وقفة مع الحداثة العربية
وقفة مع الحداثة العربية
د.عدنان
علي رضا النحويلقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الكتَّاب المسلمين في مواقع مختلفة من العالم الإسلامي عن " الآخر " ، بحيث أصبح من الحق أن نتساءل لماذا هذا الحرص على الآخر ، والآخر ليس بحاجة إلى حرصنا عليه ، ولا هو حريص علينا . ولماذا تُثار هذه القضية والآخر يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد .
فمن قائل يجب أن نقسط مع الآخر ، ومن قائل يجب أن نعترف به . ونتساءل ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط الآخر معنا ويعدل معنا ، فهو الظالم المعتدي المنِكر لحقوقنا . ومن قائل يجب أن ننفتح عليه ! وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه ، فُتِحَتْ له القلوب والديار ! إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام .
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية . وإن أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمة على الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها ، و" الحداثة " لا تُقَدِّمُ لنا النهج والخطة ، لا لفظاً ولا معنىً .
إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة ، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق .
يجب أن لا يدفعنا الإحباط و" الهوان " إلى أن نتلمس النجاة عند " الآخر " ، إن سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله ، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيُّر ما بأنفسنا ، ولننطلق على صراط مستقيم.
إنَّ الإسلام ، والإسلام وحده ، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً ، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها ، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله ، نبلّغهم إياها ونتعّهدهم عليها ، بها نخاصم وبها نرضى وبها نتعاون .
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا ، فإن لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل ، وتبعث فينا القوة والعزيمة ، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب ، في صورة عبادة لله ، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي سيحاسَبُ عليها بين يدي الله .
ولقد كثر الحديث عن " الحداثة " في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل ، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين مَنْ يحاول استحداث حداثة راشدة لتقاوم " الحداثة الهجينة " الزاحفة .
خلال ذلك كله ، والمسلمون في جدل وحوار ، استطاعت " الحداثة الهجينة" اقتحام أسوار الأمة والنفاذ إلى مواقع شتى والتسلّل إلى قلوب كثير من الناس في أقطار شتى من العالم الإسلامي ، وتثبيت أقدامها في المواقع : في الإعلام والأدب والفكر . وهذا هو العالم الإسلامي أمامكم !
ولم تكن " الحداثة " وحدها تصارع ، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام ، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني ، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها ، والجيوش الزاحفة كذلك ، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة .
ولقد نهجت هذه القوى " الحداثية العلمانيّة " خطة مكر أصابت نجاحاً ، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم ، وكثرة تنازلاتهم ، وميلهم إلى المهادنة ، أو الاستسلام . فسارت على خطّة شيطانيّة حذَّرنا القرآن الكريم منها بقوله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ ا لله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم ) [ النور : 21 ]
سياسة الخطوة خطوة ! سياسة ماكرة كان قد صرَّح بها كسينجر وزير الخارجية الأمريكي حتى أصبحت خصيصة من خصائص سياسته . وهي سياسة يعتمدها المعتدي في فرض أفكاره وآرائه ، وسياسة يعتمدها المعتَدَى عليه في تنازله . فالمعتدي الغازي يطرح بعض أفكاره ومصطلحاته ، فَتُرْفض أولاً بضجيج عالٍ وغضبة هائلة . ثمَّ يصرُّ المعتدي ويضاعف جهده ولا يتراجع ، حتى يرى بعض الرافضين بدؤوا يستحسنون بعض فكره ومصطلحه ، ثم ينتقلون إلى التأييد والبحث عن المسوّغات ، فيطرح المعتدي فكره بصورة أوسع مع ما يملكه من زخارف وزينة ، أو تهديد وتحذير . حتى نجد من أصبح داعية لفكره لا يقف عند حد التأييد . هذه الصورة واقعية نشهدها جليّة في كثير من ديار المسلمين، حتى أصبحت العلمانية والحداثة الهجينة هي نهج مطبق في دارٍ ودارٍ ودارٍ . والصورة تتكرر : رفض ، استحسان ، تأييد ، دعوة ودعم . فحشدوا لذلك جنوداً كثيرين ظاهرين ومستترين . خطوة خطوة في التنازل أيضاً .
عندما ظهرت الاشتراكية وقعت هذه الخُطا الشيطانية حتى صرنا ننادي " بالاشتراكية الإسلامية " . وكذلك مع الديمقراطية ! أُلّفت كتب تقول إنها إسلامية، ودعوا إلى " الديمقراطية الإسلامية " ، دون أن يجدوا شعاراتها المزخرفة مطبقة في ديار أصحابها ولا في ديار تابعهيم . أين الديمقراطية ؟! لقد تكّشفت في أحداث واقعية وتبيّن أنها أشدّ أنواع الديكتاتوريات : إما أن تقبل ما أفرضه عليك ، وإما أنت عدوٌّ ستُقْتل وتُسْتَباح ديارك وأموالك وأعراضك ! إنك إرهابيّ !
وجاءت العَلْمانية Secularism ، والعِلْمانيّة Scientism ، فنشط بعض المسلمين ليجعلوا منها " علمانية إسلامية " . وكأننا كلما جاء من الغرب فكر ومصطلح هرعنا إليه لنضع على المصطلح طلاء إسلامياً يُخْفي سوءاته . ولكن السوءاتِ تظل تتكشَّف مهما وضعت من طلاء !
وجاءت "الحداثة " كذلك ، فمرت بنفس مراحل خطوات الشيطان ، حتى أصبح من بين المسلمين دعاةٌ صريحون يدعون إلى حداثة الغرب . كنتُ في أحد البلاد العربية أتحاور مع داعية مسلم يقول : ما رأيك ، حتى نحارب الحداثة نأخذ بعض أفكارها ومصطلحها ونتألفهم بذلك على الإسلام ! فقلت له : أخشى أن تصبحوا أنتم حداثيين ، والحداثيون يُصرُّون على حداثتهم ويرفضون إسلامكم ، لتبنِّيكم شعاراتهم وأفكارهم ! ومصطلحاتهم .
وفي لقاء مع دعاة إسلاميين أخذوا يهاجمون شعر الأستاذ عمر بهاء الأميري وآخرين ، ولما سألتهم من الشاعر الذي يعجبهم ! قالوا : محمود درويش! فقلت أهذا الذي يقول : " … وفي سنة 1961م دخلتُ الحزب الشيوعي ، فتحدّدت معالم طريقي " وينسى الذين يتغنّون بشعره قوله : " نامي فعين الله نائمة وأسرار الشحارير "!
في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استُدْرِجوا خطوةً خطوةً حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة . ولقد بلغ الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم ، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع .
وبين يدي مقالة أخي د. وليد قصّاب في مجلة الحرس الوطني العدد (262) السنة الخامسة والعشرون . صفر 1425هـ ـ أبريل نيسان 2004م ، بعنوان : " الحداثة المنشودة " قضية للحوار .
آخذ على الموضوع عنوانه : " الحداثة العربيّة " ، فهل القضية قضيّة قوميّةٌ وهل الميزان ميزان قومي ؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة ؟! وحتى نجابه هذه " الحداثة الهجينة " الموجّهة للناس كافة فعلينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميّاً لكل إنسان وشعب وأرض ، ولا يوجد غير الإسلام لهذا التوجّه الإنساني العام ، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان . لقد منَّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها . وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدةً وديناً وشعاراً ، مهما وقع من تفلّت في بعض المبادئ . لقد ظلّ الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم .
ولفظة " الحداثة " نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها ، وقد طلع بها " الحداثيون " أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم ، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم .
وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يَعدْ يناسب النهج الإسلامي بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ، واستقرَّ الإسلام ديناً للأمة كلّها.
فكلمة حَدَثَ وأحدثَ وحديث وحداثة لها معانٍ متعددة في المعاجم . ولكن من الناحية الفكرية ، وحسب ما أتت به الآيات والأحاديث ، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس . فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدَث تدلّ على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتدّ ، كما في قوله سبحانه وتعالى :
( وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين )
[ الشعراء : 5]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون )
[ الأنبياء : 2]
ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدثٌ ضد القديم الذي هم عليه . والقديم الذي هم عليه باطل ، والذكر المحدَثُ هو من عند الله ، وهو الحق .
أما عندما استقرَّ الإسلام وأصبح دين الأمة ، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة .
وفي الحديث الذي يرويه أبو داوود والترمذي وابن ماجه يرد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( … إيَّاكم ومحدَثات الأمور فكل محدَثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة ) (1)
وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما دخل المدينة ، يأتي قوله :
( … وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما جاء في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً أو يؤويه وأنَّ من نصره أو آواه ، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة . ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ).(2)
ولذلك أصبحت كلمة " أحدث " و" محدث " تدل على أمر مرفوض شرعاً ، غير مقبول ، ولا مجال لتزيينه وزخرفته ، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم. والقديم الثابت الممتد بعد أن استقرَّ الإسلام هو الإسلام . فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام ، والمحدَث : الأمر المنكر الذي يرفضه الإسلام .
وفي لسان العرب :
الحديث : نقيض القديم .
محدَثات الأمور : ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان
السلف الصالح على غيرها .
المحدثة : ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع .
يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم ، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة . وما أتى به أهل الأهواء ، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة .
وإني أخشى أن يكون في مصطلح " الحداثة الراشدة " بعض التناقض على ضوء ما أسلفنا . فأنَّى تكون الحداثة راشدة بعد أن استقرَّ الإسلام ، وحملت من المعاني ما يخالف الإسلام ، وقد استخدمت الأمة المسلمة كلمة الراشدة مقترنة بالخلافة الإسلامية والخلفاء الراشدين . فلا يليق بنا أن نلصق هذه اللفظة الكريمة بلفظة عليها خلاف وقد التصقت بها الفتنة والانحراف .
وأن استخدام هذا المصطلح في أحسن حالاته هو شِعارٌ خالٍ من النهج لدينا، وأما شعار " الحداثة الهجينة " فقد ملأ الدنيا ممارسة وتطبيقاً وإعلاماً . وهو يحمل النهج الخبيث . ولكنه نهج ظهر في الواقع . فكيف نقابل النهج بشعار ، ونهجنا هو الإسلام .
ولقد أورد الكاتب في كلمته أقوال عدد من الكتَّاب , وقد استخدمت لفظة " الحداثة " عندهم بصورة متباينة بين هذا وذاك . فمن قائل : " إن الحداثة ضد التكلس والجمود " ، فمن أين أتى هذا المعنى ومن أي معجم ؟! إلا إذا أردنا أن نطرح المعاجم واستخدامات الكتاب والسنة لها . ومن قائل : " إن الحداثة تعني المعاصرة " . ومن قائل : " إنها لا تطال الثوابت في هذه الأمة " وقد طالتها من أول هذه الكلمة حيث تجاوزت ما حدّده الرسول صلى الله عليه وسلم من معانٍ لكلمة "الحداثة ، وأحدث ، ومحدَث "على صورة رسالة ربانية محددة المفهوم والمصطلح .
ويقول الدكتور وليد حفظه الله : الحداثة في هذا الخطاب لا تلغي الآخر ، ولا تتنكّر له … الخ وأقول من هو الآخر الذي يجب أن لا نلغيه ؟! ولعله الغرب العلماني ؟! إن هذا الآخر هو الذي ألغانا وتنكَّر واعتدى وأفسد .
ويقول د. قصاب : بل هي منفتحة عليه مقتبسة منه ….! وكنت أتمنى أن يحصر ذلك في العلوم والصناعة وما شابهها . ففي الفكر والأدب نحن الأغنى ، ونحن الذين يجب أن نقدّم لهم رسالتنا . من الخطأ أن يكون موقفنا موقف الآخذ المقتبس الحذر فقط ، الذي ليس لديه شيء يُعْطيه . نحن أُمِرْنا بالكتاب والسنّة أن نبلّغ رسالة الله ، وبذلك فقط نكون خير أمة أخرجت للناس . قبل أن نفكر ماذا نأخذ ، علينا أن نفكر ماذا يجب أن نعطي !
وكلام أحمد عبد المعطي حجازي يدور وينطلق من نظرة إقليمية قومية ، لم يخطر بباله أن الإسلام له موقف ورأي . وأما الإقليمية فما هو مستندها لتحدد موقفاً عالمياً يصغي له الآخرون . مضت قرون ونحن نصرخ من منطلق إقليمي وقومي ، فما أصغوا لنا إلا أن يزيدوا تفتت الأمة المسلمة التي كادت تَنْسى رسالتها .
والقول بأن هذه الحداثة لا تتنافى مع الأصالة ، قول يحتاج إلى مراجعة ، فحسب ما أوضحت قبل قليل فإن الحداثة ، بعد أن استقرَّ الإسلام ، أصبحت بنصِّ حديث رسول الله عليه وسلم مخالفة للإسلام . ومن يقول : " إن الحداثة كما تأكَّد عبر التاريخ لا تقوم إلا على الأصالة " ، كلام يحتاج إلى مراجعة . فمنذ متى عُرفت الحداثة في التاريخ حتى نستشهد به على الأصالة ، ومن الذي استخدمها ، وما هو رأي الإسلام فيها مصطلحاً وفكراً ، وما هو تاريخها ؟! الذين استخدموا الحداثة في التاريخ تنكروا لكل أصالة كانت عند قومهم .
ومن قائل : " في تراثنا أشياء إيجابية يجب أن نحافظ عليها ..الخ " الموقف لا يقف عند كلمة " التراث " ، والذي لدينا أعظم من لفظة تراث ! إنه دين وذكر من عند الله ، أعظم من كل شيء ، إليه يجب أن تُرّدَّ قضايانا كلّها صغيرها وكبيرها . إن تراثنا قائم على الدين لا تستطيع " الحداثة " بأيّ مفهوم لها أن تتعرَّض له . فالمؤمنون الذين عرفوا دينهم والتزموه هم وحدهم يدرسون التراث بردّه إلى منهاج الله ، وليس إلى الحداثة .
إننا نفهم من كلمة " تُراثنا " ما يرتبط بالدين ، ولا ننظر فيما كان خارجاً عن الدين في وقته . تراثنا ديننا الكتاب والسنة واللغة العربية وما يرتبط بذلك من نشاط حق . فالقول بأن في تراثنا أشياء إيجابية هو تهوين لشأن هذا الكنز العظيم الذي منَّ الله به علينا .
والقول : إن تراثنا الأدبي وتراث الأمم الأخرى عرف مجددين عظاماً ، أحدثوا وطوّروا …! إن الربط بين تراثنا وتراث الأمم الأخرى خطوة "حداثية " فتُراثنا هو كما بيّنت أعلاه ، أما تراث غيرنا فكله نابع من الوثنيّة اليونانية والرومانية وما أسموه علم اللاهوت ثم المذاهب التي لا تكاد تحصر في الفكر والأدب ، من هيجل وكانت وماركس وأنجلز والعشرات من أمثالهم . وكذلك استخدام كلمة أحدثوا " خطوة حداثية أخرى ، مخالفة لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي عرضناه قبل قليل . فكلمة " أحدث " أصبح معناها في نصِّ الأحاديث، وفي جميع المعاجم : جاء بما يخالف الإسلام والكتاب والسنة .
لقد اختلطت الاصطلاحات اختلاطاً عجيباً بين الحداثة والأصالة والنافع والضار . بأسلوب عائمٍ لا يحدد ميزاناً ولا منهجاً ، ومهما حاولنا أن نضع " للحداثة الراشدة " منهجاً أو ميزاناً فلن نفلح ، وسنجد أنفسنا عدنا إلى الإسلام كله. فالإسلام وحده يغنينا عن هذه المصطلحات ، فهو الذي يرسم الفكر والأدب والكلمة كلّها .
ويقول الدكتور اليافي : أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر المدى شريطة أن يتمَّ ذلك ضمن خصوصيتي القومية وتراثي الثقافي ولغتي العربية "، أشعر بذلك اختلاط المصطلحات وتناقض التعبير . فالدكتور اليافي حصر القضية كلّها في خصوصيته القومية ، حيث لا نجد أي ذكر للإسلام ، مجرَّد ذكر ! إصرار على القومية والخصوصية بصورة متكررة . ثم يطرح ألفاظاً عائمة : تراثي الثقافي ! ما هو وما حدوده ؟ وما علاقته بالأمة ؟! التطور والتجديد ، والحداثة الشعرية ، إلى آخر المدى ! انفلات لم يعد يجد له ضابطاً ! إنها خطوة حداثيّة من خطوات الحداثة الهجينة ، ولا يمكن أن تمثّل بهذا التناقض والانفلات أيَّ خطوة راشدة .
وهل الحداثة الراشدة " التي يدور حولها المقال خاصة بالأدب ، أم بالفكر ، أم الدين كله ، أم العلوم ، أم الصناعة ؟! ما هو مداها ودائرتها ؟! فإن كانت في مجال الأدب فحسَبَ ما ورد في المقال ، فقد فتحنا الباب كلّه للحداثة الهجينة بعد أن قبلنا حداثة الشعر إلى أبعد مدى ! وفتحنا الباب لنأخذ عن الغرب ونقتبس من أدب له تاريخ وتطور ونظريّة وارتباط مختلف كل الاختلاف عن أدبنا وتاريخه ونظريته . إن الأدب الغربي كان منطلقه الوثنية ، مشتتاً بين لغات متعددة ، ومصالح متضاربة ، وأدبنا نشأ في حضن الإيمان والتوحيد واللغة العربية ، ومضى أكثر من ألف وخمسمائة من السنين محافظاً على لغة واحدة لم تمسّها الحداثة، وعلى رابطة ربَّانيّة إيمانيّة ، ظلَّت في أسوأ الظروف تطلق دفقتها الغنيّة!
اختلطت مصطلحات : الحداثة ، والقومية ، والإنسانية ، والأصالة ، والنمو، والتطور ، والتجديد ، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأيٍّ منها مفهومٌ محدّدٌ قابلٌ للتطبيق ، ولا منهجٌ جليٌّ يُحْكَمَ له أو عليه . إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها.
نحن لسنا بحاجة إلى مصطلح الحداثة ، ففيه شبهة واضطراب واختلاط ولغتنا غنيّة بالمصطلحات ، لنجد المصطلح المناسب بعد أن نضع نهجاً نريد أن نتبعه دون تصورات عائمة . نضع النهج ثم نضع له المصطلح ، وليس العكس .
فبالنسبة للأدب ظهر مصطلح الأدب الإسلامي الذي يشقُّ طريقاً منهجيّاً ، يغنينا عن مصطلح الحداثة في الأدب ، وإلا فليلْغَ مصطلح الأدب الإسلامي ، أو الأدب الملتزم بالإسلام ! ولتتوقّف رابطة الأدب الإسلامي عن عملها ، وتتولى الحداثة لتضع لها نهجاً وتتولى الأمر .
لفظة الحداثة ، لم تعد تعني التطور والنمو ، ولا الرشاد والوعي ، ولا التجديد . ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنَّ علينا بخير منها .
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة : إذا كنا بحاجة إلى حداثة راشدة تنطلق من أصالتنا ، من ذاتنا ، من حاجتنا ، فلماذا لم نفكّر بها إلا بعد ما ظهرت الحداثة الهجينة ، كما سبق أن ظهرت الاشتراكية الهجينة ، والديمقراطية الهجينة ، فما أفلح الطلاء الإسلامي ، وظلّت سوءاتها غير مستورة . وكذلك الحداثة ، لا أظنُّ أن الأصباغ ستفلح معها .
الإسلام هو الذي يعطي الآخر حقوقه ويعدل معه ، وليست الحداثة . الإسلام هو الذي يبيّن لنا ما نأخذ وما ندع ، وكيف نتعامل مع الآخر ، وهو الذي يدفعنا إلى أن نعطي له لا أن نقف عند الأخذ ، أن ندعوه إلى الإسلام . الإسلام هو الذي يرسم لنا نهجاً ويضع مصطلحاً .
الإسلام ، والكتاب والسنة ، كلُّ ذلك ليس مجرّد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه . الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل ، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان .
الخلاف حول ما طرحته الحداثة الهجينة وإقبال بعضهم عليه ، وإدبار آخرين ، وملاينة آخرين ، أشغل وقتنا ، وما كان إلا لأننا لم نردَّ أمورها كلّها إلى الكتاب والسنّة ردّاً أميناً صادقاً ، فكان الاختلاف والتمزّق والحيرة .
و" الحداثة " بلفظها وفكرها باب فتنة وابتلاء ، يتكرر مثله في حياة المسلمين ابتلاءً منه سبحانه وتعالى وتمحيصاً منه لعباده ، لتقوم الحجّة يوم القيامة لهذا أو ذاك . أو على هذا وذاك . إنها فتنة لفظة وفتنة فكر . فلنجتنب الفتن كلها . عسى الله أن يهدينا سواء السبيل .