صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري4
صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري-4-
د.
محمد أبو بكر حميدمعركة حبل الغسيل
كان الموسم المسرحي 1956/1957 آخر موسم مسرحي يعرض فيه المسرح القومي مسرحية من مسرحيات باكثير الكبرى، وهي مسرحية " مسمار جحا " التي ظلت تعرض على مدى ثلاثة مواسم مسرحية بنجاح منقطع النظير. وبإسدال الستار على آخر عرض للمسرحية في ذلك الموسم أسدل الستار على أعمال باكثير في " المسرح القومي " لأسباب فكرية عقائدية. ومن حسن حظ باكثير أن يوقف المسرح القومي عرض أعماله بعد واحدة من أكثر مسرحياته نجاحاً وأكثرها وطنية.
وهكذا حجبت مسرحيات باكثير عن الجماهير وهو في عنفوان ازدهاره وقمة مجده. ومع ذلك فقد كتب باكثير في مرحلة الحصار هذه من سنة 1958 حتى وفاته سنة 1969م عدداً كبيراً من المسرحيات، منها اثنتا عشرة مسرحية نشرت في حياته منها عمله الدرامي الضخم " ملحمة عمر" في ثمانية عشر جزءاً. وهي كالآتي:
" الزعيم الأوحد " "أوزوريس " " دار ابن لقمان " " هاروت وماروت " " قطط وفيران " " جلفدان هانم " " الفلاح الفصيح " " الدودة والثعبان " " حبل الغسيل " " شادية الإسلام " " ملحمة عمر".
أما الأعمال المسرحية التي تركها مخطوطة فهي:
" التوراة الضائعة " " حرب البسوس " " لباس العفة " " أحلام نابليون " " مأساة زينب " " قضية أهل الربع " " الوطن الأكبر" " الثائر الأحمر" " النص المسرحي " " عرايس وعرسان " " شلبية " "فاوست الجديد " " عاشق من حضرموت ". وقد تقدم باكثير بمعظم هذه المسرحيات للمسرح القومي ومسارح أخرى فأهملت ولم تعرض.
ويضعنا هذا النتاج المخطوط الضخم وجهاً لوجه أمام مأساة باكثير في العشر سنوات الأخيرة من حياته، والحصار الذي تعرض له.
إمبراطورية في المزاد
والمفارقة المضحكة المبكية في آن واحد أن تمثل قبل الثورة وفي عهد الاستعمار واحدة من أكثر مسرحيات باكثير ثورية وعداء للاستعمار وهي مسرحية " مسمار جحا " وأن ترفض بعد الثورة وبعد طرد الاستعمار مسرحية لا تقل عنها وطنية وعداء للاستعمار الجاثم على أراض أخرى من الوطن العربي.
فقد عثرت على مسودة رسالة بخط باكثير بعث بها إلى وزير أو مسؤول كبير يشكو " الرقابة " التي اعترضت على مسرحية " إمبراطورية في المزاد ".. رقابة الثورة التي تمنع مسرحية تسخر من الاستعمار.
وكانت ثاني مسرحية يتم وأدها لباكثير في هذه المرحلة هي مسرحية " الزعيم الأوحد " وهي واحدة من أكثر مسرحياته وطنية وقومية لأنها كانت ضد دكتاتورية عبد الكريم قاسم. وقد توقع فيها باكثير نهاية عبد الكريم قاسم قبل وقوعها إلا أن المسرحية لم تعرض على المسرح بالرغم من كونها أكثر المسرحيات تناسباً مع المرحلة في حينها. وعندما طبعت المسرحية كتب باكثير في مقدمتها كلمة قصيرة يعبر فيها بمرارة عن منع عرض المسرحية.
جائزة الدولة
وفي سنة 1960م حصل باكثير على جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية " دار ابن لقمان " التي صور فيها كفاح الشعب المصري ودور المواطن في الاستماتة دفاعاً عن الوطن وهو دور تغفله عادة كتب السيرة والتاريخ لتركيزها على القيادات العسكرية التاريخية.
فكان البطل الحقيقي في هذا العمل الدرامي هم أبناء البلد الذين يقاومون الغزو الصليبي ويأسرون الملك لويس التاسع ملك فرنسا ويسجنونه في دار ابن لقمان الشهيرة في المنصورة.
ويصب مضمون هذه المسرحية في إطار فكرة أساسية ظلت تلح على باكثير منذ دخوله مصر وهي أنه لا يمكن استعادة الحق وتثبيت السلام إلا بالقوة التي تضمن بقاء الحق في أيدي أصحابه وتحمي السلام من الاعتداء عليه، ولكن هذه القوة تظل ضعيفة ما لم تكن مستمدة من قوة الشعب ومؤازرته.
ورغم ما في هذه المسرحية من معان عميقة وتجسيد لقوة الشعب وتعبير صادق عن روح مخلصة وبرغم فوزها بجائزة كبيرة فإن هذه المسرحية لم تعرض على المسرح لأن سدنة " المسرح القومي " لم يجدوا في روحها الوطنية المعاني التي يريدون الترويج لها.
ويحترق قلب باكثير سنة 1962م عندما ينال جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عن مسرحية " هاروت وماروت " التي لم يعرضها المسرح القومي أيضاً لعدم موافقتها للمقاييس.
هكذا بدأت الحرب على باكثير بالصمت قبل الجهر بها، ولحسن الحظ ، حظ التاريخ الأدبي، أنني عثرت بين أوراق مكتبه على وصولات تسلم المسرحيات التي كان يكتبها تباعاً دون يأس ويقدمها للمسارح ولجان القراءة في المسرح القومي على وجه الخصوص وكانت هذه اللجان لا تجرؤ بالطبع بالرد على كاتب راسخ القلم في التأليف المسرحي بأن مسرحيته غير صالحة للعرض إذ ليس لديها حجة فنية أو وطنية فتلجأ إلى الصمت. وقد شهد صديقه الدكتور عبده بدوي بهذا حين كتب يقول أنه:
" كان يتحدى هذا التجاهل بالاستمرار في الكتابة، وكم كان قاسياً على نفسه أن يكتب ثم يعرض ما يكتب على اللجان ثم يكون الرفض المقنع أو الصريح !" (الهلال نوفمبر 1974م).
أوراقهم تشهد عليهم
وقد كان إحساس باكثير بأنه سيأتي يوم ينصف فيه وتظهر أعماله كان وراء احتفاظه بوصولات تسلم مسرحياته من الجهات المسؤولة في اللجان ليقينه أنها ستشهد يوماً على ضراوة قاتليه وحقدهم الفكري عليه. والوصولات التي عثرت عليها بتوقيع مستلميها يعود أقدمها إلى سنة 1960.
نجاح يشهد لصاحبه
وباستثناء مسرحية " حبل الغسيل " التي كشف فيها باكثير عن سيطرة اليسار على شؤون الفن والمسرح فإنه لم تعرض لباكثير مسرحية من مسرحياته التي تمثل اتجاهه الفكري الرئيسي. فلم يشاهده جمهور المسرح حتى وفاته إلا في مسرحيتين اجتماعيتين ليس على خشبة المسرح القومي بالطبع. الأولى مسرحية " قطط وفيران " مثلتها فرقة المسرح الحديث على مسرح " الهوسابير " أخرجها حسن إسماعيل واشترك في تمثيلها حسين الشربيني وحسن شفيق وعقيلة راتب وزهرة العلا وأحمد سكري. والثانية مسرحية " جلفدان هانم " مثلتها فرقة المسرح الكوميدي على مسارح التلفزيون إخراج عبد المنعم مدبولي تمثيل محمد عوض ونعيمة وصفي.
وبرغم عدم تحمس باكثير لهما لاعتبارهما من مسرحيات اهتماماته الثانوية " القضايا الاجتماعية " فنياً وفكرياً فقد حققت هاتان المسرحيتان نجاحاً جماهيرياً كبيراً مما زاد غيظ خصومه عليه، فقد أكدتا نجاح " الفن " الذي يكتبه باكثير وليس نجاح " الفكر" فحسب:
فقد عرضت مسرحية " قطط وفيران " في موسمين ـ مسرحيين 62 ـ 1963م، 64 ـ 1965م في أكثر من ثلاثين حفلة. أما مسرحية " جلفدان هانم " فلم تعد لباكثير وذكريات مجده المسرحي فحسب بل وحققت مجداً ونجاحاً لفرقة المسرح الكوميدي ولمخرجها وممثليها ولا ينسى الممثل محمد عوض أن بروز نجمه وتألقه بدأ بدوره في هذه المسرحية.
وقد عرضت مسرحية " جلفدان هانم " على مدى موسمين مسرحيين متتاليين 62 ـ 1963م، 63 ـ 1964م قدمت فيهما ما يقرب من سبعين عرضاً جماهيرياً ناجحاً، ففي الموسم الأول حققت 27 حفلة وفي الموسم الثاني 39 حفلة !
وعلى إثر الضجة الكبيرة التي أحدثتها " جلفدان هانم " ظن الجيل الجديد.. جيل الثورة الذي لم يعرف باكثير أيام مجده أن هذه أول مسرحية تعرض لباكثير. وقد أشار أنيس منصور بمرارة إلى هذه الحقيقة في مقال كتبه بجريدة " الأخبار" 12 /2 / 1963م بعنوان " هذه المسرحية الشريرة أعجبتني".
واستجابة للنجاح الجماهيري الكبير الذي حققته مسرحية " جلفدان هانم " التي أعادت لباكثير شبابه المسرحي أشار وزير الثقافة والإرشاد القومي وقتها الدكتور ثروت عكاشة بإنتاجها سينمائياً فاتفقت مؤسسة الإنتاج السينمائي مع باكثير عليها وظهرت الإعلانات عن ذلك في الصحف وأجيزت القصة لحساب المؤسسة، ولم يركض باكثير كما يفعل غيره إلى المؤسسة لتوقيع العقد بل سكن مطمئناً إلى أن جهة رسمية لا يمكن أن تخل بتعهدها واعتبر الإعلانات الكبيرة التي نشرت عن الفيلم أكثر من كلمة شرف ثم هدأ كل شيء ومرت فترة صمت.. جاءه بعدها الجواب بأن المؤسسة قد عدلت عن إنتاجها !
وعلى مسرح " ميامي " مثلت لباكثير مسرحية " حبل الغسيل " التي كانت آخر ما عرض لباكثير على خشبة المسرح وذلك في الموسم المسرحي 65 ـ 1966م مثلتها فرقة المسرح الحديث، إخراج فوزي درويش وشارك في تمثيلها فاروق حكيم، روحية خالد، زوزو حمدي الحكيم، لطفي عبد الحميد، علي الغندور، محمد العنابي، هالة الشواربي. وضع فيها باكثير آخر كلماته بصراحة عن ما يحدث حوله للمسرح المصري، وكشف النقاب عن لعبة اليسار الذي سخر المؤسسات الثقافية لأغراض شخصية. وقد أنكر القوم على باكثير كشف أوراقهم بهذه الجرأة فانهالوا على هذه المسرحية بأقلامهم وألسنتهم شتماً وركلاً وتشنيعاً في كل المنابر الصحافية التي كانت في أيديهم.
وهكذا فإنهم لم يكتفوا بذبح باكثير بل قاموا بسلخ جلده أيضاً، فبعد أن اعترضوا على عرض هذه المسرحية سمح أخيراً بعرضها، ولما بدا أنه لا مفر من عرضها كما يروي اثنان من شهود العصر وهما عباس خضر ـ رحمه الله ـ والدكتور عبده بدوي ـ أطال الله عمره ـ ونصح هؤلاء كبار المخرجين والممثلين بعدم الاشتراك فيها، فنصائح الذين بيدهم المصالح أوامر كما هو معروف. وكان لابد أن يرفضها عدد من المخرجين والممثلين. وكان من الطبيعي أن يستغل هؤلاء الرفض لمصلحتهم للتدليل على عدم صلاحية المسرحية كما نجد في الخبر الذي نشر في جريدة " الجمهورية " 26/11/1965م وفي الأسلوب الذي كتب به.
ولم يستمر عرض المسرحية أكثر من ست ليال فقط كان لابد أن يفشل العرض المسرحي بعد أن أحكموا الحبل حول العنق وشنوا حملة تشنيع بالمسرحية قبل عرضها وأثناء عرضها وهجوماً كاسحاً يصل إلى التعريض بشخص المؤلف لا بفكره فحسب.
فإذا أضفنا إلى ذلك اعتذار كبار الممثلين وقيام مجموعة من ممثلي الدرجة الثانية أو الثالثة بتمثيل أدوارها وكان ذلك شجاعة منهم، فإذا تأملنا العامل الثالث لإحكام فشل العرض المسرحي وهو بث من يحدث الشغب بين صفوف المتفرجين ويشتم المسرحية أثناء العرض ويثير بلبلة وفوضى أدت إلى خروج بعض المشاهدين أثناء العرض، وجدنا أن هذا كله محاولة لإحكام الخناق حول عنق المؤلف ولإيجاد الحجج لرجالهم في الصحافة بمهاجمة المسرحية والتبجج بفشلها والتدليل عليه بما حدث من رفض بعض الممثلين والمخرجين لها وما حدث أثناء العرض والكتابة عن هذا كله بأسلوب أقل ما يقال عنه أنه أبعد ما يكون عن نزاهة النقد.
والحقيقة أن روح العداء للمسرحية لم تبدأ بفكرة عرضها على المسرح بل بدأت قبل ذلك عندما أفسح المجال لباكثير أن ينشرها مسلسلة في مجلة " الرسالة " (الإصدار الثاني) التي لم تكن في أيدي اليساريين. وآثر الزيات ومن ورائه عبده بدوي وعباس خضر تحمل تبعة نشرها الأمر الذي أثار سخطهم عليهم وأدى إلى إيقافها وإيقاف غيرها.
ومن هنا نجد أنه لم يكن مستغرباً بعد نشر المسرحية ومعرفة مضمونها التخطيط المسبق لإسقاطها وتشويه صورة المؤلف من خلالها بل وإسقاط تاريخه الفني كله بسببها.
تقريران سريان
ولقد حصل باكثير على التقرير السري الذي كتبته لجنة القراءة الأولى، فقد عثرت بين أوراق مكتبه على ملف يحتوي بعض ما نشر عن المسرحية من هجوم وعلى تقريرين كتبهما رجاء النقاش وفتحي غانم، أجاز الأول المسرحية وأثنى عليها ورفض الثاني المسرحية وطعن فيها.
ولعل أهم ما كتب من نقد أو على الأصح من هجوم على مسرحية " حبل الغسيل " هو المقال الطويل الذي كتبه محمود أمين العالم في مجلة " المصور" العدد الصادر في 20 أغسطس (آب) 1965م.
إن من يقرأ مقال العالم لأول مرة يعجب به ويكاد يصدق ما فيه فقد اصطنع صاحبه أسلوباً ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. ولا عجب أن يكون العالم أكثر ذكاءً من فتحي غانم لأنه " الأستاذ " فلم ينزلق إلى ما انزلق إليه فتحي غانم من هجوم مباشر واستعداء سافر للسلطة على المؤلف المسكين لكن العالم أراد أن يحقق نفس الأهداف لكن بأسلوب يصطنع اللطف والحرص على المؤلف وإن كانت خانته بعض العبارات القاسية فعبرت أصدق تعبير عن ما يغلي في نفسه.
فقد مال العالم إلى المبالغة في تضخيم العيوب وتهويل الاتهامات وإلغاء المحاسن تماماً وهو أمر لم يكن متوقعاً من كاتب كبير مثله.
وقد رد باكثير على مقال العالم نشر في مجلة " المصور " في 3 ديسمبر (أيلول) 1965م ورد العالم في الأسبوع الذي يليه على رد باكثير ونشر الرد.
وتعتبر المعركة انتهت بالنسبة للقارئ إذ ذاك عند هذا وكنت عند هذا الظن لولا أنني وجدت رداً لباكثير على آخر ما كتبه العالم مطبوعاً على الآلة الكاتبة وبتاريخ 13 سبتمبر 1965م وعليها توقيع تسلم من سكرتارية تحرير المصور بتوقيع " إحسان جاد " وقد كتب تحتها " تسلمت الأصل للنشر في العدد القادم " ثم وعلى عبارة " للنشر في العدد القادم " شطب. لولا أنني وجدت هذا لظننت أن باكثير لم يرد. ولولا أنني رأيت توقيع تسلم موظف " المصور" لنص الرد لظننت أن باكثير كتب الرد لكنه لم يرسله لكنهم تسلموا الرد ولم ينشروه وهذا دليل على انحياز الصحافة لطرف. وقد أدى ضيق الأفق هذا إلى خسران الفكر والصحافة لمعركة بين كاتبين من أهم كتاب المرحلة كان من الممكن أن تمتد وتعبر عن روح العصر أصدق تعبير بصرف النظر عن موضوعية المعركة وموضوعها.
كنت أتمنى أن أصدق براءة محمود أمين العالم من دم باكثير عندما تآمر عليه القوم الذين يحسبون كل صيحة عليهم... كنت أتمنى أن أصدق ما زعمه في مقاله عن " حبل الغسيل " بأنه لا يعرف مأساة باكثير مع " المسرح القومي " ولا يدري لماذا لا ترى مسرحيات باكثير النور.
كنت أتمنى أن أصدق هذا كله وأعتبره مفكراً حراً لا يعادي من يختلف معه في المبدأ بل يحترمه، وناقداً نزيهاً ينصف العمل الفني حتى ولو كان كاتبه خصمه. لكن للأسف ضاعت هذه الأمنيات حين سلمتني أسرة باكثير في القاهرة صورة خطاب مكتوب على ورق رسمي للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بتاريخ 22/9/1971م يحمل رقم 1006 من يوسف السباعي إلى رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأليف والنشر. ومن الواضح أن الخطاب كتب بعد وفاة باكثير وتغير الأحوال السياسية في مصر بعد وفاة عبد الناصر.
والعجيب أن الخطاب ليس مبادرة من يوسف السباعي أو من هيئة أدبية أو ثقافية وإنما هو استجابة لنداء من جهة لا علاقة لها بالأدب وهو " مؤتمر القيادات السياسية والنقابية لعمال الدواء " فلا بأس أن يطالب عمال الدواء بعلاج الأمراض في الحياة الثقافية وإنصاف المظلومين من الأدباء، وقد ناقش مؤتمر عمال الدواء مسرحية " سر الحاكم بأمر الله " وقد أدت هذه المناقشة إلى عرضها على المسرح في نفس السنة. كما يفيد الخطاب أيضاً أنه رشح لجائزة الدولة التقديرية في حياته لكنه لم يعطها لأسباب معلومة.
ويتطرق الخطاب إلى نقطتين تشيران إلى العالم بإصبع الاتهام. إذ تطالب النقطة الأولى بإخراج مسرحية " أخناتون ونفرتيتي " من مخازن دار الكتاب العربي، دار النشر الحكومية الرئيسية في مصر، فقد طبع منها عدة آلاف وقبض باكثير مكافآتها ثم خزنت في المخازن سنة 1967 ولم تخرج إلى النور !!
والنقطة الثانية تطالب بدفع مكافأة " الدودة والثعبان " لورثة باكثير فالمسرحية طبعت سنة 1967م أيضاً وصرفت مكافآت جميع المؤلفين ما عدا باكثير.
سخرية وتهكم واستهتار
وعلى هذا نستطيع أن نعتبر مقال محمود أمين العالم عن " حبل الغسيل " تدشيناً لحملة لم تطل باكثير وحده وإنما كل الأدباء الذين اختلفوا مع الذين يؤمنون بمقولة " إن لم تكن معي فأنت ضدي ". وهكذا تتابعت المقالات والأخبار في الصحف والمجلات تهاجم المسرحية بحقد وغضب دون أي مناقشة فنية أو موضوعية وأثبتوا بحق أنهم فعلاً جماعة الديوك التي فضحتها المسرحية فقد لعبوا دورهم الذي رسمته المسرحية بالضبط فهذا الدكتور أمين العيوطي يكتب مقالاً في " مجلة المسرح " سبتمبر 1965م العدد 21 بلغة فيها من التجريح والسخرية بشكل لا يليق به كأستاذ أكاديمي.
وهكذا وجد الذين سرقوا الثورة وتاجروا في الشعارات هذه المسرحية خطراً على الثورة والاشتراكية والأمن والوحدة الوطنية. وأصبح باكثير متآمراً وعدواً ولا يعرف فن كتابة المسرحية، ذلك لأنهم أحسوا بخطر المسرحية عليهم وكشف حقيقتهم. وإلا كيف سيهضمون كلاماً على لسان ميرغني المخرج المسرحي الذي ارتد عن الشلة وأصبح يكشف أسرارها حين يقول :
" يخيل إلي أن الصحافة دخلها جماعة من الناس أنشأوا في ما بينهم شبه حزب رسمي وغير مشروع في بلد ليس فيه أحزاب. وعن طريق الصحافة وتحت ستار الاشتراكية العربية، وضد المثل الأدبية والقيم الروحية التي تدعو إليها الاشتراكية العربية ! ".
فليس عجباً أن يجند القوم رجالهم في الصحف والمجلات للتشهير بالمسرحية ويكتبون بأسمائهم الصريحة وبدون أسماء واتحدت قلوبهم عليها بعد أن أحس كل واحد منهم أنها تمسه شخصياً وتكشف حقيقته وتعريه أمام الجمهور.
الآن أظننا بحاجة إلى الوقوف لحظات قلائل لتأمل الشكل الفني لمسرحية " حبل الغسيل " التي تكالب عليها كل هؤلاء هجوماً وهجاءً بحجة القصور الفني.
فالمسرحية تحتوي على مجموعة من الأحداث والخطوط التي لا تجمعها وحدة حدث بقدر ما تجمعها وحدة فكرة. فأحداث المسرحية تدور في محيط ثلاث دوائر أساسية وهي عائلة أبو حنفي الكواء وعائلة أبو الديوك مدير مسرح النهضة وعائلة عبد الواسع بلعوم مدير الجمعية الاستهلاكية والعائلات الثلاث تعيش في إطار مكاني واحد. والمفارقة الدرامية تتجلى أولاً في هذه الأسر الثلاث التي سكنت هذا الربع منذ خمسة وعشرين عاماً وبدأت بمستوى معيشي واحد تقريباً ويحيط بهم جميعاً سور حوش الربع ـ الذي يمكن اعتباره رمز الوطن بكل ما يحتويه سور الوطن من تناقضات ومؤامرات ـ فقد وصل الأمر أن تنكر كل من بلعوم الذي أصبح مديراً لجمعية استهلاكية وأبو الديوك الذي أصبح مديراً لمسرح تنكرا لجارهم الكواء الذي آواهم فقراء بعد أن ملكوا الأطيان وانتفخت كروشهم من رزق أمثاله من الفقراء فتنكروا له وأرادوا تحويل الحوش الذي ينشر فيه الملابس مصدر رزقه إلى حديقة يشمون فيها النسيم.
لو أنصفوا لرأوا
ولو تأمل أساتذة النقد العقائديون الذين اتخذوا من قضية الشكل الفني في مسرحية " حبل الغسيل " قميص عثمان لمهاجمتها لوجدوا أن البناء الدرامي فيها لا يقوم على المعنى التقليدي لوحدة الحدث ولا على التتابع المترابط للأحداث بالمفهوم الأرسطي. لو حاولوا مثلاً رؤية الشكل الفني بتجرد ونسوا مضمون المسرحية الذي أعماهم اختلافهم معه عن رؤية الحق ـ وقارنوا المسرحية بالشكل الملحمي الذي يعرفونه جيداً ويعجبون به عند صاحبهم بريخت المسرحي الشيوعي الألماني لربما وجدوا هناك تشابهاً يخفف قليلاً من نار غضبهم.
ولا أدعي هذا الاكتشاف فقد سبقتني إليه سنة 1980م باحثة في جامعة القاهرة هي مديحة عواد سلامة التي كتبت رسالة الماجستير عن مسرح باكثير وتعرضت لقضية الشكل الفني في " حبل الغسيل " وردت على مبالغة محمود أمين العالم في تحامله على المسرحية واتهامه لها بأنها عديمة البناء " مجموعة من الاسكتشات والتعابير المباشرة " ولا أظن الباحثة تتجنى على العالم أو تحابي باكثير في بحث أكاديمي أشرفت عليه أستاذة جامعية عريقة هي الدكتورة سهير القلماوي.
والحقيقة أن باكثير لم يصمت ولم يستسلم ولم ينهزم بعد معركة " حبل الغسيل " بل ارتفع صوته وعلت همته فقد عكف على كتابة مسرحياته التي تركها مخطوطة وهو يعلم أنها لن تعرض في حياته وربما لن تنشر ما دامت شلة " أبو الديوك " تعيث فساداً في الحياة الأدبية والمسرحية، في الوقت الذي ظن فيه القوم أنه لن يرتفع له صوت بعد " حبل الغسيل " الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد برأي عباس خضر الذي يرى أن الشلة مررت المسرحية وأوعزت إلى مجموعة من المخرجين والممثلين برفضها حتى يساء تمثيلها وإخراجها ليتعاوروها بعد ذلك بسيوفهم ويخرجوا بعد ذلك إلى الناس يقولون هذا هو باكثير فهل أدركتم الآن لماذا لا نوافق على عرض مسرحياته. وقد كان ! (مجلة " الثقافة " عدد 52 ـ 1987م).
ومع ذلك فقد استمر باكثير يندد بهم من أعلى المنابر وفي كل فرصة تتاح له خاصة عندما يجد نفسه أمام السؤال المتكرر: أين مسرحياتك ؟!.
الموت حسم خياراته الأخيرة
بعد معركة " حبل الغسيل " وصل الأمر إلى إيقاف باكثير حتى عن الذهاب إلى مقر عمله، فقد كان يشغل وظيفة مدير الرقابة على المصنفات الفنية بوزارة الثقافة ثم طلب منه فجأة بخطاب مؤدب أنه لم يعد هناك داع لحضوره إلى مكتب عمله وإن ما ترغب الوزارة في اطلاعه عليه لإبداء رأيه سيرسل إليه في منزله وبالطبع لم يرسل إليه إلا القليل في البداية ثم انقطع الإرسال وإن استمر راتبه يصرف له حتى وفاته !
ولقد كتبت العشرات من الأقلام النظيفة عن الحصار الرهيب الذي تعرض له باكثير في سنواته لكن معظم هؤلاء كتبوا بعد وفاته وبعد سقوط قادة الحصار من منابرهم لأن أحداً في عهدهم لم يكن يستطيع أن يكتب وإن كتب، لم يجد من ينشر له.
وفي هذه الفترة عكف باكثير على الكتابة وأصبح يلزم مصيفه رأس البر لعدة شهور يكتب هناك ويتأمل بعيداً عن ضوضاء القاهرة وأحقادها. لكن المطاردة وصلته حتى إلى رأس البر إذ حرم من شقته بسبب إفراطه في الطيبة والوطنية في عالم يسوده لئام.
فبعد هزيمة 1967م لبى باكثير نداء الدولة للتطوع بإخلاء شقق المصطافين في رأس البر لصالح المهجرين من المدن التي دمرتها الحرب كالسويس والإسماعيلية وكان باكثير من أوائل من سلموا شقتهم مؤثراً مواطنيه على نفسه. ثم يكشف باكثير أن شقته قد سلمت إلى طبيب يملك عدة شقق في رأس البر ويكتشف أن هذا الطبيب هو الذي أسعفه مرة في رأس البر بعد إحدى نوباته القلبية وأعجب بسعة الشقة وموقعها فما إن حانت الفرصة، حتى استعان بالذين يتعاونون على الإثم والعدوان لاغتصابها.
وبدأ باكثير يفكر جدياً في الهجرة من مصر حين لم يجد مسرحاً يعرض مسرحياته ولا ناشراً ينشر كتبه ولا مجلة أو صحيفة تنشر له أو عنه ولا حتى مصيفاً يصطاف فيه. ويروي صديقه الدكتور عبده بدوي أن باكثير كان يقول له دائماً:
" سأهاجر إلى بلادي، لأن أكون راعي غنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة "
ويقول له:
" أنا مت حين أبعدت عن المسرح ولكني لم أدفن بعد ".
ولم يهدأ خاطره إلا بعد أن زار وطنه الذي استقل في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1967م.
وهكذا طار باكثير إلى عدن في مايو (أيار) 1968 ومنها إلى حضرموت بعد غياب دام خمسة وثلاثين عاماً وأمضى هناك شهراً في الوطن الذي استقل واستعاد ذكريات صباه مع من بقي من رفاق الصبا. ولكنه عاد غاضباً مما رآه في عدن من تصرفات الجناح اليساري من الجبهة القومية الذي بدأت تفوح منه روائح ماركسية صريحة.
وفي سنة وفاته بدأ باكثير يفكر في الخروج من مصر لكنه لا يلبث أن يتراجع. وقد تلقى عروضاً من مؤسسات ثقافية في الكويت ولبنان وبدأ يضع احتمالات الإقامة النهائية في لندن ليكتب بحرية دون أن يكسر قلمه أحد وخاصة أنه قد تلقى عرضاً من جامعة لندن سنة 1962م للتدريس فيها بقسم الدراسات الشرقية والإفريقية الذي كان يرأسه المستشرق سارجنت الذي كتب عدة كتب عن حضرموت وأمضى فيها سنوات.
وقد لاحت الفرصة مرة أخرى سنة 1969، عندما تمكن باكثير من زيارة لندن التي وصلها من تركيا في أول يونيو (حزيران) أي قبل وفاته بخمسة أشهر، وهناك التقى بسارجنت وقال له أن جامعة لندن ستحتاجه ابتداءً من العام الدراسي 1969 ـ 1970م كما تلقى عرضاً من إذاعة لندن للتعاون مع برامجها الأدبية والفكرية.
وما كاد باكثير يمضي خمسة أشهر في القاهرة بعد عودته من لندن يقلب الأمور ويعد العدة للرحيل عن مصر عندما يتذكر الحال الذي وصلت به فيها ثم يقرر البقاء فيها عندما يتذكر أن مصر فتحت له ذراعيها وحققت له أحلامه وأوصلت رسالته وصوته إلى كل مكان، فقد كان يردد لبعض أصحابه قوله:
" والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة ".
وفي العاشر من نوفمبر 1969م، وبينما هو في حيرته تلك، جاءه الموت على غير ميعاد ليقضي على حيرته ويجعل خيرته ما اختاره الله له وينقله إلى عالم أفضل وأعظم وأجل من لندن والقاهرة.
وقد أثار موت باكثير في النفوس شجوناً كثيرة وأحيا قضايا كادت تموت، فظهرت على السطح، وكتبت عشرات الأقلام عنه.
باكثير وأحمد عباس صالح
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن الأستاذ أحمد عباس صالح يعترف بتوجيه باكثير له وفضله عليه وهو من الذين اختلفوا مع باكثير فكرياً عندما كبر واشتهر.
فقد كتب في استراحة " الشرق الأوسط " عدد 4640 بتاريخ 12/8/1991م مقالاً بعنوان " أساتذة كبار جداً " يقول فيه:
" كنت قد تعلقت بالشعر منذ المراهقة كأغلب الشباب في هذا الوقت ولم يعقني من الاستمرار في نظم الشعر إلا الكاتب المسرحي والشاعر علي أحمد باكثير. قرأ شعري واستمع إليه ثم قال لي:
" ليس مجالك الشعر إنك تفكر كثيراً والشعر يحتاج إلى عاطفة.. عليك بالنثر. وبعد أن استمعت إليه غاضباً ـ بيني وبين نفسي ـ اقتنعت وإن احتاج هذا إلى وقت طويل ".
وقد التقيت الأستاذ أحمد عباس صالح منذ عامين عندما حضر مهرجان الجنادرية بالرياض وتحدثنا عن باكثير، وعندما عاد إلى لندن، كتب في استراحة " الشرق الأوسط " عدد 4836 بتاريخ 21/ 8/1412هـ مقالة وفاء بعنوان " علي أحمد باكثير" شهد فيها لباكثير بالأستاذية وأنصفه ـ بالرغم من أنه كان محسوباً على اليسار آنذاك ـ فكتب عندما عرضت عليه مسرحية لباكثير وكان عضواً في لجنة قراءة:
" وعندما عرضت علي مسرحية باكثير لإقرارها، كتبت عليها تعليقاً: إن كتاب المسرح الكبار الذين جعلهم جمهور المسرح كباراً لا يجوز أن يراجعهم أحد وينبغي أن تدخل المسرحية فوراً إلى التنفيذ...".
وللأستاذ أحمد عباس صالح مقالات نقدية عدة عن مسرحيات باكثير تأثر معظمها بالاتجاه الفكري الذي كان يصدر عنه في ذلك الوقت وباندفاع الشباب. فهو يروي في مقاله الذي أشرنا إليه آنفاً:
" وكان لباكثير مسرحية معروضة في مسرح الأوبرا القاهري ولا أذكر ما إذا كانت " مسمار جحا " أم مسرحية أخرى وكان اسم باكثير يسطع في سماء الحركة المسرحية وظننته شاباً مثلي ورحت آخذ بيده لأريه الطريق الصحيح لكتابة مسرحية صحيحة من خلال نقدي المنشور ذاك !!".
وقد وجدت مقالاً بين أوراق مكتب باكثير للأستاذ أحمد عباس صالح عن مسرحية " مسمار جحا " لم يوثقه باكثير للأسف بكتابة اسم المجلة وتاريخ النشر. فإن كان هذا هو المقال الذي يقصده، فقد كان المقال الوحيد الذي شذ عن اجتماع النقاد في تقدير الدور الوطني لمسرحية " مسمار جحا " كما سبق أن رأينا. فقد تعسف في تفسيره للمسرحية إذ اتهم باكثير دون بقية النقاد بأنه يقبل مهادنة الاستعمار من خلال رؤيته للعلاقة بين جحا والحاكم في إطار كلام آخر كثير لم يعد له محل من الإعراب.
والأستاذ أحمد عباس صالح ينكر اضطهاد باكثير الذي ناقشته فيه أثناء وجوده بالرياض ويقول:
" ولكني أختلف مع هذا في الرأي لأن باكثير لم يفقد مكانته في الهيئات الرسمية ولكن باكثير لم يلحظ التغير الذي طرأ على مزاج الجمهور والقضايا التي تشغل أذهان الناس في هذا الوقت...".
وهذا كلام عجيب مردود عليه لأن أعمال باكثير كما رأينا، كانت من أكثر الأعمال المسرحية ارتباطاً بقضايا الأمة قبل الثورة وبعدها ولكن التغير الحقيقي لم يطرأ على مزاج الجمهور ولكن على مزاج القوم الذين جعلوا من أنفسهم وصاة على الجمهور فمنعوا عنه ما لا يتفق مع مزاجهم.
باكثير ورجاء النقاش
من واقع رسالة طويلة في أربع صفحات من رجاء النقاش إلى باكثير " الفنان صاحب أوديب " بدون تاريخ، لكن من تطرقها لمسرحية " سر شهرزاد " نفهم أنها كتبت سنة 1951م تقريباً حين كان رجاء النقاش لا يزال شاباً مغموراً يلتمس طريقه في دنيا الأدب والفن. ولغة الرسالة تنم عن عشق وإعجاب بباكثير وأدبه. فقد وجد الشاب رجاء النقاش نفسه يفتقد معنى الفن في عصره وبين معاصريه ويشكو :
" أننا نخلط الفن بأشياء كثيرة ولا نستطيع حتى الآن أن نتصوره منفصلاً عن هذه الأشياء " ثم يقول إنه يجد شخصية الفنان في باكثير وحقيقة الفن في أدبه ولذلك فهو يقول له:
" .. ذلك لأنك كفنان تعي مفهوماً سليماً للفن وتعيش هذا المفهوم في شخصيات مسرحياتك وتحققه تحقيقاً متطوراً يؤكد سلامة العنصر الذي فيك ".
والرسالة في مجملها عبارة عن محاورة مريد لشيخه أو تلميذ لأستاذه يطرح قضايا ويعبر عن رأيه فيها ويبدي إعجابه ومحبته لفن أستاذه. اسمعه يقول:
" ... أعلق على وجودك بيننا أملاً وأهمية تؤكد لي إمكانياتك كفنان مخلص لفنه إنك من هذا الطراز من المبدعين الذين ترتبط بهم آمال ليست عسيرة التحقيق.. كل شيء يؤكد أنها آمال ستتحقق ".
والحقيقة أن رسالة رجاء النقاش تعتبر بصدق قطعة فنية رائعة وهي تأمل في محراب الفن الذي يسكنه باكثير.
ولقد كان باكثير بالمثل معجباً بالناقد الشاب رجاء النقاش ومعلقاً عليه آمالاً كبيرة في إثراء الحركة النقدية. وقد أثنى على الناقد الشاب في حديث له بجريدة " المساء " في عدد 4 مارس 1963م أي بعد كتابة رجاء النقاش لرسالته له بأكثر من عشر سنوات.
وأتمنى أن يكون الأستاذ رجاء النقاش قد قال كلمة حق في مسرح أستاذه ورؤية نقدية له أو عليه المهم أن لا يكون قد صمت وتفرج على مأساة الأستاذ الذي علق عليه آمالاً كباراً. أرجو أن لا يكون ذلك هو الحقيقة ويظل لنا دائماً في رجاء رجاء حتى لا تكون هذه " الرسالة " هي الرجاء الوحيد!
باكثير ويوسف القعيد
والقاص الأستاذ محمد يوسف القعيد يأتي بعد دفعة رجاء النقاش. ففي سنة 1963 كان لا يزال شاباً مغموراً يتحسس طريقه محتاراً في أي اتجاه أدبي يسير وفي أي جنس من أجناس الأدب يكتب. تقبع في مكتبته عدة أعمال أدبية مخطوطة ولا أمل في نشرها. وفي هذه الفترة التقى بباكثير والتمس عنده النصح والتوجيه فقد وجد في باكثير ما لم يجده عند غيره فقد اجتمعت في إهاب باكثير الأجناس الأدبية التي يحتار القعيد في التوجه لأي منها. وبين يدي رسالة بعث بها القعيد إلى باكثير في 5/12/1963م قبل أن يعوم في بريق القاهرة، إذ كان لا يزال بالريف مدرساً بمدرسة الرزيمات محافظة البحيرة.
والرسالة بالطبع رسالة تلميذ يلتمس عند أستاذه التوجيه وهي تختلف عن رسالة النقاش لباكثير، فرسالة النقاش كانت رسالة إعجاب وتأمل ومريد يحض شيخه على الحوار والمناقشة. كان النقاش قد بدأ يعرف طريقه أما القعيد،فلم يكن تعرف عليه بعد. وهو يستفتي باكثير في أمرين: أولهما الأزمة التي يسببها الفارق بين الواقع الحضاري والواقع المعاش وهل يحل هذه الأزمة الاتجاه للكتابة التاريخية كما فعل باكثير نفسه أم الرمزية في الرواية بالطبع وماذا يفعل ؟ وثانيهما يستفسر إن كان يجوز له أن يمارس أكثر من جنس أدبي فهو محتار على أي الأجناس يستقر. ويدعو باكثير إلى التفضل بقراءة أعماله الروائية التي لا يعتقد أنها ستنشر في يوم من الأيام (!!).
ولا أدري ما الذي حدث بين التلميذ وأستاذه بعد ذلك لأنني لم أعرف للقعيد كلمة يذكر بها أستاذه وحبه له وإعجابه به.. أستاذه باكثير الذي فضله على كل " الأساتذة " واعتبره الحرز المكين الذي يضع بين يديه آلامه المتمثلة في رسالته تلك فهو يقول:
" فالرسالة التي أكتبها تحمل قضايا أضيق بها كثيراً ولا أجد سوى الأساتذة ـ أساتذتي لكي لكي ألجأ إليهم.. ماذا أفعل يا سيدي وآلامنا هي أعز شيء لدينا ذلك لأننا لا نقبل أن نضعها إلا في أكرم المواضع ولا نفرغها إلا في أشرف الأمكنة وبين أيدي الأساتذة العظام !!"!
لا أدري إن كان أخي العزيز الأستاذ القعيد لا يزال يذكر هذه الرسالة ويذكر باكثير " الأستاذ العظيم" فقد كان باكثير أول من نصحه بالاتجاه إلى الريف والاهتمام بقضاياه وفتح له صدره وجلس معه ووجهه. وقد ينسى المرء أساتذة كثراً يمرون عليه في حياته لكنه لا ينسى أوائل من أخذوا بيده وتعلم منهم. وقد كان باكثير بالنسبة للقعيد من هذا النوع كما يتضح من رسالته. وأنا أعرف أن القعيد فلاح وابن قرية وفي الفلاح أصالة، وابن القرية يحفظ الود والوفاء أكثر من غيره، ولذلك أسأل هل تذكر الأستاذ القعيد -بعد أن كبر وعرف الطريق- أستاذه الأول وهل ذكره بكلمة طيبة إنسانياً على الأقل إن كان قد اختلف ـ بعد أن كبر ـ مع اتجاه أستاذه فكرياً وفنياً وهذا ليس عيباً فما أكثر ما يختلف التلاميذ مع أساتذتهم ؟!
أتمنى أن لا يخيب ظني في وفاء التلميذ لأستاذه.
قصة وفاء باكثير
مات علي أحمد باكثير حزيناً مقهوراً ومنكسر الفؤاد... مات فجأة إثر نوبة قلبية حادة في اليوم الأخير من شعبان سنة 1389هـ الموافق العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1969م وذلك في منزله رقم 111 شارع الملك عبد العزيز آل سعود المطل على النيل بمنيل الروضة قبل أن يتم الستين من عمره بشهر واحد.
ورغم أن رحلته مع المرض كانت طويلة، فإنها لم تكن خطيرة. فقد كانت معاناته الأكثر من الذين حاربوه في سنواته الأخيرة بسحب الأضواء منه والعمل على حجب أعماله وكسر القلم في يده. ومع ذلك فقد كان يستعين بإيمانه في رفع معنويات روحه. ولكن لما انعكست آثار الحرب النفسية على جسده، لم يستطع قلبه أن يقاوم طويلاً، بالرغم من أن الدواء كان رفيقه الثالث بعد القلم والورق حتى أدمن عليه وأصبح يحبه.
ومع ذلك، فقد كان الناظر إليه لا يجد على مظهره آثار مرض. إلا أن جسده كان ضعيف المقاومة وحساساً لأقصى درجة. فقد جاء من حضرموت هزيلاً يحمل التهابات المعدة والقولون والديسنتاريا وقضى على الأخير في مصر وظل يعاني التهابات المعدة. وليس هذا بغريب على شاعر مرهف الإحساس مثله، فمشاكل المعدة بدأت معه في أعقاب صدمته بوفاة زوجه الحضرمية الشابة.
ولم يكن باكثير يحب تغيير الأطباء رغم حرصه على الدواء والعلاج. فقد قامت بينه وبين الدكتور أحمد حافظ موسى ـ طبيب الأمراض الباطنية المعروف في باب اللوق ـ علاقة متينة من كثرة تردده عليه منذ أول وصوله مصر. وكان الدكتور أحمد حافظ قارئاً ممتازاً محباً للأدب قرأ أعمال باكثير فاستعان بها على دراسة مريضه ومعالجته.
وفي سنة 1958م خلع باكثير كل أسنانه واستبدل بها تركيبة غير ثابتة. فقد أشيع في تلك الفترة أن مشاكل الأسنان تسبب السرطان على المدى البعيد. ثم وجدت في مذكرات جيبه بعض الوصفات الطبية لصديد الأسنان. ولا يزال الأستاذ عمر العمودي يحتفظ بطقم أسنان الأديب الراحل.
أما التدخين، فقد أبتلي به باكثير حين بدأ يكتب في القهاوي ولم يستطع الامتناع عنه رغم يقينه من ضرره على معدته وقلبه. وقد استبدل بالسيجارة في أوائل الستينات تدخين الغليون الذي اشتهر به. فقد أعانه الغليون على التقليل من التدخين إذ يظل باكثير ممسكاً بغليونه لعدة ساعات دون أن يشعل فيه عود ثقاب !
أما إصابته بأول نوبة قلبية، فقد حدثت له وهو في رأس البر صيف 1961م. وكان واضحاً أن إصابته بالقلب كانت نتيجة لتوتره الدائم بعد ابتداء الحصار عليه منذ سنة 1958. وكان من الطبيعي أن يزداد باكثير توتراً في المواسم المسرحية وهو يرى مسرحياته تموت في أدراج مكاتب لجنة القراءة وتعرض أعمال من لا يرقى إلى مستوى قلمه ومكانته وفكره. وتكررت بعد ذلك الأزمات القلبية وقد أصيب سنة 1965 بأكثر من نوبة قلبية في أثناء وأعقاب محاولة تلطيخ تاريخه الفني والأدبي والتقليل من مكانته بالمعركة التي أثاروها حول مسرحية " حبل الغسيل ". وجاءت هزيمة سنة 1967 لتقضي على ما تبقى في قلب باكثير من أعصاب الاحتمال إذ خاب أمله في من يعتقد أن فيهم بصيص أمل.
وفي سنة 1968 أصبحت معاناته من النوبات القلبية واضحة على ملامحه وسير حياته وحركته. إذ كان يعاني الإرهاق الشديد في المشي والسباحة، وطلب منه الأطباء التقليل من المسافة التي يمشيها. كما ظهرت عليه حالات إغماء خفيفة لعدة ثوان لا يكاد يشعر بها في حينها ولكنه كان يلحظ آثارها عليه.
وقد تمنى باكثير أن يموت في يوم اثنين تأسياً بشفيع هذه الأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي مات يوم الاثنين. وكان يقول لأسرته أنه يتوقع أن يموت يوم اثنين وإنه لن يعمر طويلاً. وروى لي الأستاذ العمودي أن باكثير بعد كل أزمة ينظر إليه باسماً ويقول:
ـ لا تظن يا عمر أنني أخاف الموت.. الحقيقة أنني أريد أن أعيش حتى أتم مشروعاتي الأدبية التي أزمع كتابتها.
ثم تكسو وجهه سحابة كدر وهو يقول دون أن ينتظر جواباً:
ـ الحقيقة أن مشروعاتي الأدبية لن تنتهي.. إنها كثيرة !!
ويضحك باكثير بسخرية ومرارة .
وبالفعل حقق الله أمله فمات يوم الاثنين.
وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً، في اليوم الأول من رمضان 1389هـ الموافق الحادي عشر من نوفمبر 1969م شيعت جنازة باكثير إلى مثواه الأخير ودفن في مقابر أسرة زوجته المصرية بالإمام الشافعي وحضر تشييع الجنازة شخصيات رسمية ودبلوماسية وطائفة من رجال الأدب والفن في مصر.
ومن المعروف أن الأديب الراحل لم ينجب من زوجته المصرية وإن كان قد تبنى ابنة زوجته واعتبرها ابنته، ولكن لم يكن في بيته من يحمل اسمه.
وقد ربطت باكثير بعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة صلات حميمة وخاصة أنور السادات ومحمد نجيب اللذين عرفهما قبل الثورة واستمرت صلتهما به إلى ما بعد الثورة. فقد كان السادات يزور باكثير في منزله واستمرت الصلة بعد أن تولى السادات دار " الهلال " بعد الثورة. وقد أخبرني الأستاذ العمودي أن السادات كان يتصل بباكثير كثيراً بالهاتف ويقرأ عليه مقالاته خاصة الأدبية والفكرية قبل نشرها ويستشيره في بعض الأمور وإن قلت زياراته في ما بعد لانشغاله.
وقد وجدت بين أوراق باكثير بطاقة تركها السادات مرة على باب شقة باكثير عندما لم يجده. وقد حفظ السادات الود لباكثير. وعندما تولى الرئاسة بعد وفاة باكثير بسنة تقريباً، لجأت إليه أسرة باكثير.