خصوبة المصطلح النقدي
خصوبة المصطلح النقدي
د.محمد سالم سعد الله
أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل
يتسم المنطق النقدي للبيئة العربية المعاصرة بإدراكات وتوجهات مختلفة على صعيد تبني أو رفض المعطيات النقدية قبل مرحلة ولادة المصطلح ، أو على صعيد النتاج المفاهيمي بعد مرحلة تقديم المصطلح ، كما توحي هذه البيئة النقدية بسلسلة من التصورات المتباينة حيناً ، والمتوافقة حيناً آخر ، والمتعلقة ببيان حال البيت النقدي العربي المعاصر ، الذي أصابه من جملة ما أصابه آفات عدة منها : الطروحات الفردية ، والإجتهادات المنحرفة ، والسلوكيات الثقافية بعيدة القصد والتوجه ، ووهم الإتفاق على صيغة ، والإتيان بكلّ شاذ أو غريب من الاشتقاق اللغوي ، أو التوصيف المفاهيمي بعيد الدلالة عن المصطلح ، وحركية المصطلح التي لا تركن إلى دلالة تتسم بالثبات .
إنّ هذه الآفات وغيرها أسهمت في نقل الواقع الاصطلاحي من ميدان لبيان النظم الدلالية الحيوية التي تقدم توصيفاً علمياً لظاهرة معينة ، إلى ميدان إشكاليّ ينقصه الدقة والاتزان العلميّ ، وهو بحاجة بشكل دائم إلى تحديد الأطر الفاعلة في بيان توجهات هذا المصطلح أو ذاك ، فضلاً عن دور هذه الآفات في نقل وظيفة المصطلح من تكوين المعرفة إلى تغييبها ، ومن بيان الخصوصية النقدية إلى تنوعها ، ومن تحديد النظم الحيوية لدلالة المصطلح إلى توسيع ميدان الآليات المندرجة ضمنه .
في هذا السياق هل أدرك الواقع الأكاديمي العربي هذه الإشكاليات ، وهل وعى محتواها المنحرف عن سلوكيات المسار العلمي الدقيق ، ثم هل مارس هذا الواقع تحصين مدارات الإصطلاح النقدي العربي المعاصر في عصر التكتلات النقدية العالمية ، أم أنه آل إلى الاطمئنان للنسق المتسم بمسيرة تستر العيوب ، واقتنع بثقافة الغياب التي لا تشكل إلا خطوة أولى نحو الانغلاق أولاً ، ثم نحو التهميش والإقصاء ثانياً .
ولغرض مناقشة الواقع السابق بمزالقه ومعوقاته ، بسلوكياته وظواهره ، أقامت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب من الثالث من أيار وحتى الخامس منه ، مؤتمراً علمياً للمصطلح النقدي تحت عنوان : (المصطلح النقدي في اللغة والأدب) شارك فيه نخبة من المفكرين والنقاد والأكاديميين العرب ، وقد كان لنا الشرف في تمثيل جامعة الموصل الغراء في هذا المؤتمر، فضلاً عن بحثين آخرين مثّلا جامعة تكريت وبغداد.
وقد أثيرت في هذا المؤتمر قضايا فكرية ونقدية ولغوية مهمة ، منها ما يتعلق بإشكاليات المصطلح من حيث : ترجمته ، واشتقاقه ، وتبني الوافد منه ، ودور المجامع اللغوية في تبني أو رفض البعض منه ، فضلا عن وعي المصطلح ووسائل تأصيله وحركته في الميدان التطبيقي ، وسأبين هنا بعضاً مما نوقش في هذا المحفل العلمي الرصين ، مركزاً على المداخلات التي شاركنا بها مع الباحثين ، وتتسم بالإشكالية ، وتثير التساؤل المستمر .
تأسست بنية تشكيل المؤتمر على جلسات عدة ، كانت الأولى منها لافتتاح المؤتمر ، وكلمة الأستاذ عميد كلية الآداب ، وقد توزعت جلسات المؤتمر كالآتي :
1. إشكاليات المصطلح في الترجمة والتعريب .
2. إشكاليات المصطلح في التطبيق النقدي العربي .
3. وعي المصطلح النقدي .
4. وسائل تأصيل المصطلح النقدي .
5. حركة المصطلح النقدي .
حوت الجلسة الأولى بحوثاً أربعة : المصطلح وفوضى الترجمة ( د. فؤاد مرعي ) ، أثر الترجمة في تحديد تسمية المصطلحات ومفاهيمها ( د. حسن الرحيل ) ، نحو ترجمة مصطلحات علم الأدب ( د. غسان مرتضى ) ، مصطلح ما بعد البنيوية من التكوين إلى الإشكالية ( د. محمد سالم سعد الله ) ، وألقينا بحثنا مبتدئين بأبيات ترحيبية بالمؤتمر :
استقبلَتكَ حلبيةً فاحتضنْ حَياءَها نـهضتْ بأفنانِها الخُضرِ مودةً جـمعتْ حِسانً عُرباً وحضارةً لـها منَ العراقِ الجريحِ رسالةٌ | شـهباءُ تخلطُ بالمعرفةِ حـدباءُ رسمتْ بالموصلِ دلالَها حـمـلـتْ نفائسَ علمٍ زُلالَها فـيـهَـا العيونُ تغازلُ كمالَها | جَمالَها
أثار بحثنا جملة من القضايا المفاهيمية المتعلقة بمصطلح ما بعد البنيوية ، ومنها :
1. الاختلاف الحاصل في تحديد منهجية ما بعد البنيوية .
2. قضية ال( ما بعد Post ) ومعطياتها المعرفية .
3. التداخل الحاصل بين مصطلح ما بعد البنيوية وبعض المصطلحات المعاصرة .
وقد أثيرت في هذه الجلسة قضية الفرق بين : (تعدد الترجمات ، وفوضى المصطلح) بوصف الأولى ظاهرة صحية ، وكون الثانية ظاهرة غير صحية ، وقد نقدنا ذلك بالقول : أنّ تعدد الترجمات يقود إلى الاختلاف ، والاختلاف ينهض بتشظي الدلالة ، وتشظي الدلالة يقود إلى اتساع المفاهيم ويؤدي هذا الأخير إلى الفوضى في الاصطلاح . وكذا فوضى المصطلح تتجه نحو ضياع الدلالة ، وضياع الدلالة يسلك طرائق لا منهجية ، وتقود بالتالي إلى التعدد المفاهيمي ، لذلك فإنّ الترجمة الاصطلاحية يجب أن تكون أحادية لا ثنائية وغير متعددة ، فهي ليست من باب : (اختلافُ الترجمةِ رحمةٌ نقديةٌ) ، وبهذا يمكن القول أنّ الأحادية قي الترجمة ظاهرة صحية ، وأن تعددها وفوضويتها ظاهرة غير صحية .
أما الجلسة الثانية فقد ألقيت فيها البحوث الآتية : المصطلحات المترجمة في النقد الأدبي المعاصر (د. زياد الزعبي) ، ومصطلحات الدلالة في النقد الأدبي المعاصر (د. فايز الداية) ، والمصطلح السردي في النقد الأدبي العربي الحديث (د. عبد الله أبو هيف) ، واستقبال مصطلح الصورلوجيا في الأدب المقارن (د. راتب سكر) ، وإشكالية تلقي المصطلح النقدي (د. زبيدة قاضي)، قدّمت هذه البحوث معطيات مهمة في ميدان تداول المصطلح النقدي ، واقتراح صيغ عملية في ضبط دلالته ، وقد كانت لدينا مداخلات حول ما طُرِح في هذه الجلسة نجملها بالآتي :
مداخلة مع البحث الأول مفادها : قبل البحث في ميدان تخطئة مصطلح نقدي موجود في كتاب معين في الكتب العربية القديمة التي تنتمي إلى القرون الأولى للهجرة ، علينا النظر في التطور الدلالي للغة ومفرداتها ، لأنّ لغة أرسطو المنطقية الفلسفية لا تساوي بشكل من الأشكال اللغة المعاصرة نفسها ، لذلك فإنّ ما قصده أرسطو ب(Metaphor) يرتبط بالتحول على صعيد المعنى الواحد في التركيب الواحد على صعيد الجملة ، وقد تطور ذلك فيما بعد إلى (Metaphor) ثم إلى (Metaphorical) ، وهذا الكلام يرد في نظريات (Change of Meaning) المعاصرة ، ولديّ مفردتان للتدليل على ذلك : الأولى على صعيد التطور الدلالي وتغييره في البيئة العربية فمثلاً مفردة (طَرِبَ) كانت تطلق على الإنسان الذي أصيب بفقد شخص قريب ، فيقال فلان طرب أي لديه مأتم أي لديه حزن ، أما الدلالة المعاصرة لها فهي مرنبطة دلاليا بالمتعة واللهو والفرحة وكذا مفردة (هوسة) ومفردة (غوغاء) ، والثانية على صعيد التطور الدلالي وتغييره في البيئة اليونانية ، فمثلا مفردة (فاراماكوس : Pharmakeus) التي أدخلها دريدا في دوامة الدلالة اللانهائية في إطار (نظرية اللعب) التفكيكية .
ومداخلة ثانية مع بحث الدكتور فايز الداية : أعتقد أنّ الاشتغال في الميدان الدلالي الذي تفضل به الدكتور قد خرج من الأطر المنهجية إلى الأطر النظرية ، بمعنى آخر الخروج من المنهج إلى النظرية ، وذلك لأنّ المنهج حسب ابجديات اشتغاله يحتاج إلى آليات وأدوات نقدية لها مقومات ومعطيات دلالية ، أما النظرية بوصفها ميداناً معرفياً فهي تحتاج إلى أسس ثلاثة هي : صياغة فرضيات ، وصناعة مصطلحات ، وإبداع مفاهيم ، وقد ورد هذا في المسالك المعرفية للبحث ، لذلك أجد أنّ البحث إن تحول من مسمى المنهج الدلالي إلى النظرية الدلالية سيكون أقرب للقصد .
وقد اقترح الدكتور فايز تسمية (الدوائر الدلالية) بوصفها فاعلية نقدية في إطار منهج أطلق عليه (المنهج الدلالي) ، وقلنا ما القصد من الدوائر الدلالية هل هي : (Circle of Semantic) أو (Circle of Signification) أو (Circle of Meaning) ، فإن كان القصد الأول فنحن لم نخرج من ميدان (ستيفن أولمان) في كتابه : (Semantic) ، وإن كان الثاني فنحن لم نخرج من ميدان : (Signifer) و (Signifed) في الحقل اللساني ، وإن كان الثالث فإننا لم نخرج عن (ريتشارد وأوجدن) في كتابهما : (The Meaning of Meaning) ، فضلا عن أنه لا يمكن الحديث الآن عن منهج دلالي لسبب علمي هو : اشتغال الدلالة في كل المناهج النقدية ، فهي تمثل ثيمة أو إن شئت قل (آلية) تنتفع منها المناهج في إجراءاتها ، واعتقد أننا لن نستطيع الحديث عن منهج دلالي ما لم يُسند إلى مرجعية فلسفية ، كي يكتسب الإجراء النقدي أسس بقائه واشتغاله ، وأضرب مثالا على ذلك : تحول التأويل بوصفه آلية للاشتغال إلى منهج نقدي عندما أُسند إلى الظاهراتية .
أما مداخلتنا مع بحث الدكتور راتب سكر فقد كانت حول مصطلح (الصورلوجيا) ، إذ تساءلنا حول إمكانية تحويل مصطلح الصورلوجيا الهجين إلى مصطلحات غير هجينة من مثل : علم الصورة (بوصفه ترجمة) ، ومصطلح إماكولوجيا (بوصفه تعريب) ، ثم علينا بيان الفرق بين (Image) و (Imago) فالمصطلح الأول هو الصورة العيانية التي تنتمي إلى النص أو اللوحة أو التشكيل ، أما الثاني فهو الصورة المفهومية غير العيانية التي تنتمي إلى إجراءات ترحيلية تدخل ميادين التأثير والتأثر وهذا ما يبحثه الأدب المقارن ، لذلك أرى أنّ المصطلح الأقرب إلى القصد هو (إماكولوجيا) ، وليس (إماكلوجيا) .
وكان لنا مع بحث الأستاذة الفاضلة زبيدة القاضي المداخلات الآتية : إنّ الحكم المطلق يُوقع البحث العلمي في إطار الظاهرة لا في إطار التحليل والنقد ، فنقاد الحداثة وما بعد الحداثة مساحتهم واسعة ، فهل قرأ البحث كلّ الجهد المعرفي لهذه المساحة كي يصل إلى نتيجة مفادها : الاستخدام الغامض في دراسات الحداثة وما بعد الحداثة العلمية والنقدية ، ثم أنّ التفكيكية ليست نظرية ، إنما هي منهج محدد ذو معالم نقدية وآليات مصنفة ، وقد صرح دريدا نفسه أنّ التفكيك لم يتحول إلى نظرية ، وأخيرا قبل أن نتحدث عن إفلاس ما بعد الحداثة علينا أن نتحدث عن معطياتها أولاً .
وحملت الجلسة الثالثة الحديث عن إشكاليات المصطلح في التطبيق النقدي العربي وضمت بحوث الآتية : مقاربات في المتن الاصطلاحي للنقد اللساني (د. رضوان القضماني) ، المشروع الثقافي عند الغذامي : في نقد المصطلح (د. أحمد علي محمد) ، إشكالية التعددية في المصطلح النقدي "الإلكوريا" نموذجاً (د. إلياس خلف) ، الجمالي : وعي المصطلح ودلالاته (د. سعد الدين كليب) ، ناقشنا البحث الأول في لفظة مقاربات وقلنا أنّ للعنوان فلسفة نظامية تحمل معنى مكثف يلف العمل كلّه ، فهو بنية سيميائية ، لذلك وُصِف بمفتاح النص الدلالي ، فإن قلنا مثلاً : (دراسة نقدية في كتاب فلان) فإننا نتجه إلى تقديم تموضعات نقدية تسلك مسلكا منهجيا ، وهذا لا يوجد في قولنا : (مقاربات نقدية في كتاب فلان) لأنّ المقاربة لا تدخل العمل كي تُشغِل عليه الأدوات النقدية، بل تدخل في إطار مراقبة الظاهرة لا تحليلها ، لذلك نجد أنّ لفظة (مقاربات) هي نوع من أساليب (الهروب النقدي) ، والابتعاد عن تحليل القضية النقدية ، والابتعاد عن تقديم معطياتها .
أما فيما يخص (الغذامي) في بحث الدكتور أحمد ، فقد ذكرنا أنّ أعمال الغذامي مشاريع طفولية لا تكبر ، وذلك للأسباب الآتية : أولاً لا يحمل الغذامي وفاء لمشاريعه ، لأنه يتركها بسهولة إذا ما تعرض إلى نقد شديد حولها ، ومشروع (التشريحية) مثال على ذلك ، وثانيا لم تمتلك هذه المشاريع صدى واسعا في البيئة العربية النقدية ، وذلك لتجاوزها النسق النقدي المناسب لها ، وثالثا لا يمتلك الغذامي أداة نقدية فاعلة في التأثير في الوسط النقدي العربي ، وقد تأتت شهرته من خروجه على النسق البيئي الذي يعيش فيه ، وهي من باب (خالف تعرف) ، وقد نال شهرته بشكل كبير بعد أطروحة الدكتوراه لعوض القرني في جامعة الإمام محمد بن سعود عن تكفير الغذامي ، فلو كان هذا الأخير في العراق أو في سوريا أو في لبنان أو في مصر مثلا ، فلن يكون الغذامي كما هو الآن . أما حول بحث الدكتور إلياس فقد طرحنا السؤال الآتي : هل البحث في إشكالية مصطلح الإلكوريا هو بحث ثيولوجي ، أم بحث معجمي ، فإن كان البحث ثيولوجيا ، فما علاقة إشكالية هذا المصطلح النقدي بالثيولوجيا ، وان كان معجميا فلماذا لم يقتصر البحث بالمعاجم التي تُعنى بمتابعة دلالات المصطلحات وبيان معانيها ؟ .
وضمت الجلسة الرابعة (وعي المصطلح النقدي) البحوث الآتية : إشكالية المصطلح ومشروع المعجم النقدي (د. فاتن الحياني) ، الشعرية وتحولاتها النظرية (د. خليل الموسى) ، اللغة والمكون المعرفي للمصطلح (د. يونس فقيه) ، المصطلح في النقد الأدبي العربي (د. سهام ناصر)، وكانت لدينا مداخلتان : الأولى مع بحث الدكتورة فاتن إذ ذكرت مصطلحين هما : (البنى المفهومية، والبنى المفككة) اللذين يكتنفهما الضبابية في الدلالة ، لأنّ البنى والبنية والبناء هو إنشاء مادة عينية أو مصطلحية ، وهي تحمل أو تكتنز معنى بالضرورة ، لذا لم أجد مبررا لتسمية البنى المفككة ، ويمكن أن يكون القصد : البنى ذات النسق المفكك ، وتوحي تسمية البنى المفهومية وحسب قانون المخالفة أن هناك بنى غير مفهومية ، فهل هذا صحيح ؟ وإن سلمنا جدلا بوجودها ، ما علاقتها بالمصطلح النقدي أو بإشكاليته ، وإن كانت الإجابة تتجه بالقول أنّ هناك بنى مفهومية موجودة في معطيات دريدا في تضييع المدلول أو غيابه ، أقول أنّ ضياع المدلول أو غيابه أو تعدده ، ليصل إلى مرحلة لا نهائية الدلالة ، لا يعني بشكل من الأشكال غياب المفهوم بشكل مطلق ، بل يدخل في علاقة جدلية ضمن ثنائية التفكيك المعروفة ب(الحضور والغياب) . وكانت المداخلة الثانية مع بحث (الشعرية) ، إذ ذكرنا أنّ الشعرية لم ترقَ بعد أن تتحول إلى نظرية ، لأنّ النظرية تتطلب جهدا علميا ومعرفيا ينتمي إلى بينة حضارية ، ولها أسس ومعطيات عدة لم تسلكها الشعرية ، فهي مصطلح نقدي وكفى .
وحوت الجلسة الأخيرة البحوث الآتية : معجم مصطلحات السيرة (د. محمد صابر عبيد) ، الأسس المعرفية لمفهوم المصطلح النقدي (د. حسين الصديق) ، الحداثة وما بعد الحداثة الروائية (د. جهاد نعيسة) ، الرواية التاريخية : إشكالية المصطلح وبدائله (د. نضال الصالح) ، وكانت لدينا مداخلات حول ما ذكره الباحثون الأفاضل ، من ذلك مداخلتنا حول بحث الأسس المعرفية ، إذ قلنا أنّ عنوان البحث يحوي أركاناً ثلاثة : (الأسس ، المعرفية ، مفهوم المصطلح) ، أولاً ما تحدث عنه الدكتور حسين ينتمي إلى الحديث عن الأصول لا الأسس ، لأنّ علاقة المعرفة بالثقافة وبالواقع هي علاقة (أصل) لا علاقة (أس) ، ثم إنّ الحديث الوارد عن المعرفة في هذا البحث لا ينتمي إلى ميدان اكتساب المعرفة في أبجديات الحضارة العربية الإسلامية من حيث الابتعاد عن أصول اكتسابها والمحددة ب(الوحي ، والنص ، والعقل) ، وكذلك لا ينتمي إلى ميدان اكتساب المعرفة في أبجديات الحضارة الغربية من حيث الابتعاد عن أصول اكتسابها والمحددة ب(العقل ، والحس ، والحدس) ، وما ذُكِر عن قضايا تنتمي لنظرية المعرفة لا أراها كذلك ، لسبب علمي هو : البعد عن تمثيل سلوكياتها في تحديد معنى المعرفة ، ولذا فإن العنوان الأقرب إلى ما تقدم هو : (الأصول الثقافية للمصطلح النقدي) ، أما فيما يخص تسمية : (مفهوم المصطلح) ، فيمكن القول : أنه لا يمكن الجمع بين المفهوم والمصطلح في سياق تركيبي واحد ، لأنّ ذلك يؤدي إلى اعتماد الجزء الأول (الحامل)، على الجزء الثاني (المحمول) ، وهذا غير معرفي ، فالمفهوم لا يتأتى إلاّ من خلال إدراك مصطلح معين بعد وضعه ، وتحديد أطره المنهجية ، وبعد وعي المصطلح تأتي مرحلة المفهوم لتجسد معطيات هذا المصطلح ، وما ذكره الباحث يتعلق بالمصطلح تحديداً ، من حيث علاقته بالثقافة ومن حيث تطوره ، كما أن الأسس المعرفية لا تتعلق بالجزئيات كالمفهوم ، إنما تتعلق بقضايا كلية منهجية ، كالحديث مثلاً عن : (الأسس المعرفية للبنيوية) ، ولكي أصل إلى الأسس المعرفية للبنيوية ، لا بدّ من دراسة الأصول الثقافية لمصطلحاتها ، وتخضع هذه العملية لمعايير علمية يمكن الرجوع إليها في الكتب التي تحدثت عن الابستومولوجيا ، وما ذكره الباحث يدخل في ميدان (الوعي :Consciousness) الذي يقود إلى معرفة معينة ، ولذلك فهو يدخل في أصل ثقافي ، أما الحديث عن أس معرفي فهو من المفترض أن يدخل في ميدان (الأبستيم :Episteme ) بوصفه وحدة من وحدات الإدراك التي تتجه لصياغة المعرفة .
وفي الجلسة الختامية التي ترأسها الدكتور (أحمد محمد قدور) عميد كلية الآداب ، وعضوية كلّ من : الدكتور (سعد الدين كليب) رئيس قسم اللغة العربية ، والدكتور فايز الداية ، قُدِّم نقداً عاماً وشاملا لمستوى البحوث التي نوقِشت في المؤتمر ، ولم يرفع المؤتمر توصيات أو بياناً ختامياً حسب ما جرى عليه التقليد الأكاديمي لأنّ اللجنة المنظمة لم تشأ أن تضيف حبراً جديداً على ورقٍ يُترك على الرفّ ، بعد إتمام عملية الكتابة عليه ، ثم يصيبه النسيان والتهميش ، وقد تمنى المشاركون لجامعة حلب الازدهار والإبداع والتقدم ، شاكرين لهم دعوتهم ، وحسن رعايتهم وضيافتهم ، وستبقى مزية مثل هذه المؤتمرات كامنة في حيوية التحول من التقليد إلى المشاكسة ، والانتقال من الوصف إلى التشخيص ، ومن تحديد الأعراض والآفات إلى بيان المزالق وتقديم الحلول ، وقد لمسنا ذلك فعلاً في بعض البحوث المقدمة في هذا المؤتمر ، الذي أعلن وبشكل جديّ عن أهمية المصطلح بوصفه مؤشراً علمياً ونقدياً ، ينبغي انتشاله من واقعه المتسم بالفوضى ، إلى واقع علمي منضبط بأدوات لا تقبل التعدد أو الوهم الدلالي .