مجانين الحرب..!
صالح خريسات
يكفي أن نعرف بأن أول مستشفى للمجانين في العالم، تم تدشينه في القرن الرابع عشر، بهامبورغ، ألسنة 1375م، بسبب تفاقم الأمراض العقلية، الناجمة عن الحرب،والطاعون،الذي طال أمدهما في تلك البلاد.
وتنقل إلينا المصادر التاريخية،عن أوضاع الناس في تلك الظروف، وأن بلاطاً واحداً، لم يخل من مجانينه، وأقزامه، وليس من عيد شعبي، إلا وكان لهم فيه الدور الأكبر، وقد أحصاهم الناس، في عداد الوحوش الغريبة.
ولم يستطع النبلاء، وكبار القوم، شأنهم في ذلك شأن أسلافهم، منذ قرون،الاعتدال في ميولهم الفظة، فإن سوارات الغضب الشديد،عند الرجل الثري، جان له بون الأبي،أو إدوارد الثالث البشوش،الذي استولى على مقاطعات واسعة، وعوارض الهيجان، عند فيليب له بون،الذي كان يسكنها، بالسير على الحصان، حتى أنهكه، في غابة سواني، تتجه إلى كل من تدفعة حياته، إلى العيش في ظل الحروب،إلى مراقبة أهوائه، وجموحه.
وقد أعترف فرواسار،على الرغم من إعجابه الكبير بطبقة الفرسان، بأن : "أكابر الأمراء، وأكابر الأسياد، ما كانوا ليتميزوا عن البهائم، لولا وجود الإلكيرس " وإن في جاذب علوم السحر، والتنجيم، التي أسهم في نشرها رجال الدين أنفسهم، بسبب ميلهم الطبيعي إلى التشكي، من وراء ما لمسوه في كل مكان،دليلا على أن الناس، قد حاولوا في الأوقات العصيبة، استمالة كافة القوى، الفائقة الطبيعية، أو الجهنمية إليهم
إن هنري دي ترنستمار، لم يقدم على أي عمل، دون استشارة ساحره الطلي طلي، الذي ادعى استحضار الموتى. وروي عن غاستون فيبوس كونت فوا، أن روحاً مؤالفة، كانت تشعره بالأحداث، ساعة حصولها بالضبط. وإن في استصواب رجل متزن، كجرسوف، وضع دراسة لتحويل النساء، عن تعاسات الحياة الزوجية، لصدى للتقليد الرهباني القديم، الذي استرذل الفعل الجنسي، احتجاجا على الفجور، والضلال، اللذين شاهدهما بأم عينية، كنتيجة حتمية لمخلفات الحرب، وتوابعها. وأستند مهذبو الأخلاق، إلى هذه الإفراطات، في إصدار حكم مطلق، على العصر بكامله " العصر الهمجي" أو عصر المجانين.
وتنقل إلينا المصادر التاريخية، عن ظروف ما بعد الحرب، أن جل الناس في أوروبا،كانوا يتصرفون بطريقة همجية بدائية، فيحبون ويقتلون، ويرقصون ويبكون، وكانوا يجتمعون في الطرقات،أشباه عراة، يجلدون أنفسهم بالسياط، ويطلقون ضحكاتهم بطريقة جنونية.
أضف إلى ذلك، أن اللهو، غالباً ما تميز بفظاظة مثيرة، كمشهد تنفيذ الأحكام بالموت،الذي كانوا يستطيبون التكادي فيه، وكالمبارزة،التي جرت في باريس نفسها، بين عميان تضاربوا بالعصي، حتى الموت.
وكان لكل مدينة لصوصها، الذين يسيطرون على الشوارع المظلمة ليلاً، ويسرقون بيوت أهاليهم، وأقاربهم، ثم يعودون في اليوم التالي، لينفقوا على ذويهم، ما كانوا سرقوه،وهم يذرفون الدمع، تكفيراً عن الذنب. وقد ألف هؤلاء اللصوص، في باريس نفسها أيضاً،مملكة الصعاليك، التي أطلق فيها اسم الصعاليك الأحرار، على من يرفض منهم الإسهام، في تحمل الأعباء المشتركة.
وقد زادت في تشاؤمهم، رؤيتهم للأهواء الاجتماعية، كانت الجماهير المدنية سريعة التأثر بها، فتذرف الدموع سخية،عند سماع المواعظ، وتقبل على تناول الأسرار بحرارة، وتطرد بنات الهوى، تلبية لنداء مبشر، وقد يتساهلون معهن في اليوم التالي.
لقد اشتدت المضادة، بين الأخلاق التي لم تزل فظة، والتفخم المتزايد لدى الطبقات العليا،فبرزت من ثم،المتناقضات الأخلاقية، بمزيد من القوة، أدت إلى الجنون. فليس مبالغاً فيه، إذا قررنا بأن المجتمع الأوروبي، والأمريكي، وارث المجتمعات المختلة التوازن، منذ حرب المائة عام، إذ فقد هذا المجتمع، كل رزانة، في التظاهر بالرذيلة والبهيمية، وقارب الجنون في أغلب الأحيان، وانتقل دون تحول، من الجريمة الوقحة، إلى دموع التوبة، وتباهى أحياناً، بقبائحه، واستنشق بلذة، رائحة الجثث النتنة، فعشقها في كل زمان ومكان. وهذا أسوء مظهر للجنون، عندما تتلذذ بآلام الموت، وتشعر بسعادة مطلقة، وتدعي الإنسانية في أرقى صورها.