حبُّ المرأة زوجها وطاعتُها إياه
حبُّ المرأة زوجها وطاعتُها إياه
د.عثمان قدري مكانسي
لكل جسم رأس يقوده ، رأس واحد ، له وحده الرئاسة ، وله وحده الكلمة الأخيرة ، ومدار الحياة كلها على هذا الأساس ، ولا يعني هذا التفرّدَ في اتخاذ القرار ، والتخطيطِ ، والتدبير ، لئن كان كذلك كانت الحياة مظلمة والعيش بائساً ، والتفكير قاصراً ، والهدف متعباً . ولا بدَّ من المشورة ، وإشراك الآخرين في مناقشته ودراسته ، والإحاطة به ، ثم . . بعد كل هذا يتخذ المسؤول ومَنْ يتحمَّل التبعةَ القرار ويُنْفِذُه . . . ووجود أكثر من رأس لا يوصل إلى الهدف المنشود لتضارب القناعات والإرادات والقدرة على تحمل المسؤولية . .
وعلى هذا قررت الحكمة الإلهية أن تُسنِد قيادة البيت إلى الرجل ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (1) لما فيهم من صفات تؤهلهم لذلك، وخلقت النساء في الدرجة الثانية ـ ليس في المكانة أبداً ـ فالله سبحانه وتعالى يجعلهن والرجال في مغفرته وأجره سواءً . قال تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35 ) ) (2) وقال سبحانه : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (3) إنما هنَّ في الدرجة الثانية في القيادة البيتية وتحمل التبعات . قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والمرأة راعية على بيت زوجها وولده . . )) (4) ، فالزوج زوجها ، والبيت بيتها ، والأولاد أولادها ، لكنَّ الحديث جاء مؤكداً أنَّ البيت لزوجها والأولاد أولاده للتأكيد على مكانتها الأولى بعد زوجها في البيت ، وأن مسؤوليتها تأتي بعد مسؤوليته .
فكيف عبَّر الحديث عن مكانة الزوج في المقام الأول ؟
كانت العرب وغيرهم من الأمم إذا عظَّموا أحداً سجدوا له ، ولما كان السجود في الإسلام لله تعالى وحده فما ينبغي أن نسجد إلا لله سبحانه ، فالسجود خاص به ، خالص له . ولتعظيم حق الزوج على زوجته قال الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )) (5) ، وقال كذلك عليه الصلاة والسلام موضحاُ أنَّ جنَّة المرأة بيد زوجها ، فإذا رضي عنها دخلت الجنة :(( أيُّما امرأة ماتت ، وزوجها عنها راض دخلت الجنة )) (6) ، والمقصود هنا الزوج المسلم الصالح والمرأة المسلمة الصالحة فهو يكرمها ويؤدي حقَّها وهي تفعل كذلك .
وخير ما يحوزه المرء زوجة صالحة تعينه على أمور دنياه ، تودعه بابتسامة المحب وتأمره أن يتخيّر الرزق الحلال ، وأن ينأى بنفسه وزوجته وولده عن الحرام ، وتدعو له بظهر الغيب ، وتجعل بيتها جنّته ، وتستقبله حين يعود بحفاوة تنسيه ما لقيه خارج البيت . قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة )) (7) .
وقد مرَّ معنا نهي النبيِّ أن تمتنع المرأة عن زوجها إذا دعاها ، ولو كانت منشغلة عنه بما يصلح البيت من غسيل وطعام وتظيف و . . .
ولا ينبغي للمرأة أن تشاكس زوجها أو تؤذيه ، وقد مدح القرآن الكريم النساء المطيعات لله القائمات بحقوق الأزواج ، الحافظات في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في أنفسهن وماله ، الكاتمات أسرار أزواجهن ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ) (8) .
وللرجل المسلم في الجنة نساء من أهلها ينتظرن بفارغ الصبر مجيئه إليهن ، مطلعات على ما يحدث بين الرجل وزوجته ، فإذا وجدن منها ما يؤذيه عاتبنَها ، فقد روى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ! فإنما هو عندك دخيل (9) يوشك أن يفارقك إلينا )) (10) .
وهذه أم الدرداء رضي الله عنها آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين زوجها أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذّلة تلبس ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة وذلك قبل أن يُضربَ الحجاب فقال لها : ما شأنك ؟ لمَ أنت هكذا لا تهتمين بنفسك أليس لزوجك عليك حقاً ؟ قالت له : ولمن تتزين المرأة ؟ أليس لزوجها ؟ قال : بلى . قالت : فهذا أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، ولا نسائها ، فتراه قوّاما بالليل صوّاماً بالنهار .
فجاء أبو الدرداء ، ورحّب به ، وصنع له طعاماً ، وقال له : قم يا سلمان فَكُلْ فإني صائم .
قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل معي ، فأكل أبو الدرداء حفاظاً لحق الضيف ورغبة في إكرامه ، لكنّه وجد في نفسه إذ اضطر أن يُفطِرَ نهاره .
فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومه فأمره سلمان أن يذهب إلى مخدعه فينام ، وللقيام وقتٌ آخر ، وأخبره أنَّ لزوجته حقاً فيه لا ينبغي التفريط فيه ، فانصاع لأمره .
ثم قام يريد صلاة الليل ، وما زال في الوقت متسع ، فأمره أخوه سلمان أن يعود إلى فراشه فأجابه متأففاً ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، فصلّيا جميعاً ، ثم انطلقا إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلمان يقول لأبي الدرداء : إنَّ لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاّ ، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه .
لكنَّ أبا الدرداء شكا للنبيِّ ما فعل به سلمان ، فقد منعه صوم يومه ، وقيام ليله ، فما كان من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن سُرَّ من فقه سلمان رضي الله عنه ووافقه على فهمه وحسن تصرفه ، وقال لأبي الدرداء : (( صدق سلمان )) (11) .
فالمرأة حين رأت من زوجها عزوفاً عنها ، لا كرهاً ولا رغبةً عنها ، أذعنت لذلك على الرغم أنه انتقص حقها دون أن يدري ، ولم تشكُه لسلمان إنما وضّّحت له سبب ابتذالها ، واجتهدت أن ترضي زوجها وتطيعه ما أمكنها . . وما ذاك إلا لحبها إياه وطاعتها له ، والنزول عن رغبته .
ولا أدلَّ على حب المرأة المسلمة زوجها من تَصَرُّفِ امرأة هلال بن أميّة ، أحد الثلاثة المخلفين (12) ، حين أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساءهم ـ معشر الثلاثة ـ أن يعتزلنهم ، فذهبت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشفقة على زوجها ، خائفة عليه وهو الشيخ الهرم لا يستطيع خدمة نفسه إذا اعتزلته زوجتُه ، فقالت له : يا رسول الله إنَّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدُمه ؟ قال : (( لا , ولكنْ لا يقرَبنّكِ )) ، فقالت : إنه والله ما به من حركة إلى شيء ( لا يشتهي النساء ) ووالله ما زال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان ، إلى يومه هذا (13) .
أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل المدينة ألا يتعاملوا مع هؤلاء الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك دون عذر مدّة أربعين يوماً ، ثم أمر النساء فابتعدن عن أزواجهن إلا زوجة هلال بقية الخمسين يوماً ، وامرأة محبّةٌ لزوجها امتثلت لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنها استأذنته في خدمة من عاشت معه سنيّ عمرها ، وذاقت معه الحلو والمرَّ ، والشهدَ والعلقم ، فكانت مؤمنة تقيّة في طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومحبَّةً وفيّةً لزوجها ورفيق عمرها .
ومن الصور الجميلة في الحبّ المتبادل بين الزوجين ما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى ، وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت ، وأيقظتْ زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )) (14) .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا أو صلّى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات )) (15) .
إنها حياة مثالية رائعة للزوجين المسلمين الصالحين ، وإنها والله امرأة من أهل الجنة إن أحبّت زوجها وأطاعته .
(1) النساء : 34 .
(2) الاحزاب : 35 .
(3) البقرة : 228 .
(4) رواه البخاري برقم ( 893 ، 2409 ، 2554 ) ، ومسلم برقم ( 1829 ) وغيرهما .
(5) رواه الترمذي برقم ( 1159 ) وقال : حديث حسن غريب ، وانظر : المشكاة برقم ( 3255 ) .
(6) أخرجه الترمذي برقم ( 1161 ) ، وابن ماجه برقم ( 1854 ) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وانظر : المشكاة برقم ( 3256 ) .
(7) رواه مسلم برقم ( 1467 ) ، وأحمد برقم ( 6531 ) ، والنسائي برقم ( 3232 ) وغيرهم .
(8) النساء : 34 .
(9) دخيل عندك : ضيف نزيل سرعان ما يغادر إلينا .
(10) أخرجه أحمد برقم ( 21596 ) ، والترمذي برقم ( 1174 ) ، وابن ماجه برقم ( 2014 ) ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب وانظر المشكاة برقم ( 3258 ) .
(11) رواه البخاري برقم ( 1968 ، 6139 ) ، والترمذي برقم ( 2413 ) .
(12) هم مرار بن الربيع العَمْرِيُّ ، وهلالُ بن أميّةَ الواقفيُّ ، وكعبُ بن مالكٍ الأنصاريُّ .
(13) القصّةُ أخرجها البخاري برقم ( 4418 ) ، ومسلم برقم ( 2769 ) ، وأحمد برقم ( 26634 ) وغيرهم .
(14) أخرجه أحمد برقم ( 7362 , 9344 ) ، وأبو داود برقم ( 1308 ) ، والنسائي برقم ( 1610 ) ، وانظر : المشكاة برقم ( 1230 ) .
(15) أخرجه أبو داود برفم ( 1309 ) ، وابن ماجه برقم ( 1335 ) ، وانظر : المشكاة برقم ( 1238 ) .