محفظتي الخفيفة
معمر حبار
عاد بعقارب الساعة إلى أربعة عقود، وما يقارب ثلاث سنوات، يستنطق من خلالها، الزمن ويستوقفه، ويسأله عن المحفظة الأولى التي رافقته، عبر المراحل التعليمية التي عاشها، بدقات القلوب، قبل نبض العضلات.
كانت له محفظة واحدة ووحيدة، صنعها الأب رحمة الله عليه من القماش الغليظ. تداول عليها الكبير والصغير، فطال عمرها لسنوات طوال، حتّى ضرب بها المثل في المتانة ومقاومة الزمن، وتحمّل الأيدي المتعددة، والأسماء الكثيرة التي تداولتها.
كان التلميذ يومها يكفيه من الحمل كراس أو كراسين، يحملها في يديه أو حاملة خفيفة للأوراق. وكانت الكتب عزيزة نادرة غير متوفرة. يملك نسخة منها الأستاذ دون غيره، فيملي على تلاميذه الدرس والتمرين، فيكون له التفوق والسّبق.
كانت الحالة المادية للأولياء إلى الفقر أقرب، وإلى الحاجة أحوج. فلم يكن الإبن يطلب فوق طاقة الوالدين، ويكفيه القلم الواحد، والكراس الواحد، ولا يسأل عن الكتاب، فهو غير متوفر.
ملابس العيد إن وجدت، هي نفسها ملابس الدخول المدرسي. يعاد غسلها، وترقيع بعض جوانبها إن تعرّضت للتمزيق، ويلبسها الطفل وهو في غاية الفرح والسرور، بل يتباهى بها على الأقران، إن كانوا أسوأ منه حالا، وأشد فقرا.
وبما أنه لم يحمل محفظة طيلة المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، إنتقل إلى الجامعة، ولم تكن المحفظة ضمن أولوياته، فقد تعوّد على حمل الأدوات المدرسية في يديه أو كيس أو حاملة أوراق أو تحت بطنه حين سقوط المطر، ويستعملها مظلة ، حين تشتد حرارة الشمس.
في المرحلة الجامعية، أهداه أخوه الأكبر محفظة من البلاستيك، مازالت لحد الآن يضع فيها وثائقه الشخصية، منذ ،1986، ولم يشىء أن يستبدلها أو يقتني أحسن منها، رغم أنه إشترى لأبنائه الأربعة محافظ جديدة، يضعون فيها وثائقهم الشخصية، ناهيك عن أخرى للأدوات المدرسية.
إمتازت بالمنظر الجميل، والمتانة، وسهولة الفتح والغلق. كانت بالنسبة له، وهو الذي لم يحمل محفظة من قبل، كنز من الكنوز، لابد من المحافظة عليه.
يحملها، وهو يتجول بين أرجاء العاصمة الجزائرية، متنقلا بين المكتبات والمدرجات، حاملا فيها أغراضه والمحاضرات، بكل فخر واعتزاز.
ذات يوم، وهو يتنقل بين محلات العاصمة، ليشتري بعض مايحتاجه من لباس. إستوقفه صاحب المحل، طالبا منه أن يبيعه المحفظة البلاستيكية.
لم يكن الطالب يتصور، أن محفظته يبلغ بها هذا الشأن، فرفض على الفور، واعدا صاحب المحل أن يبحث له عن محفظة أخرى. فأصر صاحب الدكان، وضاعف في السعر، بل بالغ في السعر، وهي التي تساوي أقلّ بكثير من المبلغ الذي قدّمه.
لم يسع الطالب، إلا أن انسحب من الدكان بهدوء، خشية أن يغلبه صاحبه في الرأي ويغريه المبلغ، وتضيع منه المحفظة الوحيدة الخفيفة.
السعر المبالغ فيه للمحفظة، وإصرار صاحب الدكان على إقتناءها مهما كان الثمن، رفع من قيمة المحفظة لدى الطالب، وزاد إصراره على أن لايبيعها مهما كان الثمن، وهو أحوج الناس إلى السنتيم، قبل الدينار.
حين يسأله زملاءه عن محفظته البلاستيكية الجميلة الخفيفة، يجيب باعتزاز وفخر. هذه ليست محفظة عادية، إنها..Valise Plasticomatique على وزن Diplomatique، فينفجر الزملاء ضحكا وتعجبا من المصطلح الجديد، الذي سمعوه لأول مرة في حياتهم، ويزيده هذا الجو والتعجب، فخرا وإعتزازا بما قال، ويملك. وانتشر مصطلحه، وعمّ الجميع، حتّى أمسى يعرف به.
محفظة خفيفة، تساعد على المشي، والحركة، والجري. تحمل الأغراض والأدوات. تناسب الطفل في خفته، والأدوات في حجمها، والمسافة في بعدها.
هذه قصتي مع المحفظة، يتعمّد صاحب الأسطر أن لايقارن محفظة الأمس بمحفظة اليوم، حتى لايفسد نسيم الزمن، وهواء الأيام الغالية، وربما سيخصّص لمحفظة اليوم، مقالا منفردا، بإذنه تعالى.