ظاهرة عدم الفهم
سلسة أمراض وعلل
- 3-
طريف السيد عيسى
السويد – أوربرو
من الظواهر الغير صحية التي يعاني منها بعض المسلمين , والتي تلقي بظلال سلبية على مسيرة الدعوة , ونجدها في الوقت الحاضر انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم ,ألا وهي : ظاهرة عدم الفهم .
يعتبر الفهم من أعظم نعم الله على الإنسان فبواسطته يهتدي الإنسان إلى أصوب الأفكار والمواقف , والناس متفاوتون في درجات الفهم والإستيعاب ,والناس متفاوتون في الفهم , ودليل ذلك التفاوت في التحصيل العلمي .
إن عدم الفهم الصحيح لم يعد معضلة جماعة أو مذهب ، بل بات معضلة أمة مترامية الأطراف ، يجب علينا جميعاً العمل على تنقيتها من أنماط التفكير الهزيل والفهم السطحي لكثير من الوقائع والأحداث .
ويظل ( الفهم الصحيح ) الحل الأمثل ، والطريق الأقوم ، لفهم قضايا الحياة وإدراك مشكلاتها ووعي متناقضاتها في ظل الزخم الثقافي المتناثر ، والنتاج المعرفي المتكاثر ، فحاجتنا لفهم حياتنا وإدراك معطياتها لا يقل أهمية عن حاجتنا إلى الفهم في المسائل الشرعية والقضايا الدعوية.
ولعل مشكلة الفهم وتباين مراتبه وأدواته, كانت من أسباب الخلاف الفقهي الثر ، الذي كان من ثمراته ونتائجه كثرة المجلدات وضخامتها ، وتوسيع العقلية الإسلامية بالردود والحوار والمناظرات ، وتعميق دائرة الفهم والخيال والانفتاح وتميزالعلماء الوعاة من الحفاظ الجامدين ، وكان من ثمراته إعمال الفكر وإلهابه مما أفرز فضاءً فسيحاً من الاجتهاد العلمي ، الذي لا يخلو من نفائس ، وذخائر منقطعة النظير
وأخطر ما في عدم الفهم هو : سوء الفهم عن الله ورسوله وهو أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديما وحديثا، بل هو أصل كل الأخطاء في الأصول والفروع؛ ولذا( يقول ابن القيم رحمة الله: وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرواسب، وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله )
ولأهمية الفهم نجد الإمام البخاري رحمه الله يبوب في كتاب العلم بابا بعنوان - باب الفهم في العلم- ،( ويروي فيه حديث معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي يفهِّمه، ثم قال: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعدالإسلام ومايتصل بها من الفروع ,فقد حرم من الخير كله .
- 1 -
( قال صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين) رواه أحمد بسند صحيح
وليس بالضرورة أن يكون عمر الإنسان هو الذي يحدد الفهم , فالإنسان كل يوم يكتسب علما وخبرة فتتوسع مداركه ومعارفه فيكون أقدر على الفهم والإدراك والإستيعاب , فالفهم عملية متطورة ترتكز على جانب فطري وجانب مكتسب , فهناك فهم يلهمه الله تعالى للبعض ولا دخل للإنسان فيه .
(روي أنه في عهد سليمان وداود عليهما السلام , خرجت امرأتان معهما صبيان لهما , فعدا الذئب على إحداهما فأخذ ولدها , فأخذتا تختصمان في الصبي الباقي إلى داود عليه السلام , فقضى به للكبرى منهما , فمرتا على سليمان فقال : كيف أمركما , فقصتا عليه , فقال أئتوني بالسكين أشق الغلام بينهما , فقالت الصغرى أتشقه ؟ قال نعم , فقالت لاتفعل فحظي منه لها , قال : هو إبنك فقضى به لها)
وكوننا نبلغ دعوة الله للعالمين فمطلوب منا فهما ومعرفة بالشريعة وفقهها , لأن إساءة الفهم للشريعة ومقاصدها يعود سلبا على الدعوة ويكون سببا للفتن والفرقة والتنابذ وإعراض الناس عن الدعوة , وسببا للنظرة السلبية لهذا الدين من قبل الغير .
يقول الله تعالى ( فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثا ) .
وقال تعالى ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ) .
مظاهر عدم الفهم :
ومن مظاهر أزمة الفهم عموماً :
1- التصور القاصر عن واقع الحياة والدعوة وقضايا الفكر والخلاف.
2- الجمود والسطحية في الأفكار والطروحات والمشاركات.
3- إلقاء الكلام على عواهنه, والإستعجال في إطلاق الأحكام واتخاذ القرارات.
4- ترك الإجمال في موضع التفصيل ، والتفصيل موضع الإجمال.
5- فقدان النظرة التفصيلية في القضايا الشائكة والمعقدة.
6- إقصاء الموضوعية الصحيحة في مسائل العلم والدعوة والنقد والخلاف.
7- التقوقع حول الذات والمذهبية والحزبية والطائفية بدون وجه حق .
8- تقديس الذات وإهمال وظيفتها ونقدها وكشف أحوالها.
- 2 -
9- الاغترار بالشائعات والظنون والأغلوطات ، وجعلها غرضاً للنقد والتحليل ، والتصنيف وبناء الأحكام القاطعة.
10- إغفال التحري وعدم الدقة والتدقيق والإستيعاب للقضايا المطروحة.
أسباب عدم الفهم :
1- ضعف الثقافة الشرعية :
التي لا تزال السمة البارزة على كثير من المفكرين والمثقفين الذين يتصدرون للعمل الإسلامي , والذين يتناولون قضايا العلم الشرعي ، فرصيد مهين من التأصيل العلمي ، ومكسبهم ضحل من الوعي الديني الذي يحفظ مسار المفكر ولا يشوش رؤيته ، ولا يعيق تقدمه ، ويجعله في خط مستقيم من المحافظة على الأصول والثوابت ، واحترام المبادئ والنصوص والفضائل.
2- عدم فهم الواقع :
من حيث الزمان والمكان والبيئة وطبائع الناس وعاداتهم , وسياق الأحداث وأسبابها , وهذا يتطلب فهما لكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام , ومدى توافق النصوص بينهما حول المسألة الواحدة فتقدم النصوص الثابتة القطعية على المشتبهات والظنية, ثم يستفرغ الإنسان الوسع والجهد والتفكير في استنباط الحكم ضمن ضوابط وشروط الاستنباط في إطار المقاصد العامة للشريعة
(فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه،وحكمته الدالة عليه ,وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم ) ابن القيم
بينما نرى اليوم حال البعض يتقدم باتجاه الفتوى بخطوات سريعة دون تروي ولا فهم ولا علم , وإذا تفحصت مدى علمه ومعرفته فلا تكاد تجد لديه أدنى درجات ومواصفات وشروط العلم , بل تجده يناطح أصحاب العلم والمشهود لهم بالعلم والتقوى والصلاح , وسنده في ذلك قوله هم رجال ونحن رجال , ولكن شتان بين رجال ورجال .
- 3 -
فعملية الخلط وعدم فهم النصوص والحوادث, والحكمة وتنزيل الأحكام ومعرفة طبيعة البشر تجعل
البعض إقصائيا من طراز رفيع , حيث لايكتفي بإصدار الأحكام بل ينصب نفسه قاضيا على البشر ويجعل من نفسه مقياسا للفهم والمعرفة .
( نقرأ في كتب السيرة حادثة الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه , حين بعث رسالة إلى زعماء قريش يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم , فنجد عمر رضي الله عنه يصدر حكمه متسرعا : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه ..
فيتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ياعمر ومايدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنة , فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم ).
فحياة حاطب كلها عمل وجهاد في سبيل الله , فهل يعقل من أجل خطأ ما فننسف سابقته وفضله , فلا يجوز إن وقع صاحب فضل وسبق بخطأ ما فنجعل كل سيرته أخطاء ثم نقصيه ونحاربه .
( وحادثة أخرى , روي في الصحيحين , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر لما ساب رجلا
وعيره بأمه : إنك امرؤ فيك جاهلية) .
فرسول الله لم يقل له أنت رجل جاهلي , فالخطأ لايدفعنا للتعميم .
( يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم معقبا على حادثة ابي ذر : وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره وفسقه ).
فالوقوع في التعميم يتعارض مع العدل والإنصاف ووضع كل أمر في سياقه الطبيعي .
3- السطحية في التفكير :
ونعني بها الاعتماد على ظواهر الأشياء ، والالتفات لأشكالها دون التعمق والنفاذ إلى ذواتها واستيعاب غاياتها وأبعادها وجذورها ، وذا ناتج عن قلة الزاد المعرفي ، والانغلاق وعدم التفكير ، والخضوع لمؤثرات الواقع.
4- ضيق الأفق : وهو فرع من التفكير السطحي والجمود ، بحيث لا يتجاوز الإنسان مكانه ودائرته في التفكير ولا يستطيع إدراك ما بَعُد كشعوره بما قَرُب ، وقد يعسر عليه اجتياز الآفاق وتقدير الآثار ، وفهم العواقب والنتائج والمستلزمات.
5- الخلط بين الفكرة والانطباع الشخصي :
تجد البعض لديه قناعة معينة حول جهة ما أو شيخ أو عالم , وكل من جاء مؤيدا أو متعاطفا مع هذه الجهة
أو ذلك العالم , فهو متهم وفي دائرة الشك والريبة , إعتمادا على الإنطباع السابق .
- 4 -
وأيضا نجد كثيرا من الأحكام الشرعية مختلف فيها بين أهل العلم , فتجد شخصا قد أخذ بأحد الأقوال ونسف كل مخالف معتبرا كل من خالفه مفرطا ومميعا ولا يتقي الله في دينه .
6- عدم القدرة على الإستيعاب :
الناس في عملية الفهم والإستيعاب درجات , وكل شخص يستوعب بطريقة ومقدار ما , فكل وعاء يستوعب حسب حجمه , لذلك لابد من مراعاة أحوال الناس ومستوياتهم وما يمكن قوله لهم , فربما نقول كلاما يكون سببا لفتنة , فلنحدث الناس على قدر عقولهم .
7- التحيز والتعصب :
لكل إنسان كامل الحق في خياراته الفقهية والفكرية والدعوية , شريطة أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما , وأن يدور مع الحق حيث دار .
لكن المصيبة هي التحيز والتعصب الأعمى الذي يدفع بالبعض إلى أن يصبحوا : كالميت بين يدي مغسله
فنجد التحيز والتعصب للجماعة أو الشيخ أو البلد أو العشيرة والقبيلة , دون التمييز بين الإنحياز للحق لا الإنحياز للباطل .
هذا التحيز والتعصب يحجب الفهم واستعمال العقل للتفكير .
نحو العلاج :
1- حسن الظن بالمسلمين :
و هوالأصل في المنهج الشرعي ,وإن أخل به بعض من المسلمين.
فعندما يتنامى لسمعنا قولا عن فلان , وفلان هذا معروف عندنا , فعلينا حمل كلامه محملا حسنا .
2- الابتعاد عن تتبع عورات المسلمين:
فمن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته وفضحه , فلا يجوز لمسلم أن يتتبع الزلات والهفوات وينقب ويفتش في النوايا ويتصيد الأخطاء ويبحث عن العورات .
الأمانة والانضباط في النقل: 3-
لابد من الدقة والضبط في نقل الكلام , وعدن نقله حسب فهمنا بل ننقله كما قاله صاحبه ,وعند التعليق على الكلام فنقول هذا فهمنا وليس هذا كلام فلان .