يهود سوريه ليسوا فقراء .؟
شمس الدين العجلاني*
قرأت في نهاية شهر تموز الماضي في إحدى الصحف العربية الواسعة الانتشار زاوية لصحفي عربي معروف و مهم تحدث فيها عن فضيحة حاخامات نيوريوك الأخيرة التي ضجت بها وسائل الإعلام المختلفة .. و دور اليهود السوريين في ذلك . و يقول ان هؤلاء اليهود من أصول سوريه هم : ( بين المجموعات الأكثر ثراء في أميركا كلها ) و من ثم يتابع القول : (عندما كنت أحاول أن استأجر شقة لابني في دمشق بعد أن أرسلته جامعته البريطانية لتعلم اللغة العربية في بلد عربي.؟ فاوضت بمساعدة الزميل ( --- ) عجوزاً دمشقية محجبة لاستئجار شقة صغيرة تملكها فكانت أصعب من عشرة محامين. وقال لي ( --- ) في النهاية: شفت يا أستاذ ليش اليهود طلعوا فقراء من سورية؟ ) .
ومن هذا الكلام يتضح للقارئ ، ان هؤلاء اليهود الذين غادروا سوريه ، غادروها فقراء ..؟ و من ثم انعم الله عليهم في أميركا فأصبحوا ( بين المجموعات الأكثر ثراء في أميركا كلها ) . و هنا لابد من التذكير ان هؤلاء اليهود السوريين مثلهم مثل باقي الطوائف و الاثنيات السورية منهم الغني و منهم الفقير ، و لكن المشهور و المتعارف عليه في بلدنا ان اليهود السوريين كانوا من أغنياء سوريه عبر العصور المختلفة ، و حين غادروا سوريه ، غادروها و معهم ثرواتهم الطائلة ، و بالتالي لم يخرجوا من سوريه بخفي حنين .؟ بل خرجوا بثروات مالية و تراثية قد لا تقدر بثمن .؟ جنوها و جمعوها في دمشق و حلب ( حيث كانت تعيش أغلبية الطائفة اليهودية ) . فعلى سبيل المثال استطاع عدد من أبناء الطائفة اليهودية وعلى رأسهم الحاخام إبراهيم حمرا ان يخرجوا من سوريه ثروات تراثيه لا تقدر بثمن من مخطوطات وقطع أثرية و منها :
9 مخطوطات من الكتاب المقدس
40 من لفائف التوراة
32 صندوق لفائف التوراة المزخرفة
أقول لو فتحنا صفحات التاريخ لقرأنا ، ان عبادية بريتنورو في إحدى رسائله تحدث عن غنى اليهود الدمشقيين و عن بيوتهم الجميلة التي تحتوي على حدائق رائعة ، و المؤرخ نعمان القساطلي يقول عن قصور اليهود التي بنيت بين سنه 1865 م و سنه 1872 م : ( دار شمعايا و دار الخواجه اسلامبولي و دار الخواجه لزبونا و لم يصرف على الواحدة منها اقل من 20 ألف ليره ) و في كتابه ارض الكتاب المقدس الصادر عام 1847 م يقول جون ويلسون ان مراد فارحي أغنى رجال المصارف و التجار في دمشق ، و عن قصر روفائيل فارحي يقول ويلسون ، فهو أشبه بقرية صغيره حيث يقطنه ما بين 60 إلى 70 شخصا ، و يحتوي على مكتبه غنية بالكتب العبرية و خاصة الدينية منها ، و عن قصر عنبر يقول المؤرخ نعمان قساطلي انه انفق على إنشائه آنذاك ( 1867 م ) 43 ألف ليره سوريه ، و انه لا مثيل له على الإطلاق في سوريه .. هذا غيض من فيض عن بعض قصور اليهود بدمشق .
أما استبداد اليهود بالشأن المالي و الاقتصادي ، فهو معروف منذ القدم ، و خير شاهد هو رفائيل فارحي ، فقد كان في زمن والي دمشق ولي الدين باشا وذلك نحو عام 1825 م كبير صيارفة دمشق و متولي خزينة دمشق في آن واحد .؟ و نتيجة سيطرة اليهود على الشأن المالي و مفاصل الدولة في بلاد الشام و في فترات مختلفة و طويلة و تعديهم على باقي فئات المجتمع الشامي ، قال احد الشعراء و هو أبو القاسم الواساني ، في اليهودي الدمشقي منشا بن إبراهيم القزاز :
إن منشا قد زاد في التيه وزاد في شامنا تعدّية
أول بنك انشأ في دمشق كان صاحبه يهودي و عرف ببنك ( زيلخا ) و يقع خلف قلعه دمشق قرب سوق الحميديه ، و في حلب كان البنك اليهودي ( صفرا ) .
الحديث عن الثراء اليهودي بدمشق و حلب يطول الحديث عنه قديما و حديثا ، فالآن ( حتى تاريخ كتابه هذه المقالة ) من أهم تجار الألماس بدمشق هو من أبناء الطائفة اليهودية ، و في الأربعينيات من القرن الماضي كذلك كان العديد من اليهود من عليه القوم ماليا و سياسيا و منهم على سبيل المثال رجل المال الشهير المستر خضوري الذي كان له الأيدي البيضاء في خدمه أبناء طائفته ،و يوسف لينادو النائب في البرلمان السوري ، و كبير رجال المال ، ورئيس الطائفة اليهودية ، كما اشتهر أيضا من تجار دمشق ( الأقوياء ) ارواني الذي عرف عام 1890 م، و اصفر الذي عرف عام 1890 م ، و نيسان الذي عرف عام 1911 م ، و سركيس الذي عرف عام 1909 م .. وفي فتره الخمسينيات و ما بعد عرف من التجار و الصناع اليهود الكبار ( على سبيل المثال ) رحمون جاجاتي ، محل فرح ، خضر لوز ( و الذي لاحقته الإشاعة انه قام بشراء شارع بحاله بعد مغادرته دمشق .؟ ) ، موريس نصيري أشهر من عمل بالنحاس و هو من قام بتزيين فندق شيراتون دمشق بالنحاسيات عند افتتاحه ، و عرف من محلات الألبسة الفاخرة بدمشق ، محل الفارس ، محل شيك ، المخزن الكبير ، محل ساج .. و عرف في سوريه الكثير من الأطباء الأغنياء و قيل عن احدهم انه بلط إحدى غرف منزله بالعملة المعدنية التي كانت سائدة آنذاك ...
يهود سوريه لم يغادروا سوريه فقراء ( 1 )، لم يحصل هذا على الإطلاق بل غادروها بعد أن حولوا كل أموالهم إلى الخارج ( بطرق مشروعه وغير مشروعه ) و اكبر دليل على ذلك ماورد في المقاله أنهم: (الأكثر ثراء في أميركا كلها ) فليس من المعقول و لا من المنطق أنهم خرجوا فقراء من سوريه و من ثم أصبحوا (الأكثر ثراء في أميركا كلها ) . هنالك عدد من الإحصائيات عن الأموال الثابتة و غير الثابتة التي كان يملكها اليهود السوريون ، و هذه الأموال لم تبق في دمشق أو حلب أو حمص ، إنما غادرت معهم أو قبلهم ..
و ليس المديح الذي ورد في المقالة للتاجر السوري على هذا النحو : ( لعل التاجر الدمشقي أو الحلبي، وحتى الحمصي، هو الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يدعي أنه أمهر في التجارة وصنع المال من اليهود. ) بصحيح فهو قد يحمل بين طياته معاني أخرى .
و
أيضا ليس ما ورد في المقالة : (حقق اليهود السوريون في أميركا ما عجزوا عن تحقيقه
في بلادهم الأصلية ) بواضح ، فان كان المقصود من ذلك بلادهم الأصلية ارض فلسطين
المحتلة ( و لا اعتقد أبدا انه يقصد ذلك ) ، فمن الصعوبة أن أناقش هذا الأمر .؟ أما
إن كان المقصود بلدهم الأصلية سوريه ، فسوريه كما نعلم جميعا كانت و لم تزل تعترف
بالطوائف السورية اليهودية و المسيحية و المسلمة كل منها كجزء لا يتجزأ من نسيج
المجتمع السوري ، و بالتالي فقد حقق اليهود السوريون على ارض سوريه أكثر بكثير مما
حققوه في الخارج ، ففي سوريه تبؤوا أعلى المواقع فكان منهم التجار و رجال المال و
الأطباء و رجال السياسة تحت قبة البرلمان و في المجلس البلدي .. فماذا تريد أن
يحققوا أكثر من ذلك لقد كانوا نوابا في البرلمان السوري .. لقد كانوا أعضاء في
الكتلة الوطنية .. لقد كانوا من أهم أطباء دمشق .. لقد كانوا أعضاء في غرفه تجاره
دمشق .. لقد كانوا أولياء الأمر في الشأن المالي فماذا أكثر من ذلك تريد ان يحققوا
.؟
الحديث عن يهود سوريه يطول و لكنني أجذم أنهم لم (
يطلعوا فقراء من سورية ) و لا يجوز ان يقال ذلك في مقاله لأستاذ كبير و في صحيفة
عربيه مهمة لان ذلك يحمل معان أخرى نحن لسنا بحاجه إليها و لو كان ذلك بنوايا
حسنه .؟
* صحفي وكاتب
( 1 ) صحيح أن الطائفة اليهودية السورية لم تكن تصنف كاملة في خانه الأغنياء و أن هنالك فقراء يهود و ان عدد منهم امتهن مهن وضيعة سعيا وراء لقمة العيشة الشريفة ، و لكن المشهور و المعروف عن يهود سوريه الغنى و الثراء ، و تشير إحدى الإحصائيات أن 15% من يهود سوريه إبان الحرب العالمية الأولى عاش على التبرعات .