المسجد الأقصى في الجمعة اليتيمة

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

اعتاد الفلسطينيون منذ عشرات السنين أن يطلقوا على الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كل عام "الجمعة اليتيمة"، وكانوا يتهيأون قبل حلولها ليشدوا الرحال إلى المسجد الأقصى، ليصلوا في رحابه صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، حيث كانت جموعٌ غفيرة من كل أرجاء الوطن تؤم المسجد الأقصى، وكانوا ينطلقون في الساعات الأولى لفجر يوم الجمعة من كل المدن والبلدات الفلسطينية، من مختلف مدن وبلدات الضفة الغربية وقطاع غزة ومن فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، وكأنهم يشدون الرحال إلى المسجد الحرام في مكة المكرمة، وذلك لتخطي العقبات الإسرائيلية، وتجاوز الحواجز العسكرية، لضمان الوصول إلى المسجد قبل وقت الصلاة، حيث تقف قوات من شرطة الاحتلال الإسرائيلي على بوابات الحرم، تدقق في بطاقات هوية المصلين، فتسمح لمن شاءت وتمنع آخرين، وتضع شروطاً لعمر المصلين فألا يقل عمر الرجال عن الخمسين عاماً، وعمر النساء عن الأربعين عاماً، ومع ذلك فقد كان عدد المصلين في الجمعة اليتيمة يقارب في بعض الأحيان المليون مصلي، وكان خطيب الحرم القدسي الشريف في الجمعة اليتيمة يتميز عن أقرانه، إذ ناله شرف خطبة صلاة الجمعة اليتيمة، حيث تتميز خطبته عن غيرها لتكون بياناً سياسياً، وتعبيراً عن حال الأمة، وإفصاحاً عن آمالها وأهدافها وغاياتها، ومنها كانت تنطلق المواقف والرؤى، وقبل نيفٍ عن عشرين عاماً، وبعد الثورة الإسلامية في إيران، أعلن قائدها الإمام الخميني عن تخصيص الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كل عام لتكون يوماً عالمياً للقدس، ومنذ ذلك الوقت غلب يوم القدس العالمي على الجمعة الأخيرة من رمضان، وأخذ كثيرٌ من المسلمين في أكثر من مكانٍ في العالم يحيون هذا اليوم باحتفالاتٍ كبيرة، ويظهرون عاطفتهم تجاه القدس والمسجد الأقصى المبارك.

قد تكون الجمعة اليتيمة لهذا العام مختلفة كثيراً عن سابقاتها، ويوم القدس العالمي لا يماثله يومٌ آخر، فالحزن يخيم على المسلمين لا في فلسطين وحدها بل في كل مكانٍ، ، فالقدس تتعرض لأبشع وأشرس هجمة صهيونية تستهدف هويتها العربية والإسلامية، وتحاول النيل من المسجد الأقصى المبارك وهدمه، إذ أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشددة التي يرأسها بنيامين نتنياهو، ويترأس دبلوماسيتها أفيغودور ليبرمان، قد جعلت من توسيع الاستيطان في مدينة القدس الشرقية، وحفر المزيد من الأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف، أحد أهم أولوياتها، فالقدس في هذا العام تتعرض لأشرس هجمة في تاريخها، وكأنه يعاد احتلالها من جديد، ولكن الاحتلال هذه المرة يسعى لشطب أي ملامح أو جذور تربط المدينة بتاريخها وهويتها، وحتى المسجد الأقصى يراد إزالته من الوجود وبناء هيكل سليمان مكانه، ويخططون لطرد أكبر عددٍ ممكن من سكان القدس العرب، وهدم بيوتهم، ومصادرة ممتلكاتهم، وقد لا تقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي في اعتداءاتها على القدس أرضاً وسكاناً على الأحياء فقط، بل امتدت الأيدي الإسرائيلية الظالمة إلى مقابر المسلمين، حيث يرقد خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعبثت بالقبور وبعثرتها، ووضعت الخطط لحرث المقابر وبناء منتزهاتٍ عامة عليها، فالخطر المحدق بالقدس مدينة وحرماً يكاد يكون قد وصل إلى نقطةٍ تنذر بالانفجار.

في الجمعة اليتيمة تتعمد شرطة السير الإسرائيلية أن تحرر آلاف المخالفات ضد الحافلات والمركبات الفلسطينية التي تنتشر على بوابات المسجد الأقصى، فيجد المصلون عند عودتهم إلى سياراتهم، أن الشرطة الإسرائيلية قد ألصقت على زجاج واجهة السيارات العربية مئات المخالفات المرورية بحجة الوقوف الخطأ، أو الوقوف في أماكن ممنوعة، وذلك لمنع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى، وتقوم أحياناً بسحب السيارات من أماكنها، وجرها إلى مجمعاتٍ بعيدة.

الجمعة اليتيمة تصادف هذا العام مناسبة القدس عاصمة للثقافة العربية، فعلى مدى عامٍ كامل تحتفل الأمة العربية في كل العواصم العربية بالقدس عاصمة للثقافة العربية، رغم كل المحاولات الإسرائيلية لمنع الاحتفالات بهذه المناسبة، وخاصةً تلك التي تعقد في مدينة القدس، حيث تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية على منع أي نشاطٍ في مدينة القدس احتفالاً بهذه المناسبة، حتى ولو كان المحتفلون بهذه المناسبة أطفالاً أو تلاميذ مدارس، أو فرقاً فنية أو أنشطة جماهيرية، ومع ذلك يبذل الفلسطينيون غاية جهدهم ليحتفلوا بالقدس عاصمةً للثقافة العربية، رغم كل العقبات والحواجز الإسرائيلية، ورغم محاولات التضييق والمنع التي تمارسها السلطات الإسرائيلية حتى ضد الضيوف الأجانب الذين يفدون من الخارج لمشاركة المقدسيين احتفالاتهم.

في الجمعة اليتيمة يصدح الفلسطينيون رغم ضعفهم، وتتعالى أصوات العرب والمسلمين تضامناً معهم في كل مكان، أن القدس آيةٌ في كتاب الله، تتلى إلى يوم القيامة، محفوظةٌ بحفظ الله ورعايته، باقية عربيةً إسلامية ما بقي الزمان، لا يقوى أحدٌ أياً كان على شطبها أو إزالتها، أو تزييف حقيقتها، أو تزوير تاريخها، مهما بلغت قوته، ومهما عظمت سطوته، فالقدس عقيدةٌ لدى المسلمين، كما أنها انتماءٌ لدى المسيحيين، وإليها تهفو قلوب ملايين المسلمين في كل مكان، كلٌ يتمنى أن يزورها، وأن يخطو فوق ترابها، وأن يصلي لله في مسجدها، فهي عند المسلمين مسرىً ومعراجاً، وجامعة للأنبياء الذين صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كانت قبل البيت الحرام قبلةً، وبقيت بعدها حرماً إليها تشد الرحال، ولا يقوى رجلٌ أياً كان أن يتنازل عنها، أو عن جزءٍ منها، فهي عاصمة فلسطين كانت وستبقى، ومهما حاول الإسرائيليون تغريب المدينة وحرفها عن أصلها، فإنها تأبى إلا أن تكون عربية الانتماء، إسلامية الهوية.

في الجمعة اليتيمة لا ينبغي أن تكون القدس يتيمة، ولا ينبغي أن نشعر إزاءها بالعجز أو الذل والهوان، فلا نقبل بإجراءات الهوان الإسرائيلية، ولا بمحاولات التهويد والتشويه والتزوير، فالفلسطينيون يرفضون التنازل عن القدس، ولا يقبلون بواقع تقسيمها، ولا يسلمون لإسرائيل بإجراءاتها التعسفية في المدينة ضدهم، ولكنهم يستصرخون العرب والمسلمين للدفاع عن المدينة المقدسة، وعن المسجد الأقصى المبارك، إذ الدفاع عنها مسؤولية عربية وإسلامية، ولا يستطيع الفلسطينيون وحدهم أن يقفوا في مواجهة إسرائيل، ولا ضد بعض الدول الكبرى التي تؤيدها في سياساتها داخل مدينة القدس، وواجب تحرير القدس، وتطهير المسجد الأقصى إنما هو مسؤولية عربية وإسلامية، ولكن ينبغي ألا نترك القدس وحيدة يتيمة، وإنما يجب أن تتضافر كل الجهود لحمايتها والدفاع عنها، ليبقى صوت الآذان يصدح من على مآذنها، وتبقى صيحات الله أكبر تجلجل في جنباتها، وتبقى أجراس كنيسة القيامة تدق إلى قيام الساعة، وستبقى القدس شوارع وجدراناً، مساكن ومداخل، جبالاً وودياناً، مساجد وكنائس تشهد أنها مدينة عربية، عصية على التقسيم والتغريب والتهويد، وستبقى أمتنا بخير، مرفوعة الرأس، عالية الجبين، موفورة الكرامة ما كانت القدس حرة، تنعم بأصالة الانتماء، ونقاء الهوية، فللقدس في جمعتها اليتيمة، وفي يوم القدس العالمي ألف تحية وعهد.

الجمعة اليتيمة

               

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني