علي أحمد باكثير في المدينة المنورة

د.محمد أبو بكر حميد

علي أحمد باكثير في المدينة المنورة

مراسلات ـ ومساجلات ـ وأسماء

علي أحمد باكثير

الدكتور محمد أبو بكر حميد

  يحتل علي أحمد باكثير (1328 ـ 1389 هـ) مركز الصدارة بين أدباء العربية الكبار في القرن العشرين، وهو الوحيد من أبناء جزيرة العرب في العصر الحديث الذي تفرد بتلك المكانة الكبيرة التي حققها بإنتاجه الغزير المتنوع والمتميز، فلم يكن باكثير شاعراً فحسب بل كان أيضاً كاتباً مسرحياً وروائياً ومترجماً وباحثاً، ورغم أنه قد جعل جلّ نتاجه المطبوع في المسرحية إلا أن ما وجدناه من شعره الذي بدأ نظمه منذ سن الثالثة عشرة ولم ينشره في دواوين يجعل باكثير الشاعر يوازي باكثير المسرحي، وإلى جانب هذا فأدب باكثير يسجل مجموعة من الريادات، إذ يجد دارس أي فن من الفنون الرئيسة الثلاثة: الشعر والرواية والمسرحية نفسه ملزماً بالوقوف عند باكثير فإليه تنسب ريادة الشعر الحر (التفعيلي) بترجمته لمسرحية (روميو وجولييت) سنة 1936م وتأليفه لمسرحية (إخناتون ونفرتيتي) سنة 1938م سابقاً بذلك من ظهر بعده ممن ادعوا ريادة هذا الفن لأنفسهم وقد اعترف له (السيّاب) بذلك في حياته، وفي الرواية سيظل باكثير علامة تحول أصيل في الرواية العربية التاريخية الإسلامية فهو أول من تعامل مع التاريخ الإسلامي بصدق وأمانة وكانت الرواية التاريخية على أيدي غيره من النصارى والمستغربين مثل روايات (جورجي زيدان) تشوه التاريخ الإسلامي وتسيء لشخصياته النبيلة وقيمه الخلقية الرقيقة وحسب باكثير أنه مؤلف " واإسلاماه " و " الثائر الأحمر" حيث استنهض همم المسلمين للدفاع عن أوطانهم في الأولى وتنبأ بظهور الشيوعية في العالم العربي وسقوطها في الثانية.

  أما عن المسرح فباكثير رائد المسرح السياسي في العالم العربي فهو أول من طرح قضايا العرب والمسلمين وناقش هموم الأمة على خشبة المسرح وقارع الاستعمار وحمل على الصهيونية وحذر من قيام دولة إسرائيل وضياع فلسطين قبل أن تسقط على نحو ما نجد في مسرحياته قبل سنة 1948م وخاصة مسرحية (شيلوك الجديد) التي ألفها سنة 1945م، وقد حظيت فلسطين في أدبه لمكانتها في نفوس كل المسلمين برقعة لم يحظ بها أي وطن إسلامي فقد كتب عنها أربع مسرحيات طويلة وما يزيد عن عشرين مسرحية قصيرة قبل قيام دولة إسرائيل وبعدها.

  وابتداءً من سنة 1943 تصدر باكثير المسابقات الأدبية ونال جوائزها واحدة تلو الأخرى وتربع على عرش المسرح المصري طوال فترة الأربعينات حتى أواخر الخمسينيات الميلادية، وكانت تفتتح المواسم المسرحية بأعماله، تعرض مسرحياته عشرات العروض ولمدة مواسم متتالية مثل مسرحيات " سر الحاكم بأمر الله " و " سر شهرزاد" و" مسمار جحا " وغيرها.

   وهكذا ظل باكثير بأعماله يتصدر مواسم المسرح المصري حتى سنة 1956م عندما تولى أحد الشيوعيين إدارة الفرقة المصرية للتمثيل (المسرح القومي فيما بعد) فمكن للعناصر اليسارية واستبعد أعمال مجموعة من الكتاب الوطنيين والقوميين وكان باكثير في مقدمة الكتاب المبعدين لوضوح رؤيته الإسلامية، ومنذ ذلك التاريخ بدأ شقاء باكثير وعذابه إذ سيطرت العناصر اليسارية على كافة منابر الثقافة في مصر وفي مقدمتها المسرح ولم يعرض لباكثير إلا القليل من أعماله وحورب هذا الأديب في كتبه ورزقه حتى مات كسير الفؤاد حزيناً في آخر يوم من شعبان 1389 هـ الموافق 10 نوفمبر 1969م، مات باكثير وهو يردد صرخته الشهيرة:

" لأن أكون راعي غنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة.. والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة " !!

  كان ذلك باختصار ما هو معروف عن حياة باكثير في مصر ولكن حياة باكثير قبل وصوله مصر ظلت مجهولة حتى وفاته؛ فقد كان رحمه الله أقل الناس حديثاً عن نفسه فلم نكن نعلم إلا أنه خرج من حضرموت إثر وفاة زوجه الشابة التي اختطفها منه الموت فجأة فهام على وجهه في عدن وبعض بلدان الحبشة واليمن محاولاً أن يسلو همومه وأحزانه فداوى في عدن أمراض جسده أما أحزان روحه فلم يجد لها شفاء، ومن شعره الذي يعبر بصدق عن واقع حاله قوله في قصيدة نظمها في عدن:

خفق الفؤاد  بما تذكر     فالنوم عن جفني منفّر

يا  ليل رفقاً بالغريب      نبا به وطن  ومعشر

خطف  الزمان حبيبه     وأذاقه الملح  المصبَّر

فمضى يجوب الأرض    جوباً علّه يشكو فيؤجر

  وهكذا وجد باكثير نفسه مشتاقاً للأراضي المقدسة لتغتسل روحه هناك من أحزانها تغرق في حب الله وتحلق بين الحرمين، وبالفعل وصل باكثير إلى الأراضي السعودية ونشرت جريدة " صوت الحجاز " خبر وصوله في عدد الاثنين الخامس عشر من ذي الحجة 1351هـ الموافق 1933م في الصفحة الأولى بعنوان " وصول شاعر حضرموت ".

  وقد أمضى باكثير في المملكة عاماً كاملاً تقريباً فقد وصل في السابع والعشرين من شوال 1302 هـ متنقلاً بين جدة ومكة والمدينة والطائف وقد اتصل بأدباء الحجاز الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الأدب السعودي الحديث وتوثقت بينه وبينهم عرى الصداقة التي امتدت جسورها حتى سفره إلى مصر. فقد ربطته في مكة وجدة صلات بكل من الأدباء عبد الله بالخير، ومحمد سعيد العمودي، ومحمد سعيد عبد المقصود، وحسين خازندار، وعبد اللطيف الجزار، وعبد الوهاب آشي، وحسين سرحان، وحمد الجاسر، وأحمد إبراهيم الغزاوي، ومحمد أمين كتبي، وعلي فدعق.. وغيرهم.

  وقد داوم باكثير على حضور حلقات الدروس في الحرم ودرس على يد كل من السيد محمد أمين كتبي في علم العروض والفلك وحصل على الإجازة في الفقه من السيد عبد الحي الكتاني كما درس علم الفرائض في حلقة الشيخ خليفة بن حمد النبهاني.

  ودارت بينه وبين أدباء مكة مساجلات شعرية وإخوانيات متبادلة أخص بالذكر منهم معالي عبد الله بلخير سكرتير الملك عبد العزيز وشاعر الملك محمد إبراهيم الغزاوي، وعلى سبيل المثال دعا الغزاوي باكثير لزيارته في بيته فلبى الدعوة فحياه الغزاوي بقصيدة طويلة مطلعها:

قد كدت من فرح iiأطير
أعـلـيُّ لـولا iiأنـني
لـوهـبتك القلب iiالذي


مـذ  زار داري باكثير
بالصفح مرتاح الضمير
أرواه  كـوثرك iiالنمير

  وعندما رد الغزاوي الزيارة حياه باكثير بقوله:

وافيت بالأدب الغزير    وطلعت بالوجه المنير

  إلى أن قال:

يا شاعر الحرمين بل     يا شاعر الملك الكبير

  ثم غادر باكثير مكة إلى الطائف في جمادى الأولى 1352هـ بعدما اشتد الحر وهناك في الطائف عرف كلاً من السيدين الشاعر محمد حسن فقي، ومعالي السيد حسن محمد كتبي وأقام في منزل السيد حسن كتبي وكتب فيه مسرحيته الشعرية الأولى "همام أو في بلاد الأحقاف " وتوثقت بينهما الصلة التي استمرت حتى وفاة باكثير.

  المهم أن باكثير شارك في الحياة الأدبية والاجتماعية في الحجاز في مكة وجدة والطائف والمدينة المنورة مشاركة صميمة ونشر في " صوت الحجاز " و " أم القرى " عدداً من القصائد والتقى بالملك عبد العزيز والأمير فيصل نائب الملك في الحجاز آنذاك فأحسنا استقباله، وقد فصلت الحديث عن صلاته في مكة وجدة والطائف في محاضرة ألقيت بنادي الرياض الأدبي في شهر رمضان1414هـ.

  قدم باكثير لزيارته للمدينة المنورة بمطولة شعرية تقع في أكثر من 250 بيتاً يعارض بها " نهج البردة " سماها " نظام البردة " أو " ذكرى محمد صلى الله عليه وسلم " وقدم لها بهذه الكلمات:

" إلى روح والدي الكريم

الذي لحق بربه في جوار نبيه إن شاء الله في الفردوس الأعلى.

أهدي هذه الذكرى

راجياً أن يقدمها بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم فهو في إحسانه وتقواه ورطابة لسانه بذكر الله أحق بتقديمها مني "

  والقصيدة طويلة وتحتاج إلى وقفة متأملة مستقلة لجوانب التقليد والتجديد فيها وقد طبعتها مؤخراً مكتبة مصر في كتاب مستقل، المهم أنه في هذه المطولة وضع بين يدي رسول الله هموم عالمه الإسلامي ودعا إلى انبعاث المسلمين وأشار إلى الداء وأوضح الدواء، وكان ذلك ما امتلأ به قلبه الشاب:

يا ويح قلبي بجنبي لا هدوء له     يجيش بالهم كالبركان بالحمم!

يئن  من ثقل  الآمال  تبهظه!      إن الهموم رسالات من الهمم

أرنو إلى (يعرب) والدهر يعرفها     رواية البؤس بعد العزِّ والنِّعم

تقاسمتها شعوب الغرب، تدفعها    إلى المهالك سَوْق الشاء والنعم

وأرمق (الدين) والأعداء توسعه     فتكاً يضاف إلى أدوائه القسم

يُكاد في داره ظُهر النهار على    مرأى العمائم من أهليه والعمم

 غادر باكثير الطائف من أول شهر جمادى الآخرة وأمضى شهر رجب في مكة ومن أول شعبان سنة 1352هـ وصل إلى المدينة المنورة، وكان نزوله أول ما وصل في بيت رجل كريم يحب خدمة زوار المسجد النبوي هو الشيخ عبد الله هب الريح حيث ورد اسمه في الرسائل المتبادلة بينه وبين أخيه عمر من حضرموت فوصفه في رسالة بقوله:

" إنه رجل دمث الأخلاق يخلص الإنسان عنده فيرى أنه في بيته ".

  وقد حدثني أستاذنا الشيخ عبد القدوس الأنصاري مؤسس المنهل ـ رحمه الله ـ أنه استضاف باكثير في آخر أيامه بالمدينة المنورة، وهكذا أقام باكثير بدار الأنصاري الواقعة في زقاق الحمزاوي بالمدينة المنورة حتى غادرها.

  وقد أمضى باكثير في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر من أول شعبان حتى آخر شوال محتفىً به من كل أهلها وفي مقدمتهم أدباؤها الكرام الذين اتصل بهم وقد وردت أسماء من اتصل بهم في رسائله وكراريسه وهم كالتالي من غير ترتيب:

·        عبد اللطيف أبو السمح

·        صالح الحيدري

·        أحمد الخياري

·        العلامة محمد الطيب الأنصاري

·        أسعد بخاري الحسيني

·        كامل خطاب

·        محمد الحافظ

·        سامي إسماعيل

·        جعفر جعفر

·        عبد الله هب الريح

·        عبد الله يماني

·        أبو بكر عبد المجيد خطاب

·        طاهر زمخشري وأخوه أسعد

·        عبد اللطيف بشناق الكتبي

·        عبد القدوس الأنصاري

·        عبد المجيد خطاب

·        أحمد مفتي

·        ناجي الخياري

·        محمد كردي وأخوه رجب

·        ضياء الدين رجب

·        صالح اليماني الفقيه

·        عبد الحميد عنبر خان

·        رضا جعفر

·        محمد كردي

  وقد جرت بينه وبين شعراء المدينة المنورة آنذاك مساجلات شعرية وقد حفظ لنا منها صاحب المنهل مساجلتين اثنتين كان مسرح المساجلة الأولى حديقة المرحوم عبد اللطيف بشناق الكتبي خارج باب قباء وزمانها يوم من أيام عيد الفطر المبارك سنة 1352هـ ورغم برودة الشتاء في ذلك العام إلا أن الأصدقاء الشباب الستة أجمعوا أمرهم على المساجلة المرتجلة بعد تناول طعام الغداء في تلك الحديقة الغناء، وقد اشترك في هذه المساجلة كل من: باكثير، الأنصاري، طاهر الزمخشري، عبد اللطيف أبو السمح، أحمد الخياري، صالح الحيدري. وقد افتتحها باكثير وتلاه الأنصاري:

علي باكثير:

رعـى  الله يـوماً رأينا iiبه
كـان  الـنـسـيم به iiغادة
كيُمْنى  الرحيم برأس iiاليتيم


وجوه المنى سرّت الناظرين
لـتـقبيلها  تندب iiالعاشقين
يمناه  فوق رؤوس iiالغصون

  عبد القدوس الأنصاري:

كـأن  الـجـبـال خيام iiنصبن
كـأن الـغصون غصون iiالنخـ
كـأن الـسـمـاء وقـد iiغيّمت
كـأن  الـحـرار حـرار iiقباء




وذاك  الـمـنـار عـليها iiأمين
ـيل غدائر منبوشة للمجون (1)
سـبـائـك  من فضة ما iiضين
إمـاءٌ صـففن ببهو حزين ii(2)

  وقد بلغت هذه المساجلة تسعة وتسعين بيتاً كان باكثير فيها أطولهم نفساً إذ يشارك فيها بأربع وأربعين بيتاً أي ما يقرب من النصف، وقد اجتمع الشعراء الستة مرة أخرى في عيد فطر 1352هـ بنفس الحديقة الغناء وانضم إليهم في حلبة الشعر الشيخ محمد حافظ ـ أطال الله عمره ـ وعبد اللطيف البشناق " الذي كان كتبياً وكان أمياً ولكن الجو الشاعري جعله ينطق بالشعر الفصيح " على حد تعبير صاحب المنهل وكان ممن حضر هذه المساجلة وكان لاسمه ذكر فيها الشيخ عبد المجيد خطاب، وقد افتتح المساجلة طاهر زمخشري وتلاه الأنصاري فباكثير:

 طاهر زمخشري:

صفوٌ أتيح فأسمِعُونا الآنا     مما يهزّ قلوبنا ألحانا

عبد القدوس الأنصاري:

إخواننا في العيد نُظِّم جمعهم    في روضة أنعِمْ بهم إخوانا

علي أحمد باكثير:

سمح  الزمان بوصلكم iiوحضوركم
عاطيتكم خمر السرور على الصفا
إن كـان قـبل اليوم دهري iiمذنباً


ولـكـم تـمـنـيـناه قبلُ زمانا
فـغـدوت مـن صهبائها iiنشوانا
فـالآن  كـفَّـر مـا جـناه iiالآنا

عبد القدوس الأنصاري:

ولئِن سرَى في الجسم هم قاتل     فشفاؤه بوجودكم قد حانا

علي أحمد باكثير:

ولقد نزعتُ إلى الشَّراب وصفوه     فوجدت حفلكم الجميل الحانا

عبد اللطيف البشناق صاحب البستان:

ولقد سُرِرتُ بجمعكم يا إخوتي     وسألت ربي أن يدوم زمانا

محمد الحافظ:

 الله  أكبر  إننا من  لطفكم     نروي  النفوس فصاحةً وبيانا

دمتم ودام المجدُ يخطِرُ فيكمو    في حلةٍ خضرا زهت ألوانا

علي أحمد باكثير:

شبّهتُ  حفلكُمُ فكان قلادةً    ورأيتكم دراً بها وجُمانا

لا بِدعَ أن تغدو مثالاً للندى    والله أنزل فيكُمُ القُرآنا

ولديكم  خيرُ الأنامِ  فكنتمو    في عين كل فضيلة إنسانا

  وعدد أبيات هذه المساجلة ثلاثة وخمسون بيتاً كان نصيب باكثير فيها صاحب النفس الشعري الأطول إذ بلغ نصيبه من أبياتها ثلاثة وعشرين بيتاً وهو كالأولى يقرب من النصف!

  وقد أمضى باكثير وقته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بين تعاطي الشعر مع شعراء المدينة المنورة والاستماع إلى دروس الحرم النبوي الشريف وتلاوة القرآن في الروضة النبوية والخلوة والتأمل وكتابة الشعر والانكباب على المكتبات الخاصة والعامة يطلع على المخطوطات ويسهر الليالي ينسخ بقلمه ما يحتاجه منها فقد عكف على مكتبة عارف حكمت والمكتبة المحمودية وعثر على ديوان أحد أجداده الشعراء وهو الشيخ عبد الرحمن باكثير في مكتبة عارف ونسخه كما نسخ عدة كتب منها:

1 ـ أسباب الخلاف للبطليوسي تأليف السيوطي.

رسالة في معرفة الحلى والكنى والأسماء والألقاب.

2 ـ موقد الأذهان وموقظ الوسنان لجمال الدين بن هشام الأنصاري.

3 ـ برد الظلال في تكرير السؤال للسيوطي.

4 ـ جزء من كتاب النبات لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري.

5 ـ من نسب إلى أمه من الشعراء لابن جني.

6 ـ رسالة في معنى التلميذ للشيخ عبد القادر البغدادي.

  هذا فضلاً عن الكتب التي نسخها من مكتبة الحرم بمكة وبعض مكتبات الطائف.

  وهكذا اندمج باكثير في الحياة الاجتماعية والثقافية في المدينة واتصل بأمير المدينة آنذاك... وحضر

مجالسه حتى إننا لنجد بعض الناس يتشفعون بتلك الصلة، فنجد في حجازياته مثلاً قصيدة بعنوان: (إلى أمير المدينة) على لسان صديق حبس الأمير ابن أخ له مطلعها:

بشِّرْ  فؤادك لا تكن  مهموما    واقصد بحاجتك ابن إبراهيما

قل يا أمير مدينة المختار يا    من جوده ملأ البلاد نعيما

ثم يمضي في سرد قصة الولد المحبوس إلى قوله:

واقبلْ لشاعر (حضرموت) شفاعة
واسـلـم ودم لـلـعاثرين iiتقُيلُهم

يـبـغـي بحسن قبولها iiالتكريما
ولـكـلِّ مـعـوجِّ الخَلاقِ iiمقيما

  ولم تنته قصة باكثير مع أدباء المدينة المنورة بمغادرته إلى مصر في 23 شوال 1352هـ بل استمرت في عدد من المراسلات بينه وبينهم وكان عربون استمرار الصلة يتمثل في كراسة كتب فيها كل شاعر من شعراء المدينة المنورة قصيدة أو أكثر وحمل باكثير هذه الكراسات معه إلى مصر وبقيت في مكتبته حتى عثر عليها بعد عشرين عاماً من وفاته! وكان من ثمرات زيارة باكثير للمدينة المنورة أن غرس في ذهن الأستاذ عبد القدوس الأنصاري فكرة إصدار مجلة شهرية على غرار مجلة الهلال تكون صوتاً سعودياً بارزاً في الثقافة العربية وتابع باكثير معه هذه الفكرة في رسائله حتى ظهرت " المنهل " بعد مغادرة باكثير للمملكة بثلاث سنوات، ومن ثمرات تلك الزيارة المباركة أيضاً أن أتم باكثير تأليف مسرحيته الشعرية الأولى " همام أو في بلاد الأحقاف " التي بدأها في الطائف وأن قام ذلك اللفيف من الشعراء الشبان بتمثيلها في حديقة البشناق في إحدى ليالي السمر المقمرة وقد أشار إلى هذه الواقعة السيد أحمد ياسين الخياري في إحدى رسائله لباكثير فكانت تلك الحادثة بداية تداخل في مسألة التأريخ للتمثيل والتأليف للمسرح في المملكة.

  وتراث هذه المرحلة من حياة باكثير في الحجاز كثير وغزير على قصر المدة التي قضاها ولا يتسع المقام هنا لاستعراض ذلك التاريخ والتراث المجهول وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لجمع هذا كله ووضعه في كتاب يصدر قريباً ـ إن شاء الله  ـ بعنوان  " علي أحمد باكثير وأدباء الحجاز.. وثائق المرحلة السعودية ". وسيضم أشعاراً مجهولة والنص الكامل للمساجلات والإخوانيات والمراسلات وكل ما وصل بينه وبين أدباء المملكة خلال فترة وجوده فيها أو بعد مغادرته إلى مصر.

والله ولي التوفيق