أخرج عن فزعي في مواسم السجون
أخرج عن فزعي في مواسم السجون
فاطمة محمد أديب الصالح
كم هو مؤسف أن موسمكم، أيها الذين غادرتم سجوناً موسومة رسمياً بهذا الاسم، في العراق وفلسطين وبلاد عروبة أخرى (أعني البلاد)، فاجأني.
ما ظننت أن يهلّ علي موسمكم/ موسمي بهذه السرعة وهذه السهولة، لست جاهزة بعد، وكيف أكون جاهزة ولمـّا يمض عامان بعد على حرية معتقلي/ أسيري/ موقوفي، استطعنا خلالهما أن نعود، بوصفنا زوجين قديمين، إلى الحياة التي تصنَّف هنا عندنا، في أوطاننا، وفي كثير من الأوطان على أنها الأصل الطبيعي الذي ننشده جميعاً، فالأسرة في حسّنا الفطريّ الجميل، في ثقافتنا وأدياننا وثقافة معظم شعوب الأرض التي لا زالت أقرب إلى الطيبة، هي تلك المكونة من رجل وامرأة..
جميل هذا الاعتراف، يسعدني أني استطعته، اعتراف تعلمنا بحزم شديد ألا نبوح به حتى لأنفسنا: أنه لابد لكَِ في الحياة من رجل أو امرأة..
ألسنا نخلق أنصافاً ثم نذرّ في الأرض، ليبحث كلٌّ عن نصفه المكمّل له؟
*
موسمكم داهمني، وفتحت السجون للتصوير والتحليل والدرس..
فنحن قادرون على الإثارة وشدِّ أعصاب المشاهد وبصره ..
نحن الذين طوّرنا من هوليوود نسخاً واقعية خفية لم تستطع التواري إلى ما لا نهاية.
وبلغت الشجاعة والمرارة، وربما محاولة الاستشفاء من بعضكم، أن ظهر على الشاشات المزوَّقة جداً، يصوِّر أساطير التعذيب، وخرافات المسوخ الإنسانية التي أوكل إليها تحويله إلى زبون في مقهى الكستناء، حيث جلس بطل جورج أورويل الشهير.. يستمتع حقاً بالقهوة، التي كانت دون طعم، قبل تدجينه في زنازين الأخ الأكبر، ويحدق في صورة ذلك الأخ التي تملأ جداراً، ويحبه!
ثمة، في أوطان عربية جدا، أخرى، من ينتظر فرصة مماثلة للحديث، قبل أن يخونه هرم الذاكرة، أو تغلق سجون لم يسمح لها بالبوح الذي تتمناه..
في النهاية تبدو متشابهة تماماً: تلك الأمكنة وتلك الأدوات..يبدو متشابهاً: أنين الأبواب وبشاعة الجدران وعتمة الزنزانات وعفونة الهواء، تبدو متشابهة ذكريات السجناء وما عاشوه من مآسٍ. . تبدو نسخة واحدة تلك الكائنات التي تقوم بالتعذيب بوصفه واجباً وطنياً، تعود بعده إلى أوكارها لتغسل أياديها من دم أو مزقة جلد..وتجلس إلى طعامها...
في النهاية بدا أن الإنسان(بوصفه يأكل ويتناسل وينطق) لا يحتاج إلى كثير من الإبداع والمغايرة، لكي يمارس قتلاً بطيئاً ليس القصد منه الإماتة دائماً..
في النهاية يتشابه كثيراً أولئك الذين بلغ من ضعفهم وخوفهم ألا ينجحوا في العيش (الذي وضعوا لأنفسهم بأنفسهم شروطه) إلا محروسين بالبطش، معوَّذين بخوفنا وانكسارنا وانتظارنا: هل تصدر عن شفاههم المقدسة، في مواسم أفراحهم المقدسة، تمتمات بعفو أو مرحمة؟
*
داهمني موسم السجن والسجناء..ولم أجهز بعد.. كنت أظنني أحق بالسبق وأحق بالشكوى، وأنا أسرد قصة سجيني وقصة سجن امتدّ بنا عشرين عاماً في حياة، أضحت بصورة سريعة ومفاجئة (إنها الروح الأمريكية)، مكشوفة معروضة معروفة متناثرة عبر سطور الفضاءات وسطور الأوراق.
وكنت، إلى ما قبل ثقافة غوانتانامو وأبو غريب( بوجهيها البعثي والأمريكي) أرى أنه لديّ ما أقول، وأني حين أقول فسأقول بصورة لا تدع في النفوس شكاً بوجوب معاودة التفكير في اختياراتنا، ووجوب الموازنة الأمينة الشجاعة ما بين أن(نحيا) إنسانيتنا.. وبين أن(نبقى) أجساداً صامتة منتظرة صابرة؛ نعذر أنفسنا بأنفسنا، ويعذر بعضُنا بعضَنا.. بدعوى أن فوز أجسادنا بالنجاة من أوجاع الجوع والبرد والجلد والصعق ومهانات أخرى لم تسمّها لغتنا بعد، أو قدرة سجيننا (هناك)على البقاء.. ما هي إلا نصر انتزعناه بمكر من بين براثن وأنياب(الظالمين)..
كنت.
هل صرنا نكمّلهم (أولئك الظالمين)..
نتبادل معهم ملذّات المنحرفين.. التي لا تتم إلا بشراكة .. ولا تكتمل إلا بطقوس من دمع ينزف ونثارات جلد يبكي وصرخات تبحث عن قرارة.
*
ربما يمثّل/ يرمز/ يكثّف/ يقنّن/ يوضّح السجن في بلادنا، أحوالها وأحوالنا.
آب(أغسطس) 2003
الرياض