لا مقاومة بلا أمن(2)
لا مقاومة بلا أمن
(2 من 4)
د.محمد بسام يوسف
نستمر في هذه الحلقة أيضاً، بتلاوة بعض نصوص القرآن الكريم (بعينٍ أمنية)، لتوضيح بعض الأسس والمفاهيم الأمنية الواردة في دستور الإسلام العظيم، وهو كلام الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونستعرض فيما يلي بعض القصص القرآني الذي يؤكد على أهمية العمل الأمني في حماية الدعوة الإسلامية، وحماية المقاومة وفعالياتها وأبنائها المؤمنين المخلصين الصادقين.. وكل مكوّناتها، وحماية الأمة المسلمة كلها من عدوّها المتربّص بها .
أصحاب الكهف : عِظاتٌ أمنيةٌ .. وقصةٌ تتكرر كل يوم
الصراع بين الحق والباطل متعدد الوجوه، فأهل الحق والدعوة الربانية مستهدفون على مدار الساعة، وأهل الباطل والطغيان في كل حينٍ يتربّصون بأبناء الدعوة الإسلامية، يرومون النيل منهم والقضاء على دعوتهم، بالقضاء عليهم .
مَنْ هم أولئك الفتية، الذين تميّزوا عن قومهم الذين لفّهم الضلال والظلم والظلام من كل جانب؟!..
(.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: من الآية 13).
إنهم حَمَلة اللواء إذاً، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان الصادر عن أولئك الجبّارين الذين حكموا بغير ما أنزل الله، فَضَلّوا وأضلّوا، وتحكّموا بمصائر الناس الذين تحوّلوا إلى عبيدٍ لهم .. لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا ؟!..
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10) .. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عز وجل، وتسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه سبحانه وتعالى :
(ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً) .
فهم يعلمون ببصيرة إيمانهم أنّ الحماية والأمن لا يُطلَبان إلا من الذي يملكهما، فلجأوا إليه وحده، وطلبوهما منه وحده !..
بعد كل ذلك .. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير ؟!..
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونُصرة !..
هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله .. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم :
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16) .. ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أن الله عز وجل هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين الظالمين وأنصارهم ومُمَالئيهم وجُندهم:
(.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً).
فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..
ونام الفتية في مَأواهم الجديد (الكهف) مئات السنين :
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11).
ثم أيقظهم الله جل وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي كل تلكم السنين الطويلة ؟!..
يخبرنا الله عز وجل في كتابه العظيم، أنّ هاجس (الأمن) و(حماية النفس والجماعة والدعوة) لم يتغيّر في نفوسهم، على الرغم من مرور كل تلك المدّة الطويلة !.. فقد مرت تسعٌ وثلاث مئةٍ من السنين، من غير أن يُكشَفوا أو يُكشَف مكانهم وأمرهم، وفي هذا دلالة عظيمة على حِكمتهم وحُسن تخطيطهم (الأمني) في حماية أنفسهم وحماية دعوتهم، طوال تلك السنون !..
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ..) .. (.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية 19).
إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، و اتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو أن يسلك طريق مقاومة الباطل وظلمه وجُنده !.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء :
(.. وليتلطّف)!.. أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف وتُعرَف شخصيته !.. ثم ماذا ؟!..: (.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً)!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً من كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك يمكن أن يقع الخطر الأكيد !.. وما هو هذا الخطر الأكيد ؟!..
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ..)!.. (الكهف: من الآية 20) .. نعم هذه هي حال الطواغيت الجبارين المتسلّطين على البلاد والعباد، في كل زمانٍ ومكان .. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم، وبدعوتكم .. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل : (يرجُموكُم)!.. أو .. أو ماذا ؟!..
(.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)!.. (الكهف: من الآية 20) .. إنه الحل الآخر المرّ، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكفرهم ومنهجهم في الحياة، بعد كل تلك السنين من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا !.. فماذا أنتم فاعلون ؟!..
لا خيار إذاً .. إما الاستمرار في طريق الدعوة والمقاومة حتى تحقيق الأهداف المرجوّة، من العزة والتحرّر والاستقلال وإحقاق الحق وإبطال الباطل، مع اتخاذ كل الأسباب (الأمنية)، التي تحمي هذه الدعوة ورجالاتها ومجاهديها .. وإما العودة إلى حياة الكفر ودين الطواغيت الظالمين، ومنهج الأرباب المزيَّفين، وحياة العبودية لغير الله عز وجل والذلّ في الدنيا .. ثم إلى عذاب الله وسخطه وعقابه في الآخرة .. فما أعظم العبرة، وما أبلغ الدرس !..
يوسف عليه الصلاة والسلام : دروسٌ أمنيةٌ بليغة !..
إنّ قصة يوسف عليه السلام مثال واضح على حتمية الصراع بين الخير والشرّ، بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين .. ولا يُحسَم هذا الصراع لصالح أبناء الحق والخير والهدى إلا بأمرين اثنين معاً :
1- الإيمان الصادق القوي بالله عز وجل، وبالدعوة التي يسيرون في ركابها .
2- اتخاذ كل الأسباب اللازمة الضرورية لمواجهة العدو والطغيان والشرّ .
إن السير في خطة حمايةٍ متكاملةٍ هو أحد الأسباب المهمة التي ينبغي الأخذ بها في كل مراحل الصراع، فمهما كان عدد المجاهدين في سبيل الله، ومهما كان عدد أفراد العدو، فإن (العمل الأمني) لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله طالما أن الصراع موجود، وعلى أي وجهٍ من الوجوه كان !.. وهذا المفهوم الأمني يتجلى واضحاً في قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام !..
لقد رأى يوسف عليه السلام في المنام رؤياه المشهورة التي أدخلت القلق إلى نفس يعقوب –والده– عليه السلام :
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف:4) .. ولأنّ يعقوب عليه السلام عرف تأويل هذه الرؤيا، فتوقع على الفور نتائجها فيما لو علم أبناؤه بها وبتأويلها، فهو أعلم بطبيعة أبنائه وسرائرهم، التي يتملكها الحسد والغيرة وقساوة القلب التي تجعل من هؤلاء الأبناء أعداءً ألدّاء ظالمين .. فماذا كان موقف الوالد يعقوب عليه السلام ؟!..
لقد (حذّر) ابنه يوسف عليه السلام من أن يبوح بخبر الرؤيا لإخوته، أي وصّاه بحفظ السرّ، سرّ الرؤيا .. (والسرية) بمعنى عدم كشف أسرار الدعوة، من أهم أساليب العمل الأمني، ومن أهم وسائل تحقيق (الأمن والحماية) لأبناء الدعوة !..
(قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف:5) .. إنه الكيد .. سلاح الحاسدين الذين تعميهم نفوسهم الصغيرة عن اتباع الحق، والذين يتركون المجال واسعاً للشيطان -عدوّ الجميع- للتلاعب بهم، ولتأجيج نار العداوة والبغضاء بينهم .. ثم تأجيج نار الصراع !.. وبصيرة الوالد يعقوب عليه السلام تكشف الكيد، ويحاول تجنّبه وتجنيب ابنه يوسف عليه السلام شرّ الأشرار، وإنّ ما توقّعه -بنفاذ بصيرته، وبعلمه وحكمته وحنكته- لم يكن ضرباً في الفراغ .. فهاهم الأبناء الذين أعماهم الشرّ يأتمرون ويتآمرون :
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9)!..
ويأتي الأبناء للطلب من أبيهم إرسال يوسف عليه السلام معهم، ويدخل الصراع مرحلةً جديدة، ويحاول الأب أن يحميَ ابنه من الكيد والشرّ، لكن كيف ؟!.. فهو والدهم كلهم، وهو لا يريد أن يبوحَ بحبه ليوسف عليه السلام، لأن ذلك سيؤجج نار الحسد في صدور أبنائه الآخرين، وسيقدم دليلاً جديداً ومبرراً آخر لهم ليستمروا في خطّهم الأرعن بالكيد !..
لم يجد يعقوب عليه السلام إلا (التورية والتغطية) سبيلاً للتملص من طلب أبنائه :
(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13) .. فقد خاف على ابنه الحبيب منهم، فكنّى عن ذلك بالذئب، كي يصرفهم عن طلبهم الخطير، وهو عالم بنيّاتهم ومكرهم، ومتوقّع لشرّهم بحق يوسف الحبيب !.. وكل ذلك كان بهدف (الحماية) و(تحقيق الأمن) لولده يوسف عليه السلام !..
لكن لأمرٍ يريده الله، غُلِبَ الأب الحكيم على أمره، فكان لهم ما أرادوا .. فللباطل أيضاً أساليبه (الأمنية) الماكرة !..
وهاهم الأبناء بعد ارتكاب فعلتهم الشنيعة بإلقاء يوسف عليه السلام في غَيابة الجبّ، يتصنّعون الحزن والبكاء :
(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (يوسف:16) .. ويختلقون قصة ضياعه المزعومة من بين أيديهم، ويبذلون جهدهم على أن تكون القصة محبوكةً بدهاء، ومقنعةً منطقية :
(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف:17) .. ثم ماذا ؟.. (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِب) (يوسف: من الآية 18) .. وهكذا استخدموا كل وسيلةٍ ممكنةٍ بأسلوب (التغطية) و(التعمية) لتبرير فعلتهم، وتحقيق مأربهم !.. فالباطل إذاً يملك من الأساليب الأمنية ما يستوجب مقابلتها بأساليب أشدّ دهاءً وذكاءً للتغلب عليه !..
ويمكّن الله عز وجل ليوسف عليه السلام في الأرض بعد سلسلةٍ من المحن المتلاحقة :
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:56) .. وينصره ربّ العزّة، فيحكم يوسف عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله .. ولكن قصته مع إخوته لم تنتهِ !..
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف:58) .. هكذا إذاً .. فقد مكّنه الله، وجعله يعرف إخوته من غير أن يعرفوه .. فهل كشف سرّه لهم وعرّفهم على نفسه بعد أن تيقّن من معرفته لهم ؟!..
لا !.. لم يفعل .. فالصراع مازال قائماً .. ولا بدّ من الاستمرار في (الخطة الأمنية) التي تمكّنه من معرفة عدوّه، من غير أن يعرفَه عدوُّهُ، وبذلك يستطيع أن يتعامل معه، ويدير دفّة الصراع بحكمةٍ وحنكةٍ، ليؤول الأمر إليه في النهاية !..
فهل نتعلّم من قصص أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام ؟!..
هاهو ذا يوسف عليه السلام قد استلم زمام المبادرة، لأنه عرف عدوّه، ولم يمكّنه من التعرّف عليه، ومن يملك زمام المبادرة .. يملك الفرصة الأعظم لتحقيق النصر !..
لقد بدأ عليه السلام بتنفيذ خطته، وذلك باستدراج إخوته لإحضار أخيه (بنيامين) معهم إليه، ثم واصل خطته بدهاءٍ لإبقاء أخيه عنده :
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (يوسف:62) .. ثم ماذا ؟!.. (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف:69) .. نعم لقد أسرّ عليه السلام إلى أخيه بهذا السرّ !.. فهو أخوه، وينبغي عليه أن لا يجزع فيتصرف أي تصرفٍ يفسد الخطة .. ولعلّنا نلاحظ أن السبب الذي دعاه إلى إخفاء سرّه عن إخوته، هو نفس السبب الذي دعاه إلى البوح بهذا السرّ إلى أخيه (بنيامين) : إنها الرغبة في الاستمرار بامتلاك زمام المبادرة بخطةٍ (أمنيةٍ) محكمةٍ .. وتقتضي الخطة أن يُتهم الأخ (بنيامين) بتهمة السرقة لكي يبقى مع أخيه، ويخطط يوسف عليه السلام لتحقيق ذلك :
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف:70) .. ثم يبدأ التنفيذ المحكم للخطة، فيبدأ التفتيش بأوعية الإخوة على الرغم من تيقّنه أن (السقاية) في وعاء أخيه الصغير، دَفعاً للتهمة وسَتراً لما دبّره من الحيلة لتحقيق هدفه : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف:76) .. ولم يُستَفَزّ يوسف عليه السلام عندما سمع كلاماً من الإخوة يسيء إلى سمعته وشرفه، لأنّ أمام عينيه هدفاً لا بدّ من بلوغه، ولم يحن الوقت للكشف عن نفسه وسرّه، لأنه إن فعل، فسيُجهض خطته بيديه، ويُحبِط كل ما عمل وخطط له :
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (يوسف: من الآية 77).
لم يهزّه هذا الافتراء الظالم، ولم يخرجه عن طوره، ولم يفقده صوابه، فماذا فعل ؟!..
(.. فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) (يوسف: من الآية 77) .. فإذن : احتفظ برباطة جأشه وتوازنه وتماسكه، كي لا تفشل خطته، لكن عندما حان الوقت لكشف السرّ وتحقيق الهدف، لم يتردّد يوسف عليه السلام –بعد استنفاد كل أركان خطته- في الكشف عن نفسه وكشف سرّه، وقد كان هذا الكشف جزءاً من الخطة، وحلقةً مكمّلةً لها، لبلوغ الهدف :
(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف:89) .. عندئذٍ اكتشفوا السرّ:
(قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90) .. وتحقّق الهدف بإذن الله وعونه وقدرته أولاً، وبالخطة (الأمنية) المحكمة التي وضعها يوسف عليه السلام، ثم نفذها بإحكامٍ ودهاء !..
وكان من ثمرات ذلك الدهاء الأمنيّ وأهدافه .. أن جمع الله الشمل، واجتمعت الأسرة من جديد، وتاب الإخوة -الأعداء- إلى الله عز وجل، بعد أن لقّنهم أخوهم يوسف دروساً بليغةً لن ينسوها :
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99)
فيا ربّ .. اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه
اللهمّ آمين .. اللهم آمين
يتبع إن شاء الله