يوم احتفل عبد الله الأسود وعبد الله الأبيض بسقوط البرجين
يوم احتفل عبد الله الأسود وعبد الله الأبيض
بسقوط البرجين
عصام سحمراني
[email protected]
فوجهُك أنتَ ومنذُ وُلدتَ تُسمّى عبدُ
الله الإرهابيّ
مظفّر النوّاب
لا شيء في عبد الله يشي بأنه عاش ثماني
سنوات كاملة خارج لبنان. فلا لهجته تغيّرت ولا
كلماته اختلـطت بالإنكليزية، ولا
ذوقه في الملابس والمأكولات تبدل، فقد وجد طريقه للتأقلم
مجدداً مع وضعه السابق
بسرعة مذهلة. كل ذلك بقي على حاله، إنما بين السطور وفي
نظرات العينين ورنين
الذاكرة قد نجد ما هو أعمق.
أواخر العام 2001 وقبل أيام معدودة على الحادي عشر
من أيلول، حزم عبد الله أغراضه
وسافر إلى نيــجيريا، حـيث تنتظره وظيفــة في إحدى
شــركات النفط الأمــيركية التي تتخذ من جنوب البلاد
مقـراً لها. وظيفة أمّنـت له
عبر أحد معارف والده القدامى الذي يعمل في ذلك البلد منـذ
عشرين عاماً. عبد
الله الشاب اللبناني الجنوبي الذي لم يتجاوز
الثلاثين من عمره اليوم، وهو على بعد
ثماني سنوات كاملة من بداية تعرفه على البلد وعادات
أهله وأغرابه.. وأديانه. وبما
أننا نتحدث عن لبناني فلا بدّ أن تؤدي البنية الطائفية
دورها، بعد تسعة أيام من
حلوله في الموطن الجديد، بوظيفته وشقته التي يتقاسمها مع
عدد آخر من الموظفين
يتبعون شركات مختلفة وجنسيات متعددة.
كان يوم الحادي عشر من أيلول حاسماً حين
شاهد عبد الله في مسائه السقوط المدوي لبرجي مركز
التجارة العالمي، ومعهما مبنى
البنتاغون، وآلاف التحليلات الإخبارية والتقارير
التلفزيونية ترتبك وتوجه الاتهامات
وتتابع تفاصيل النهار. خاف عبد الله ولم يبدِ أيّ حماسة أو
ردّة فعل قد تكون غبيّة
في مثل ظروف غربته ووظيفته، لكنه سرعان ما اندمج مع أحد
الأشخاص هناك الذي هتف
بلكنة غريـبة «الله أكبر الله أكبر». كبّر عبد الله مـعه
وعانــقه واحتفلا معاً
بعيـداً عن باقي العيون.
يومها تعرف على ذلك الشاب النيجيري الشمالي المسلم،
وكانت لهما صداقة استمرت حتى شهر مضى، رغم ما فيها
من توتر وتعصب وطائفية وحزبية
وسياسة واتهامات شتى. شاب اسمه أيضاً عبد الله تحول بعد
فترة إلى عبد الله الأسود،
كما تحول صاحبه اللبناني إلى عبد الله الأبيض، للتفريق
بينهما لدى الآخرين.
لم
يكن عبد الله الأسود موظفاً في الشركة التي يعمل فيها
الأبيض، بل كان مجرد نازح من
إحدى الولايات الشمالية الغارقة في حرب إلى هذه الولاية
الآمنة التي تنعم بالنفط
والنشاط الاقتصادي. تهيأ له أن يعمل مدرساً للحساب في إحدى
المدارس هناك، واستقر به
المقام في الشقة قبل وصول صديقه اللبناني بما يقرب من عام،
اختلط خلاله بأفارقة
وآسيويين وأوروبيين شرقيين، لكنها كانت المرة الأولى التي
يلتقي فيها بعربي مسلم.
لم يتمكن اللبناني من مقابلة صديقه إلاّ في فترات قليلة عند
المساء بعد العمل،
حيث يختلف توقيت إجازتيهما الأسبوعيتين كذلك باختلاف
روزنامة العمل بين الوطني
والأجنبي. لكنه في بعض الإجازات السنوية وطد صداقته به على
أساس ديني ـ رغم اختلاف
الشيعي اللبناني عن السني النيجيري ـ وصار النيجيري يحثّه
على الصلاة بشكل دائم،
وينتظران معاً شهر رمضان من كل عام. حتى أنّ عبد الله
الأسود أخذ صديقه الأبيض بعد
عدة سنوات إلى مسقط رأسه الشمالي حيث أمضى أياماً رمضانية
«غريبة» في عاداتها ـ على
حد قوله.
غرق عبد الله اللبناني في العمل، واجتهد ونال ترقية وزيادة
على راتبه غير
مرة. وكان يواظـب على تحويل جزء كبير من الراتب شهرياً إلى أخيه في لبــنان،
الذي أنشأ له حساباً مصرفياً، وعمل على بناء منزل
للشاب المغترب في قريته الجنوبية.
الحادثان التوأمان كان لهما
أثر على كل منهما. فاللبـناني بعدما أتى إلى لبنان
يومها، واطمأن على أخيه وأهله،
ونسي ضياع منزله الذي لم يزره من قبل، عاد إلى نيجيريا
بعقلية مختلفة سوى عهده
الأول. أهمل الاجتهاد في العمل ولم يذق طعم الترقية وزيادات
الراتب بعدها، وصار
يمضي أوقاتاً أكثر مع عبد الله النيجيري الذي كان خلال تلك
الــفترة يتحول من مدرس
شاب نازح ذي ميول نضالية يريد مكاناً آمناً لا أكثر، بعيداً
عن الحرب في ولايته
الشمالية، إلى مؤيد للزعيم النيجيري السجين دوكوبو أساري.
هذا التأييد دفعه
للانخراط في عدد من أعمال العنف ضد شركات النفط الأجنبية.
ونجا مرة من مـحاولة
إلقاء القبض عليه في الشقة، حيث تم التحقيق يومها مــع
الشاب اللبناني الذي أعلن
أنه لا يعلم أي شيء عن نشاطاته ولا يدري له مكانا.
الإجازة أتت ورحل عبد الله إلى منزل أهل صديقه الشمالي
البعيد، ليفاجأ بعزاء
واحتفال خطابي يقام هناك. ولدى استفساره علم أنّ صديقه قتل
على يد الشرطة
النيجيرية، بعدما اتهم مع آخرين بأنهم من جماعة إسلامية تطلق على نفسها اسم «بوكو
حرام».
لا أعرف إن كان ما ذكره عبد الله وأصرّ على عدم زيادة حرف
عليه كافياً
لنعلم ما سر رغبته في العودة إلى لبنان، وعدم الرحيل إلى نيجيريا مجدداً. لكن
نظراته وكــلامه وحيرته تكشف أنه يشعر بخــيبة وأسف على شاب
قتل في سبيل تحرير
بلاده من شركات النفط الأميركية، بينما كان صديقه اللبناني
المسمى بالاسم نفسه يعمل
في إحداها، ويجـمع الأموال ويرسـلها إلى لبنان
كان ذلك قبل حرب تموز التي انشــغل خــلالها عبد
الله بمتابعة أخبار بلاده،
ومعها عرف من الأهل أن مــنزله دمّر، وأصيب أخوه في قدميه
خلال تلك الأيام العصيبة
من العام 2006. وبينما كان اللبناني مشغولاً بالاتـصالات
الهاتفية ومتابعة نشرات
الأخبار، كان صديقه النيجيري يشارك في تظاهرات دعم للبنان
في مواجهة إسرائيل
و»الصليبيين» و»اليهود». وهناك تعرض هو الآخر للضرب على يد
الشرطة النيجيرية حين
حاول مع غيره اقتحام إحدى شركات النفط الأميركية.
بردت العلاقة بين الشابين
تدريـجياً في الــعام المنصرم لأسباب قسرية. لكنها
لم تنقطع، حيث تقابلا أكــثر من
مرة خارج الشقة، وقد أصـبح الشــاب النيجــيري عاطلاً عـن
العمل، فساعده عبد الله
بالمال عدة مرات. إلى أن كانت المرة الأخيرة قبل عدة شهور
حيث أعلن النيجيري لصديقه
أنه سيعود إلى الشمال، ووعده عبد الله أنه سيزوره حالما
تأتي إجازة الصيف.