رحلة البحث عن المعنى
(1)
د. محمد ياسين العشاب - طنجة/المغرب
[email protected]
إن البحث عن المعنى قضيتي وقضية كل المتعطشين إلى الحياة، أبحث عنها ظمئا والأرض من حولي أشد ظمأ، والنفوس عطشى، والعقول ثملى بهمومها، وكل نسمة تبحث في الظلماء والنور يحجب، وتستقصي وموئل الآمال ينأى، تناشد الحقيقة أن تتجلى للعيان وتروي الظمآن، لعل الجفاف الذي اعترى الأنفس يرحل فتلبس حلة الحياة الحقيقة، فتردي الحقيقة الحياة نفسها بما ملأها من فشل، وتحجب المعاني النفوس المظلمة والأفكار الرخيصة، رام أربابها السعادة فهدموا السعادة، وإيجاد المعنى فغيبوا المعنى، وأظلمت السبل المؤدية إليه فاستفحلت أزمة المعاني.
وخرج الإنسان يسترشد بنفسه لعلها تدله، وبغيره من الكائنات لعلها ترشده بعد ضياع، وتحول العالم عن سالف عهده ليستشرف عهدا آخر، وتبدل الخلق بعد ضياع رشده، ولم يجد السند لمواجهة الأزمة العاصفة بروحه، والسالبة حياته، وما بعد الضياع إلا ضلال.
وإذا أفلت شموس الأرواح أفلت الحياة، وضاع الجسد الفاني دون روح، وانفلتت من العقول الهداية فاحتجبت وضاعت، فكيف العودة من بعد الرحيل وقد شرد الواقع وسكن الحماس، وخمدت جذوة النفوس الثائرة على النقائص واستشراء الأزمات، فهي اليوم تعاني من أزمة نفسها لا غيرها، ولا سبيل إلى علاج الغير قبل علاج النفس، ولا سبيل إلى علاج النفس قبل علاج الروح، ولا سبيل إلى علاج الروح قبل علاج المعنى، وقبل علاج المعنى تبدأ رحلة البحث عن المعنى، ولا سبيل إلى المعنى إن خيم الظلام على جميع الطرق، وإن ظهر المعنى أشرقت الحياة واستنارت السعادة، وسر السعادة الحب وإدراك المعاني واستشعار الأشياء ..
تلك هي الرحلة الطويلة القاسية البعيدة المتعبة، وربما أهلكت الإنسان إن لم يحسن ترتيب مستلزماتها، وربما عجز عن توفير تلك المستلزمات أو بعضها فكان من الضائعين، بأسه شديد إن أراد تحطيم المعاني ودفع الحقائق نحو الهلاك، وقدرته غاية في الهوان أن بحث في المعاني، وأمارة جهله أنه قمع السعادة عندما سعى إلى المبالغة في ارتدائها خسف مراده بالحقيقة الأرض دفعا وتضييعا، وإنما كانت غايته الباطنية من ذلك عكس مراده الظاهر، ثم اعتراه الذهول، وأردى حلمه العجب، وبرى جسمه الإحباط، شريدا وقد غابت شمس آماله تحت السحاب، والزخارف لماعة غير أنها خادعة، لم تترك من أسباب الحبكة وبديع الجمال المزور والألوان حسنا إلا وأخذت به، وسرت الناظرين فتقاطر المخدوعون وأسرعت إليها الخطى، حتى إذا مرت البرهة كالطيف تغشاها الضباب الكثيف، وأسدل الحسن ستره إسدالا، عيون لا ترى غير الذي يشبع نهم هواها، تحسبها ترى وهي لا ترى، وتظنها مبصرة وقد عميت القلوب التي في الصدور.
سرعة في كل شيء، كالداء يسري فيصيب كل الآمال وأهداف الحياة بالشلل، وغفلة عن كل شيء، كأنما تملكت الرؤى والعقول فشكلت حجابا كثيفا ونفوس أسرتها المعاناة، وأحاطت بها أصفاد الشقاء، وطوقها إصر الحيرة والقلق فشاع ما بها وعلن، ولم تقدر على احتواء آلامها فجرفها الوقت، وأسرعت بها الساعات، ومن خرجوا خشية الضياع من ديارهم يبحثون عن شيء ما؟! يستفزهم تقلب الأحوال ويخرجهم البحث عن معنى الحياة، والحق أن الدنيا ضاقت بالمبصرين غير المبصرين، يسيرون في ضجيج العاصفة، ويعبثون بمصائرهم، ثم ينطرحون فوق الثرى يلهثون، حتى يبتلعهم مكردسين.
رحلة البحث عن المعنى
(2)
ما كان أشقى من سارَ ثم رَجَعَ وقد أُرِيقَ معناه، لما رأى الدنيا من حوله وقد نَزَفَتْ واشتدَّ نَزِيفُهَا، وغَارَتْ جِرَاحُهَا فخَارَتْ عزيمتُه، وانهارَتْ صُرُوحُهَا فحَارَتْ سَرِيرَتُه، يرى أهليها يستَبِقُونَ الزمانَ فيسبقُهُمْ، ويَحُثُّونَ السيرَ فيخطِفُ تَهَافُتُهُمْ عليها المعنى من حياتهم، ضَجَّتْ بهم الشوارعُ فغَادٍ ورَائِح، قَيَّدَتْهُمْ حياتُهُم فضاقَتْ عليهم صدورهم، فلما لم يُحِسُّوا وَقْعَ الليالي الغادية الرائحة، ما كَفُّوا عن الشكوى ساعةً من ليلٍ أو نهار: ما جدوى حَرَكَتِهِمْ وسَعْيِِهِمْ؟!
رَجَعْتُ وقد أُرِيقَ تمسكي بمبادئي، وكنت على يقينٍ أن العودة لا ريب فيها، فالخوف من المجهول يسكن أعماقي فيملك علي كل كياني، ويَعْصِفُ بي كلما أطلقتُ لخواطري العِنان، وسَبَحْتُ في بحارها التي لا مُنْتَهَى لها ولا حد، والغريبُ هو سَبْقُ معرفتي لذلك، وتجاوُزي لمعرفتي حتى أغرق في يَمٍّ لا نجاة منه، وعالم ضاع وسط بيداء الوهم والأحلام المنقشعة، وحَوَّمَتْ حوله الأفكار والنظريات وأبعدته أمواج الخواطر عن بر النجاة، جَازَفَتْ سفينتُهُ فأقلَعَتْ وأَسْرَعَتْ فقارَبَتْ ثم أَشْفَقَتْ..
وهِمْتُ فسَبَحْتُ في عالمٍ يبحث عن المعنى غَفلةً عنه وضَيَاعا، حتى تَأَلَّفَتِ الصُّوَرُ وتًَجَسَّدَتِ المشاهِد، فوَلَجْتُ فيها بجسمي وعقلي وكَيَاني:
وقفتُ وفؤادي يرتجف، وقلبي ينبض بقوة من أثر اللوعة التي تتملكه، وفي صدري وَقْدٌ يُلهِب الخواطرَ الجيَّاشة، فلا أكاد أستيقظ إلا على وَقْعِ الأصداءِ المتصاعدة، يشُقُّهَا هدير الموج، وحَفِيفُ أشجارٍ هائلةٍ مُوغِلَةٍ في القِدم، لم يُرْعِبْنِي مشهدُها لأول وهلة، غير أن الخوفَ هَجَمَ علي لما اختلطت بصورة السماء الملبدة بالغيوم، كركام بعضه فوق بعض، خِفْتُ أن يحمل نَوْءًا فلا أجد سقفا أستظِلُّ به، ولا سماءً على أرضٍ واسعةٍ أنكرَت رأيي فضاقَت علي، وكلما مَشَيْتُ وَجَدْتُ رمالَ الشاطئ مَرْصُوفَةً بعظامٍ نَخِرَةٍ وجماجِم، رغم اتساعِ الحدودِ والفضاءِ اللامُتَنَاهِي.
في خِضَمِّ ذلك مَرَّ عَلَيَّ طائفٌ بخواطر فنَفَضْتُها، وأَلَحَّتْ عليَّ فغَارَ فكري وشَرَدَ ذهني، وتَجَوَّلَتْ في عوالم الآمال والأحلام نفسي، وجُسْتُ خلالَ الماضي والحاضِر، حتى تَجَلَّتِ المعالمُ واتَّضَحَتِ الصور، وألفَيْتُ فيها الحقيقةَ بعد بحثٍ طويلٍ في اللامعنى والمجهول، لكن راعني ما يعترض طريقَها، وما يقف أمامي حائلاً دونها من دياجيرِ الهوى، والبحار المُظلمةِ والصواعقِ ورُكَامِ الجماجمِ تحتَ قَدَمَيّ!
وأفزعني ذلك الغيم الحالك الذي يحجب نورها تارة ويخلي سبيله تارة أخرى، حتى إذا ما تجلى للعِيَانِ ضوءُها كان كالطيفِ يسعدها لبرهة وجيزةٍ ثم ينقشع، فلا تكاد تتبين معالمَه.
كنت أسأل نفسي: لماذا يا ترى هذا الظلام؟!
في سحيق الآبادِ لَجَّ الإنسانُ فهوى، وحفر لنفسه قبرا تحت الأرض التي علا فيها واستعبد أهلها، ثم تبدلت الأحوال واستأنفت الخليقة حياة جديدة، لم تعتبر فيها بالسابقين ومآلهم، ومَهَّدَتْ للاحقين جورهم فأحاطوا العدالةَ بإِصْرٍ عظيم، طَمَسُوا الفطرةَ فاحتجبت، واستصغروا الهدايةَ فاغتَرَبَت، وكلما نادتهم السماءُ فكأن في آذانهم وَقرا، وقَسَتْ قلوبهم على الحجارة، حتى أزهق الشر نفسه بنفسِه، ثم استيقظ أكثر حيويةً ونشاطًا مع الجيل اللاحقِ على السابق، والأمة الظاهرةِ على أمةٍ قَهَرَهَا البطشُ وسَفْكُ الدماء، واشتكت أرضها من أجسادِ أهلها المبعثرين.
لقد قالت الملائكة لرب العزة عندما أراد سبحانه أن يجعل في الأرض خليفة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك! قال إنيَ أعلم ما لا تعلمون.
سُرُجٌ من النور المبين اصطفاها الله في خِضَمِّ الظلام، آياتٍ هَدَا بها السعداءَ فأشرقت صدورهم بحقيقة أم المعاني، جَعَلَ الله في الأرض مَنْ يفسد فيها حتى يكونوا مشاعلَ إصلاحٍ وشموسَ هداية، حِفْظًا للعهد مِنْ "فاشهدوا" و"أَلَسْتُ بربكم".
وانطلق الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ونَسِيَ عهدَ اللهِ فأنساه الله نفسَه، حتى إذا تراكمت القرونُ وتوالت الأزمان، وتَجَذَّرَ طُغيانُ الإنسان وجبروته في الأرض، عَبَدَ عقلَه فظن أنه قادرٌ عليها، واستكبر فغزا الفضاءَ وسعى للسيطرة عليه وامتلاكه، وجَارَ على نفسه فهَدَمَ سعادتهُ وسَلَبَهَا أَسْبَابَها، وجَرَفَهُ تيار اللامعنى فهام على وجهه تائها، فإلى أين...؟ !ويشتد الظلام والإنسان يقتل نفسه بنفسه، والضحايا يستغيثون في كل أرجاء الأرض، مذاهبُ وأحزابٌ وفِرَقٌ تنتحر بقتال بعضها البعض، وتتلذَّذُ بإهلاك نفسها عن طريق غيرها، حتى إذا هَلَكَتْ تحزَّبَ الثوار ينتقم بعضهم من بعض، ويستلب بعضهم حقوق بعض باسم القانون الدولي، ويتهم بعضهم البعض الآخَرَ باسم الثقافات والإيديولوجيات.
لا بد للصباح أن يَجْلُوَ آثارَ الليل، وأن يَمْحَقَ الغَيْمَ بشمسِ ساطعة، شمس العدالة ورَدِّ الحقوقِ إلى أصحابها، فلا يخضع الإنسان لمن يَصْفَعُهُ بإسقاط كرامته، وتلين القلوب التي قَسَتْ مثل الحجارة أو أشد قسوة، ويستقيم الضمير قبل أن يندثر الضمير الإنساني، فتستولي القوة الدولية الغالبة على ما تَبَقَّى من قيم وتصوغَها في قالَبٍ جديدٍ ظاهره يخدع بالرحمة وباطنه ظلمٌ وضَياع، تستخدمه لمآربها وتستغل أنصارَ العدالةِ لاستدراجهم وخِداعِهِم بالظنونِ والشعارات، وتحصُدُ آلافًا من الأبرياء إرضاءً لطيشها وتحقيقا لأهدافها، ولا يهمها أن يتم ذلك على حساب المعرفة فتنهار المعرفة، والقيم فتضيع القيم، وسعادة الإنسان فتنهار سعادة الإنسان، وعلى الأخلاق فتنهار الأخلاق، وعلى ثقافات الأمم فتضيع أصولها وتنقلع من جذورها، لتلحق بضحايا المعاني والمباني في الأرض وداخل النفوس والعقول.
كيف أركض وحدي وأزعم بلوغًَ الحقيقة، ومن حولي ملايين يركضون فلا ينتهون إلى شيء، وينتهي بصرهم إلى فراغ، مهما أطلقوا لـه العنان كَلَّ فلم يبلغ الغاية، فليس أمامه إلا مَهْمَهٌ فسيح الأرجاء، تَمُوجُ عليه الكائناتُ بعضُها في بعض، ويركض بعضها خلف بعض، سحيق غَوْرُه، عميق سرُّه، مختلطة سماؤه بأرضه سَعَةً وانفساحا، فلا تفصل بينهما زرقة اللون.. كهذا المحيط المترامي الأطراف.
وقفت مُحَدِّقًا في فضاءٍ لا نهاية لـه، متقلب لا يتوقف، تغيب فيه الحواس الظاهرة والباطنة، وتندمج فيه الأفئدة والمهج، فتغمرها روعته وهيبته، وتضيع في عالمه غير المحدود، حتى يصبح الجسد واقفا بغير روح، متأملا وحركاته ساكنة خاضعة لسلطان اللاشعور، متدفقة خواطره كالشلال، ليختلط صوتها بأصداء السماء، وعالم أعالي البحار، لا يوقظها إلا الخوف، وقد أوشك الغروب ولا نجاة، وتثاقلت السحب فلا مهرب، والتمع في الآفاق الداكنةِ برقٌ مرعب، وكادت الجماجم تنطق من وحشة المكان!! وانشق البحر كأنما أُلقِيَتْ عليه عصا موسى عليه السلام، وتصاعدت أصواتُ النعاة.