على عتبات رمضان
ومختبر "فن الحياة"...
د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي
· المقدمة: من أين جاءت فكرة المحاضرة؟
o مثل رمضان كمثل ذلك الزائر الذي يزورني كل سنة، ولكن على حرج، خشية منه أن لا أحسن ضيافته.
o ومثل رمضان كمثل محطة الوقود "المعطلة" لدى الكثيرين، فهم يدخلونها ويخرجون منها دون أن يتزودوا بالوقود اللازم ولا بالسوائل الضرورية لمحرك السيارات بل يكتفون – أحيانا – بتنظيف السيارة من الخارج.
o وهذا ما يتوهم الناس أنه "تغيير" وهو في الحقيقة "سكون"، فحال الناس مع رمضان "محلك سر".
o وهذا – بالإضافة إلى أسباب أخرى – جعل عوام المسلمين في حيرة من أمر العبادات والشعائر التي لم يعودوا يجدوا لها أثرا في حياتهم، فتشكلت لديهم "شبهات من الداخل".
o وبلغ بنا الأمر أن صار لدينا إسلاما يصح أن يقال فيه "الإسلام الكنسي"، فأصبح الدين في نسك وشعائر معطلة لا دخل لها في ولا تأثير في حياتنا اليومية.
· ما الذي لا تتناوله هذه المادة؟
o التعريف التقليدي برمضان وفضله وأحكامه المختلفة، فهذا متوفر منثور.
o أما هذه المادة، فهي لبحث الأثر النفسي لرمضان من زاوية أخرى.
· الحكاية، من البداية:
o كان الله، ولم يكن قبله شيء، ولم يكن معه شيء، ولم يكن غيره شيء.
o ثم خلق الخلق، وسخره للزائر القادم.
o وشاء الله أن يخلق الإنسان ليستخلفه في هذه الأرض وليقوم بعبادته.
o وأمد الله الإنسان بمعطيات الحياة وأدوات الخلافة: "الوقت" – أو العمر –، و"الجسد"، و"الروح". وهذه المعطيات كلها يجمعها أمر واحد، أنها لا تأتي بالكسب بل هي "عطايا" مجانية من لدن الخالق، وإنما يبقى على الإنسان اغتنامها وتوجيهها – باختيار – الوجهة التي أرادها له خالقها. ولا يفهم أن الروح هنا تشير – فقط – إلى النسك وإلى أماكن العبادة، بل هي كل ما يتعلق بملكة التعامل مع المدخلات الحسية وتفكيكها وعقلها وبالتالي السلوك ورد الفعل تجاهها.
o وأنزل الله القرآن، وهو "الكتاب الإرشادي" الذي يحمل "المنهج" الذي به "يعقل" الإنسان وظيفته فيصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.
o وحمل هذا الكتاب في طياته "منهجية" و"فقه التفكير والعقل"، الذي يزكي الإنسان ويرقيه ويرفعه فوق مستوى "العيش البهيمي" إلى مستوى "الحياة الإنسانية الطيبة".
· ما الذي يبحث عنه الناس إذا؟
o الناس – مع اختلاف مشاربهم ومعارفهم – يبحثون في آخر المطاف عن ثلاثة معاني: الطمأنينة، والسعادة، والرضا.
o أما الطمأنينة، فهي "هدوء النفس واستقرارها على أمر بعينه وخلوها من أي أمر قد يعكر صفوها".
o وأما السعادة، فهي "الطمأنينة الظاهرة والشعور الموجب والبادي على الجوارح والمنعكس على السلوك".
o وأما الرضا، فهو "غاية السعادة" و"الاكتفاء والاغتناء عن المزيد". وهو غير "الرضا" بمعنى "القناعة باليسير".
· فلماذا "يعطش" الناس مع "وفرة الماء"؟
o القصور الذاتي: عدم التوقف والسير على غير هدى.
§ الناس قد يتوهمون أنه لا مشكلة هناك، ويحسبون أنهم مستمتعون في "عيشهم" ؛ حتى صاروا لا يشعرون بعطش "الروح". فيصل بهم الأمر إلى خشية "التوقف" إلى أن "يجرفهم التيار" !
§ لماذا التوقف؟
· للاستراحة.
· لمنح الوقت الكافي للتفكير والعقل، ومن ثم التأكد من صحة الوجهة التي أتوجه إليها ؛ أو ما يعرف ب"الجرد والمحاسبة".
· لجمع "شعث النفس" وما تفرق منها خلال المسير، ولترتيب "الملفات المبعثرة".
§ فلماذا لا يتوقف الناس إذا؟
· "ظاهرة القصور الذاتي للنفس" أو "قانون نيوتن النفسي الأول". ينص قانون نيوتن الطبيعي الأول حول ما يعرف ب "العطالة" أو "القصور الذاتي" على أن "الجسم الساكن يبقى ساكنا والجسم المتحرك يبقى متحركا ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته". وهذا القانون كما ينطبق على المادة أو "الجسد" فهو بحكم التجربة والخطأ – على الأقل – ينطبق على "الروح" أو ما يتعلق بها أيضا.
· "طغيان جاهلية الجسد على حساب الروح". هنا أتحدث عن غفلة الناس وانشغالهم بما أمامهم من حياة "دنيا" قصيرة الأمد، مما يسبب ظاهرة مضحكة مبكية، ظاهرة أراها تتكرر في "الشرق" و"الغرب" ؛ هذه الظاهرة هي ظاهرة "البهيمية" التي باتت تنتشر في مشاهد الحياة اليومية.
· "الجهل والكبر". ترجح لدي أن كل أسباب مقاومة التغيير والخوف منه ورفضه تعود إلى أصلين: "الجهل والكبر". و"الجهل" الذي يعنيني هنا فهو قلة أو انعدام العلم بإجابة السؤالين: "من أنا؟ ولم أنا؟". وأكثر نوع من أنواع "الجهل" التي شهدتها ولا أزال أشهدها في حياتي اليومية، وفي أروقة العيادات النفسية، هو "الجهل بحقيقة النفس وقيمتها". وأما "الكبر" فهو كما لخصه محمد صلى الله عليه وسلم: "بطر الحق، وغمط الناس".
o "التغير" لا "التغيير". وهذا من نتائج "القصور الذاتي"، حيث إن كثيرا من الناس عندما لا يتوقفون فإنهم لا يمنحون أنفسهم الوقت الكافي "للتفكير والعقل" وبالتالي فإن سلوكهم سيكون نمطا من أنماط "التبعية" للغير، فإذا تكرر هذا السلوك فترة من الزمن "كافية" تحولت شخصية الإنسان إلى نمط آخر، إلا إن هذا التحول هو "تغير" سالب تابع وليس "تغييرا" موجبا مؤثرا. وهذا من شأنه أن يؤثر على شعور النفس الدائم ب"الحاجة إلى التغيير"، وأعني ب"التغيير" هنا: التغيير الحقيقي الذي يقوم على "علم" فيجعل من صاحبه أو صاحبته "شخصية قيادية".
o ظلم النفس وإهدار حقها. إذا كان الله قد أمد الإنسان ب"الوقت" و"الجسد" و"الروح"، فإن هذا لا يعني أنه قد منحه القدرة على التحكم فيها، بل إن "الوقت" و"الجسد" في حالة تغير مستمر، ولا يملك الإنسان أن يوقف هذا التغير في "الوقت" و"الجسد" ؛ إنما يبقى على الإنسان أن يعمل على أن تكون "الروح" هي سيدة الموقف وهي التي تقود "الجسد" باغتنام "الوقت". فما الذي يحصل إذا؟ يحصل أن كثيرا من الناس يقفون "ولا أقول: يتوقفون" عند أثقال وأعباء هذه الحياة المختلفة – التي أثقلوا هم أنفسهم بها –، حتى تتجمع لديهم كميات طائلة من "الملفات المتراكمة"، وإذا ب"الوقت" يمر، ويتبعه "الجسد"، في حين تقف "الروح" متأخرة متخلفة عن "صاحبيها" فيحصل ذلك الشعور "القاتل" ب"الغربة": الغربة عن النفس. وكم من الناس يتعذر ب"عدم وجود الوقت الكافي للجلوس إلى النفس وإعطائها حقها كل يوم" !!!
· الحل والعلاج في "العلم"، ولكن...
o ليس المقصود ب"العلم" هنا: الشهادات الأكاديمية التي تفرغ أهلها من "حقيقة العلم". وإنما "العلم" هو ذلك الذي تحدث عنه الله سبحانه في الآية التاسعة من سورة الزمر. العلم ب "من أنا ولم أنا"، العلم ب"الهوية والوظيفة والهدف"، العلم بحقيقة "وجود الخالق ووظيفة المخلوق".
o وما عدا ذلك فهو "ظن"، سواء كان اسمه "فكر" أو "معرفة" أو "ثقافة" أو غير ذلك من المصطلحات المحدثة ؛ والظن لا يورث أهله إلا تغيير الحقائق، والكذب، والافتراء، وظلم النفس، وضعف الشخصية. ويتمثل ضعف الشخصية في أعراض كثيرة مثل: قلة تقدير النفس، وكراهية النفس، والغربة عن النفس، والكبر، والاهتمام بالآخرين على حساب النفس، إلخ.
o إذا لا بد من "علم"، حنى نتمكن من إغلاق هذه الدائرة من "مفتاحها". فالعلم هو الذي سيأخذ بيد أهله إلى قوة النفس: تقدير النفس، ومحبتها، والأنس بها، والتواضع، ومنح الآخرين حقهم – دون أن يتعدوه –، إلخ.
· كيف أصل إلى"العلم"؟
o إما بـ"العقل الصريح" أو بـ"النقل الصحيح"، أو بالاثنين معا.
o أما "العقل الصريح" فهو العملية التي ميز الله بها الإنسان من قدرة على الجمع بين المتفرقات وربط المختلفات والقياس على الأمور. لكن "العقل" وحده لا يقوم، وإنما يحتاج إلى ما يدله على ما لا يبلغه وحده. فهل من "العقل" أن يترك الخالق المخلوق دون "إرشاد"؟ وكم من الوقت يلزمنا حتى نصل إلى "العلم" ب"العقل" وحده؟ وهل تكفي "التجربة والخطأ" لبلوغ "العلم"؟
o وهنا يأتي دور "النقل الصحيح". ويأتي على رأس قائمة "النقل الصحيح" كلام الله في كتابه: "القرآن".
· لماذا القرآن أولا؟ لأننا، أمّة الإسلام:
o نؤمن أن الله الواحد خالق هذا الكون، أول بلا ابتداء، آخر بلا انتهاء.
o نؤمن أن الله لا يزال سميعا، بصيرا، عليما، مقدرا، مهيمنا.
o نؤمن أن الله خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، يحكم بأمره.
o نؤمن أن الله لم يترك الإنسان في ضلالة، بل أنزل له منهج هداية.
o نؤمن أن الله اصطفى من خلقه أناسا، هم رسل الله إلى خلقه.
o نؤمن أن الله أنزل لهؤلاء الرسل ما يهدون به خلق الله.
o نؤمن أن الله ختم الرسل والرسالات برسالة الإسلام.
o لهذا كله، ولاعتبارات أخرى، فإن "المرد" الذي نؤمن به ونرجع إليه، هو: القرآن أولا.
· ولكن القرآن... – هنا بعض الشبهات التي اثتر حول القرآن من قبل "أهله" –
o "ثقيل" على النفس !
o "صعب الفهم" ويحتاج إلى متخصصين !!
o ليس "لزماننا" !!!
o ليس "عمليا" !!!!
o لا يحتوي على "العلاج" !!!!!
· وهنا أحيلكم إلى النصوص القرآنية والنبوية وبعض ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى هذا العصر فيما قيل في شأن "القرآن". وهذا موجود في المادة السمعية التي أرسلت إليكم رابطها في رسالتي السابقة.
· أين "رمضان" من كل هذا؟
o إذا رجعنا إلى ما بدأنا به هذه المادة من مقدمات حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه في آخرها، فسنجد أن "رمضان" هو ذلك "المختبر" الذي تتم فيه كل "العمليات الحيوية" تالية الذكر:
o "رمضان" هو الشهر الذي "يتوقف" فيه الناس، وهو الشهر الذي "يقلب الطاولة" على رأس "القصور الذاتي" ف"يتوقف" ولا أقول: "يقف" ؛ فهو شهر "الثورة" على "التبعية التقليدية" ؛ فالقصور الذاتي لمواعيد النوم "يتوقف"، والقصور الذاتي لمواعيد الطعام "يتوقف"، والقصور الذاتي لنمط الحياة اليومية الاستهلاكية "يتوقف"، والقصور الذاتي لطبيعة الناس في عدم تقدير الوقت "يتوقف"، والقصور الذاتي لانشغال الناس بالجسد "يتوقف"، وهكذا.
o "رمضان" هو الشهر الذي تتجلى فيه قيمة "الوقت"، فنرى الناس يحسبون أيامه يوما بيوم بل ساعة بساعة خشية أن ينتهي ولم يأخذوا منه حقهم. ألا ترون الناس إذا فاتهم ورد "الجزء" في يوم استشعروا صعوبة حمل "الجزئين" في اليوم التالي؟!!!
o "رمضان" هو الشهر الذي تتجلى فيه "الروح" على حساب "الجسد"، وهذا هو الأصل في خلق وطبيعة ووظيفة هذين "المعطيين".
o "رمضان" هو شهر "العلم"، فيكاد يتفرد هو – وموسم الحج – بالحماس الشديد لدى الناس كي "يعلموا" حكم ما يقومون به من أفعال الصيام؟
o "رمضان" هو شهر "القرآن"، وبهذا فهو الشهر – الأغلب – الذي يجلس فيه "المخلوق" إلى مائدة "كلام خالقه" ليتعلم منه كيف يمضي على هدى في هذه الحياة.
o "رمضان" هو شهر "النفس"، فنجد أن الناس يتجرؤون على أن يمسكوا بمصاحفهم في أماكن العمل وفي سياراتهم وفي منازلهم، ويختلون مع "أنفسهم" بغية أن "ينجزوا" أكبر قدر ممكن من "المشاريع".
o "رمضان" هو شهر "الطمأنينة"، وهذا ما شهدته بنفسي عندما كنت أجد أن "العيادة النفسية" تكاد تخلو تماما من المراجعين "المسلمين الصائمين"، حتى أولئك الذين لديهم مواعيد مسبقا في "رمضان".
· فماذا بعد هذا كله؟
o ما الذي أنتظره بعد رمضان، إذا استطعت أن أحصل على كل هذا:
o التوقف، واغتنام الوقت، وإعطاء النفس حقها روحا جسدا، والعلم، والقرآن، والطمأنينة.
o "فبأي حديث بعده يؤمنون".
· لا تفعلوا في "رمضان":
o لا تكلفوا أنفسكم فوق وسعها.
o لا تفتحوا على أنفسكم "جبهات" كثيرة.
o لا تضيعو الوقت فيما "تطنون" أن فيه فائدة.
· وعليكم في "رمضان":
o القرآن: صفحة من القرآن يوميا – أنصح بما تحفظون أولا –، تقرأ أولا، ثم يقرأ معاني الكلمات المعجمة، ثم يقرأ وقت وسبب نزول الآيات، ثم يقرأ تفسيرها.
o تغيير سلوك معين: فلا أخرج من "رمضان" إلا وقد "غيرت" سلوكا على "علم".
بلغني الله وإياكم رمضان، وتقبلنا الله وإياكم فيه، ورضي عنا وعنكم.