا كانت العولمة أو غيرها تسعى إلى ذلك ، فإن التعاليم الإسلامية لن تتقاطع معها ، لكن ما أفرزته العولمة منذ نشوئها ، بوصفها مصطلحا سياسيا منبثقا من فكر الرئيس الأمريكي السابق ( بيل كلينتون ) في منتصف التسعينات من القرن الماضي ، عبارة عن ( رؤى كارثية ) تجعل العلم يقترب من نهايته ، بل عُدّت فضلا عن ذلك مؤامرة تسعى لقتل اللغة وطمس خصوصيتها ، لتجعلها لغة واحدة تضييع فيها الهويات ، ولهذا تعددت أسماؤها بين : ( تغريب العالم ، ومحو الهويات ، ونهاية الحـدود ، ومؤامرة ثقافية ، ونفي للوجود القومي ، وأداة للهيمنة ، ومسخ للهويات القومية ، ومحو للخصوصيات الثقافية ، ... ) ، هذا فضلا عن أهدافها في تحويل الثقافيات المتعددة إلى ثقافة واحدة مُمَركزة حول المعطى الغربي ، وتحويل الدولة أو الأمة والوطن إلى ( كنتونات ) منصهرة داخل الإمبراطورية العالمية الجديدة .
وفي هذا الإطار طرحت العولمة سلوكياتها للتأثير ، من خلال مصطلح ( الاختراق الثقافي ) الذي يشير إلى التدخل في الثقافات العالمية المتعددة ، ومحاولة صهرها في الثقافة المُمركزة ، التي تحيل بشكل دائم إلى إفراز ثقافة متحيزة ، هي ( الثقافة الأمريكية ) في إطار مشروع ( الأمركة ) الذي يقتضي تحويل جميع المظاهر في الثقافات والعقائد المتنوعة والأفكار المختلفة إلى نموذج واحد ، هو النموذج الأمريكي ، مستندة في ذلك بدرجة كبيرة على النتاج العالمي والمعلوماتي والإعلامي ، في مقابل طرح الإسلام الذي أعطى مصطلح ( التثاقف الحضاري ) ، ويقدم هذا الأخير مؤشراً إلى اندماج الشعوب مع بعضها ، مع حفاظ كل منها على خصوصية في الحوار والمعرفة والثقافة ، ولهذا المصطلح مقاصد من الوجهة الإسلاميـة ، إنطلاقا من قوله تعالى : ) يَا أُيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلْقنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعلنَاكُم شُعُوبَاً وَقَبائِلَ لِتَعَارفُوا ( ، فالمعيار هو الإيمان بالله ، وما عدا ذلك فهو يتبع الخصوصية التي يدين بها هذا المجتمع أو ذاك ، ويحيل مصطلح ( التثاقف الحضاري ) أيضا إلى صيغ تحرص على الحقوق والواجبات ، وبناء مجتمع الحق والعدل ، والمساواة وتشجيع العلم ، ونبذ الفرقة وترك التباغض ، وينطلق بالدرجة الأساسية من مبدأ الوحدانية لله .
* العولمة بين القبول والرفض :
هل نقبل العولمة أو نرفضها ؟ ، كيف ستتعامل المجموعة الثقافية الإسلامية مع العولمة ، وهي متجذرة في الوقت نفسه في بيئتها ذات الخصوصية والتوجهات المختلفة عن الدوائر الغربية ؟ ، وهل ستكف العولمة عن وصفها أداة للهيمنة ، لتصير أداة للمشاركة ؟ ، وفي مقابل ذلك هل نحن بحاجة إلى تقديم خطابنا الثقافي في مواجهة العولمة ، أم نحن بحاجة إلى خطاب العولمة في مواجهة خطابنا الثقافي المتأزم في الوقت الحالي ؟ .
إن الخطاب الثقافي الإسلامي اليوم بحاجة إلى تحويل خطاب العولمة من خطاب الهيمنة ، إلى خطاب المشاركة ، بمعنى تقديم خطاب ( العولمة المضادة ) ـ حسب تعبير الناقد عبد السلام المسدي ـ ، ويقوم هذا الخطاب على آلية النقض الجدلي العقلاني ذي الوسائل البديلة ، فنحن بحاجة إلى عولمة إنسانية في مقابل العولمة الوحشية ، وعولمة الحق ضد عولمة الباطل ، وعولمة المعرفة ضد عولمة الجهل ، وعولمة الحرية ضد عولمة الاستبداد ، وبإمكان العولمة المضادة أن تقدم ثقافة تقديس الجسد والتمتع بالأصالة والحداثة معا ، والتطلع إلى المستقبل ، من خلال الربط بين الجانب المادي الواقعي ، والجانب الروحي الغيبي ، في مقابل ثقافة الاستهلاك وتعرية الجسد والمتعة واللذة المحرمة ، والركون إلى الجانب المادي بكل تبعاته ، فإذا استطعنا إصلاح ضعف إيماننا ، وراعينا سُنن الله Y في الكون والحياة ، وانتفعنا من إمكانياتنا البشرية والمادية ، واعتمدنا على مقدرتنا في سلمنا وحربنا ، وطوّرنا مؤسساتنا التعليمية والاقتصادية ، عندئذ يمكننا تقديم عولمتنا المضادة ـ للاستزادة ينظر : الإسلام والعولمة ، د. يوسف القرضاوي ـ .
* البناء الثقافي للعولمة :
إذا كان منطق العولمة إنتاج أكبر ما يمكن إنتاجه من السلع بأقل جهد ممكن من الأيدي العاملة ، وإذا كانت نتائجها زيادة الفقر ، وارتفاع نسبة البطالة ، وزيادة الهوة بين الدول ، فإنّ الثقافة التي ستقدمها العولمة للعالم هي ( ثقافة الكراهية ) ، التي تمارس الحقد ضد الشعوب ، وما أفرزته العولمة هو سياسة القطب الأمريكي ، الذي مارس صنوفا شتى لمحاربة الدول التي تسعى إلى الحفاظ على خصوصياتها مثل : العراق وأفغانستان ، وقد جنحت العولمة الأمريكية إلى استخدام الإرهاب تجاه الدول المتواضعة عسكريا واقتصاديا ، ودعم الإرهاب الصهيوني بكل أشكاله ، وتوجيه الضربات الإستباقية دون شرعية دولية ، وإغلاق المدارس الدينية بدعوى تشجيعها الإرهاب ، وتغيير المناهج الدراسية ، أو محاولة التأثير في تغييرها في بعض الدول الإسلامية ، فضلا عن الاعتقالات المستمرة في صفوف المسلمين ، وفتح سجون للاعتقال عبارة عن أقفاص لا تصلح إلا للحيوانات ، يُحتجز فيها من تراهم الولايات المتحدة إرهابيين ! ، وسجن ( غوانتناموا ) ، و( أبي غريب ) شاهدين على ذلك .
ثم الهيمنة المستمرة والمباشرة لجميع النشاطات والمحافل الدولية والمنتديات الدولية ، كلّ ذلك أوحى برفض سياسة العولمة وأجندتها ، لأنها نتاج أميركي ، ومشروع لخدمة التوجهات الرأسمالية ، وفكرة غرضها الأساسي الهيمنة على العالم من خلال السيطرة على منابع ثرواته .
إنّ البناء الفكري للعولمة بناء مغاير لمعايير الفكر الإسلامي ، إنّ الفكر العولمي هو فكر سيتند على معطيات الحضارة الغربية المعاصرة ، ممثلة بالنموذج الأمريكي المهيمن ، والحرب التي تشن على الإسلام تشكل جزءا مهما من سياسة العولمة ، ولذلك تسعى هذه الأخيرة إلى الجنوح نحو حرب وقائية تجاه بعض الدول الإسلامية ، لغرض منع وصول الإسلام السياسي الحضاري إلى صياغة القرار ، ولذلك فإنّ مسألة قبول العولمة جملة وتفصيلا مسألة فيها نظر ، لأنّ العولمة والإسلام كيانان ثقافيان حضاريان مختلفان تماماً ، يمكن أن يتعايشا ، لكن لا يمكن أن يمتزجا ، لاختلاف التوجه والمقصد والغاية .