الموازنة بين الترهيب والترغيب
الموازنة بين الترهيب والترغيب
رضوان سلمان حمدان
جُبلت النفس البشرية على الخوف.. كما فطرت على الطمع.. لذلك كان من منهجية الدعوة إلى الله تعالى أن يثير الداعية هذه الكوامن الفطرية.. ويجعلها تتفاعل مع خطابه الدعوي.. ومن المهم أن لا يغلِّب جانباً على جانب، بل من الخطير أن يفعل ذلك، بل على الداعية أن يوازن في دعوته بين ترهيب الناس وتخويفهم بالله وبما يكون من عواقب ذنوبهم في الدنيا وما عليها من العذاب الشديد في الآخرة، وبين ترغيبهم بما عند الله عز وجل، من الجزاء العظيم والنعيم المقيم وما يفتح الله لهم من الخير والبركات والنصر، والتمكين في الدنيا، مما يرغبهم للإقبال على الله، وطاعته ، والتوبة إليه ، ومحبته.
ولا ينبغي للداعية أن يقتصر على جانب دون جانب، فإن بدأ بالترهيب فينبغي عليه أن يختمه بالترغيب، وإن عكس عكس.
والمتتبع لمنهج القرآن الكريم يجد هذا واضحاً من خلال آياته.
فإذا ما ذكرت الجنة أتبعها الله سبحانه بذكر النار.. وإذا ما ذكر العذاب.. أتبعه بذكر الرحمة والنعيم، وقد يكون هذا في آيات متتالية وقد يكون في الآية الواحدة.
فمن ذلك على سبيل المثال: ما ذكره الله في سورة محمد {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ .. }محمد15 ، فبعد هذا الترغيب الجميل، أعقبه بما يخوف النفوس، ويرعب القلوب، فقال: {.. كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }محمد15
ولما ذكر الله العذاب الشديد في سورة الحج بقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }الحج19-22
أعقب هذه الآيات الصارخة بالعذاب، والمرعبة للقلوب، بآيات تنطق بالنعيم المقيم، والاطمئنان العظيم برحمة الله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }الحج23
وإذا ذكر الله صفة من صفاته التي توحي بالرحمة، أتبعها بما يرهب من صفة أو عذاب.
قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الحجر * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ }الحجر5049-50
لقد كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كذلك، في الجمع بين الترغيب والترهيب.
فعن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَت عليّ الجنّة والنّار آنفاً في عُرْض هذا الحائط" رواه البخاري ومسلم.
ومما قال صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء تُوعدُونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرتُ مخافة أن يُصيبني من لفْحِها، وحتى رأيتُ فيها صاحب المحجن يجُرُّ قُصْبَه في النار، كان يَسرِقُ الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلّق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرّة التي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنّة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي، وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء تُوعدُونه إلا قد رأيتُه في صلاتي هذه" رواه مسلم.
ووعظ رسول الله أصحابه مرة، فرهبهم وخوفهم، فأمره الله أن يعود إليهم ويرغبهم. الأدب المفرد للبخاري وابن حبان، والصحيحة للألباني.
ويكمُن سر هذه الموازنة في النفس البشرية، التي طبعت في آن واحد على الخوف والتأثر بالترهيب من جهة، والطمع والاستجابة للترغيب من جهة أخرى، فاتباع هذه القاعدة؛ فيه معالجة عميقة للنفس البشرية في هذا الجانب..
فإذا أذنب العبد خاف من عذاب الله فراجع نفسه، ثم نظر إلى المخرج.. فإذا رأى باب التوبة مفتوحاً، توجه إلى ربه، وتاب من ذنبه.
والصالح؛ إذا سمع الترهيب حذر من العصيان، وإذا سمع الترغيب ازداد طاعة وطمعاً بما عند الله من النعيم والجنان، وبهذا تتوازن النفس البشرية.
فانظر في باب الترهيب -على سبيل المثال- قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }النساء14
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء56
وانظر قوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }القمر48.
ولو اقتصر الداعية على هذا الصنف من الآيات من منهج الترهيب ليأس المدعوون، واليأس باب من أبواب الشيطان، يدفع الناس إلى التمادي في الفسوق، أو القنوط من رحمة الله.. ثم النّفور من الداعية والدعوة، وفي كلٍ شر مستطير.
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }يوسف87
وانظر في الترغيب قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الزمر53
وقوله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الفرقان70
ولو اقتصر الداعية على منهج الترغيب، لتواكل المدعوون على الرحمة، وقلّ خوفهم من العذاب، وتمادوا في العصيان، وعزفوا عن التوبة، وأصروا على ما فعلوا، وفي هذا من الخطر العظيم ما لا يخفى.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135
لذلك كان من الحكمة الجمع بين الترغيب والترهيب. والموازنة بينهما تجعل العبد يعيش بين الخوف والرجاء، فإذا عاش المرء هذه الحال لم ييأس من رحمة الله، ولا تواكل عليها، فيستقيم حاله.
إنّ على الداعية أن يوازن في دعوته بين الترغيب والترهيب، وأن لا يركز على جانب دون آخر.
وإنّ غياب هذه القاعدة من منهج الداعية يدفع الناس إلى اليأس، أو النّفور، أو إلى الطمع والتواكل، وفي كل خلل، والله الموفق لكل خير.