دروس من التاريخ
دروس من التاريخ
مخطط هرتسل والاستيطان الاستعماري
محمد فاروق الإمام
كان كتاب ثيودور هرتسل (دولة اليهود)، تجسيداً للأيديولوجية الصهيونية، ومخططاً لبناء الدولة اليهودية، عالج أدق تفاصيل عملية البناء ابتداءً من إقامة (جمعية اليهود)- الهيئة التي ستشرف على المشروع- والشركة اليهودية- المؤسسة التي ستنفذه اقتصادياً- حتى قضايا تهجير اليهود بطبقاتهم وتنظيم المدن في دولتهم واختيار لغتهم وعملهم وسن دستورهم.
وعلى هذا الضوء يعتبر
كتاب (دولة اليهود) مخطط الممارسة الصهيونية، وتظهر فيه ملامح السياسة العامة التي
اختطتها المنظمة الصهيونية بعد أن قامت في المؤتمر الصهيوني الأول.
وحسب المخطط تكون البداية في تعيين رقعة الأرض التي ستقوم عليها الدولة اليهودية،
و(جمعية اليهود) هي التي ستختار فيما بعد إذا كانت هذه
الرقعة ستكون فلسطين أو الأرجنتين (دولة اليهود) إصدار مجلس الطوارئ الصهيوني
الأمريكي عام 1946م ثم تأتي (الشركة اليهودية) لتنفذ المشروع عملياً
(فتصفي مصالح اليهود المهاجرين.. وتنظم التجارة في القطر الجديد).
ويحتل فصل (الشركة اليهودية) حيزاً محترماً في كتاب (دولة اليهود) لأن هرتسل أراد أن يعالج بالتفصيل- إلى حد ما طبعاً- مسألة تصفية أموال اليهود غير المنقولة ونقلها مع رؤوس الأموال السائلة إلى القطر الجديد لاستخدامها في بناء المساكن وشراء الأراضي وتنظيم التجارة.
وحدد هرتسل رأسمالاً لهذه الشركة بمقدار ألف مليون مارك (50 مليون جنيه أو 200 مليون دولار بسعر بداية القرن العشرين) واختار مركزاً لها لندن لتكون تحت سلطة بريطانيا القانونية وحمايتها.
وتصور هرتسل وأقرانه تنفيذ المشروع على نسق الاستيطان الكولونيالي في الجزائر وروديسيا وغيرها ولذلك حين أسسوا أداة الصهيونية المالية في عام 1902م أطلقوا عليها أسم الشركة اليهودية الاستعمارية (الكولونيالية) واعتبروها (أداة الحركة الصهيونية المالية وهدفها الجوهري تطوير فلسطين والأقطار المجاورة لها صناعياً واقتصادياً).
ولم تكن القضية مجرد تشابه في الأسماء، فقادة الصهيونية أكدوا فيما بعد التماثل بينهم وبين الممارسة الاستعمارية الكولونيالية.
وكتب الزعيم الصهيوني ناحوم سوكولوف في معرض تفسيره دوافع تأسيس شركات المنظمة الصهيونية المالية في بريطانيا:
(وشجعت الإنجازات العظيمة التي حققها الغزو السلمي البريطاني الاستيطان الاستعماري الكولونيالي- أ.ت) الحركة الصهيونية لتضع ثقتها وأموالها (في بريطانيا- أ.ت). لقد خلق سيسل رودس (الإمبريالي البريطاني الذي قاد احتلال ولايات عدة في أفريقيا وسميت روديسيا باسمه أ.ت) بمبلغ مليون جنيه فقط روديسيا التي تمتد مساحتها 750 ألف ميل مربع. وسيطرت شركة شمال بورنيو البريطانية برأسمال 800.000 جنيه على 31.000 ميل مربع، وشركة أفريقيا الشرقية البريطانية التي أشرفت على الإدارة 200.000 ميل مربع بدأت بالمبلغ الذي بدأت فيه الشركة اليهودية الاستعمارية أي بمبلغ 250.000 جنيه).
وأكد سوكولوف هذا الأمر حين عاد وكتب في معرض مناقشته المتشككين:
(وتسأل ما هي سياستكم؟ وآخرون يقولون يجب استبعاد السياسة فالصهيونية يجب أن تكون إما استعماراً وإما حركة روحية... ولكن يجب أن نكون صهيونيين في استعمارنا وروحنا وديننا).
ولذلك لم يكن غريباً أن تتجه الحركة الصهيونية إلى الإمبراطورية البريطانية. وفي هذا الصدد كتب ناحوم سوكولوف أيضاً (وكان واضحاً أن تقوم بريطانيا بدور على غاية من الأهمية في السياسة الصهيونية. ومنذ البداية كانت لندن مركز المنظمة الصهيونية المالية ومحجة الصهيونية السياسية).
وأضاف: (ولذلك قاد الطريق هرتسل إلى لندن.. فبريطانيا هي التي اقترحت إقامة الدولة اليهودية في أوغندا (أفريقيا) ونظمت بعثة العريش... لقد كانت المالية الصهيونية إنجليزية والنظرة السياسية الصهيونية إنجليزية).
وهذا التجاوب بين القيادة الصهيونية وبريطانيا الإمبراطورية منذ بدء المنظمة الصهيونية أكده اللورد ملتشت في كتابه (جارك) فكتب أن الحركة نمت بعد المؤتمرين الثاني والثالث (وتحقق تقدم هام في إنجلترا حيث كان غير يهود لامعين من مؤيدي مثل العودة إلى صهيون).
وفعلاً بدأت في هذه الفترة بالذات المفاوضات بين هرتسل ممثل المنظمة الصهيونية وجوزيف تشمبرلين سكرتير (وزير) المستعمرات البريطاني بشأن استيطان اليهود الاستعماري الكولونيالي في عدد من الأقطار.
وفي المفاوضات الأولى بين هرتسل وتشمبرلين تقدم هرتسل في 22 تشرين الأول عام 1902م بمشروع لاستعمار قبرص وشبه جزيرة سيناء حتى العريش، إلا أن تشمبرلين استبعد قبرص لأن اليونانيين والمسلمين (الأتراك) سيرفضون ذلك، ولكنه نظر نظرة إيجابية نحو مشروع استعمار شبه جزيرة سيناء (وعرف فيما بعد بمشروع العريش) واقترح على هرتسل الاجتماع باللورد لاندسون من وزارة الخارجية لهذا الغرض.
وتابعت المنظمة الصهيونية المشروع الذي كان يجب أن يعتمد على موافقة المندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك، اللورد كرومر. وأرسلت بعثة لاستقصاء الحقائق إلى سيناء، بدأ بعدها هرتسل يفاوض اللورد كرومر في هذا الشأن، إلا أن الأخير تحفظ من المخطط فسقط المشروع.
وبعد ذلك اقترح تشمبرلين منح أوغندا (في كينيا) للاستعمار الصهيوني واقتنع هرتسل بالعرض فبحثه في المؤتمر الصهيوني السادس في بال الذي عقد بين 23-28 آب عام 1903م، ونجح في أخذ موافقة أكثرية المندوبين على قبول العرض وإقامة "فلسطين جديدة" في تلك المنطقة.
ولكن المشروع فشل لأكثر من سبب، ومن أهم الأسباب مقاومة المستوطنين الإنجليز أي استيطان يهودي واسع يهدد مواقعهم، على اعتبار أن المنطقة ستتحول إلى إقليم حكم ذاتي يهودي لو تم المشروع، ومنها معارضة قسم من الصهيونيين اختيار أوغندا اعتقاداً منهم أنها لن تحرك عواطف اليهود كما تحركها فلسطين التي ترتبط بتقاليدهم وطقوسهم الدينية.
وهنا تجدر الملاحظة أن مخططات بريطانيا في هذه الفترة من بداية القرن العشرين تباينت، إلى حد ما، مع مخططاتها في أواسط القرن التاسع عشر، آنذاك كانت محافلها تدعو إلى (بعث صهيون) أو (إعادة إسرائيل) في فلسطين، وكان ذلك كما لاحظنا قد ارتبط بمشاريعها الاستعمارية- في منطقة الشرق الأوسط إبان الهزة السياسية التي أحدثتها مصر في عهد محمد علي عند محاولتها إقامة الدولة العربية الكبيرة بين 1831-1840م. أما في مطلع القرن العشرين فكانت بريطانيا قد احتلت مصر ولم تكن تستطيع في ظروف التوازن الدولي الدقيق الذي أبقى الإمبراطورية العثمانية على كف عفريت (فسميت رجل أوروبا المريض) أن تخطط للاستيلاء على فلسطين، ولذلك كان اهتمامها بالمنظمة الصهيونية قائماً على رغبتها في تسخيرها لتنظيم استيطان استعماري في بعض أنحاء الإمبراطورية البريطانية وبشكل خاص في أوغندا.
ولكن تغيير الأوضاع في العالم إبان الحرب العالمية الأولى وسنوح فرصة لتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية (التركية) بعثاً المشروعات الإمبريالية البريطانية القديمة وعاد البحث من جديد في (إعادة إسرائيل)... يتبع.