قصتي مع تراث باكثير (1)

د. محمد أبو بكر حميد

قصتي مع تراث باكثير (1)

علي أحمد باكثير

الدكتور محمد أبو بكر حميد

  تعرض تراث الكثير من الأدباء الكبار في تاريخ أدبنا العربي الحديث للاندثار والضياع بسبب الجهل أو الإهمال أو بالاثنين معاً، ففي كثير من الأحوال يرث هؤلاء الأدباء أسرة أو أبناء لا علاقة لهم بعالم الأدب ولا يفهمون في فن صناعة الكلمة المبدعة، فيتعرض تراث الأديب الراحل ومكتبته لإحدى حالتين: إما أن يباع هذا التراث بأبخس الأثمان ويقع في أيدٍ لا تقدره حق قدره وبالتالي يضيع ويذوب في المكتبات الشخصية للأفراد، أو يكون بين ورثة الأديب الراحل من نال حظاً من التعليم أو الثقافة لكن تعليمه أو ثقافته لا تمكنه من الوصول إلى الوسيلة الصحيحة التي تخدم هذا التراث وصاحبه، فيعمد هؤلاء الورثة في هذه الحالة على خزنه وحجبه عن الضوء، ويرفضون التعاون مع الأدباء والباحثين الذين سيعينونهم على نشره والمحافظة عليه.

  وقد يظن الجهلة وأنصاف المثقفين من ورثة كبار الأدباء أن كنز تراث الأديب سيتحول في الحجرات المظلمة إلى ذهب بقدرة قادر.

  وفي ظل هذا الوهم ضاعت مكتبات الكثير من الأدباء العظام واندثر تراثهم تحت غبار الإهمال وأسدل عليه ستار النسيان.

  وبهذا يكون أهل الأديب أول من يبدأ بظلمه بعد وفاته، ويسيئون إليه من حيث يريدون الإحسان، وظلم ذوي القربى كما هو معروف أشد وقعاً على الأديب من ضرب الحسام، فينال منه الأهل والأحباب وهو في قبره ما لم ينله منه الأعداء في حياته.

  وهذه لعمري مأساة لا تعدلها مأساة سيظل الأدباء العرب يعانون منها بعد وفاتهم ما لم تنهض الهيئات الثقافية الرسمية في بلادهم بعمل ينقذ تراثهم من الضياع ويحيي ذكراهم الخالدة عبر الأجيال.

·        مسؤولية الهيئات الثقافية:

  والمؤسف أن الهيئات الثقافية والأدبية الرسمية في معظم البلاد العربية لم تصل جهودها بعد إلى درجة الاهتمام بتراث الكبار من أدبائها وعلمائها كإقامة المتاحف التي تضم مكتباتهم ومتعلقاتهم الشخصية في دور خاصة أو ضمها إلى أركان خاصة بأسمائهم في المكتبات العامة حتى يتعرف القارئ والباحث على طريقة تفكير هؤلاء العمالقة من خلال موضوعات اهتمامهم والجانب الثاني وهو الأهم أن تتولى الهيئات الثقافية الرسمية في البلاد العربية نشر المخطوط من تراث هؤلاء الأدباء، ومصر وهي معهد الفكر والثقافة والأدب في العالم العربي التي ظهر وعاش على أرضها أعظم أدباء العربية في العصر الحديث لم تقم الجهات الرسمية فيها بتحويل دار أديب من أدبائها إلى متحف يؤمه الزوار والباحثون، ولم تقم لمكتباتهم أركان خاصة بهم في دار الكتب، بل بلغ الإهمال أن مكتبات بعض الأدباء التي أهديت لدار الكتب المصرية لا تزال قيد المخازن ولم تأخذ مكاناً على الأرفف وإلا فأين مكتبات العمالقة مثل العقاد وشوقي ومطران والرافعي وغيرهم كثير.

وقد يقول قائل بأن العوائق الاقتصادية في مصر تحول دون إقامة متاحف تخص هؤلاء العظماء، فنقول بأن هؤلاء الكبار ليسوا ملكاً لمصر وحدها وأن عطاءهم كان للعالم العربي كله وأنهم مفاخر للعرب والمسلمين ولن تتردد الدول العربية القادرة على المشاركة في تشييد مثل هذه المآثر إذا ما دعت إليها الهيئات الثقافية في مصر لأن هذا تمجيد للعقلية العربية المسلمة.

·        باكثير وأدباء عصره:

  ومن واقع إحساسي بهذا كله بدأت الكتابة والدعوة للمحافظة على تراث باكثير منذ قرابة خمسة عشر عاماً، ولم يكن صوتي هو الوحيد فقد سبقني إلى ذلك الكثير من أصدقاء باكثير وعشاق أدبه وفنه ويجيء في مقدمتهم الأستاذ الدكتور عبده بدوي والأستاذ أنور الجندي وغيرهم الذين ظلوا يقرعون الأسماع حيث تحين ذكرى وفاته في العاشر من نوفمبر من كل عام بأن باكثير ظُلم في حياته فلا بأس من أن نحيي ذكراه ونحافظ على تراثه وننشر ما طوي من أدبه بعد وفاته.

  وقد كتبت عشرات المقالات غداة وفاة باكثير تنبه إلى هذه الحقيقة، وتدعو إلى إنصاف الرجل، ومن هذه الأقلام على سبيل المثال لا الحصر قلم الأستاذ أنيس منصور الذي كتب في جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 14 نوفمبر 1969م يقول:

 " لم ينل ما يستحق من التقدير علي أحمد باكثير وليس العيب فيه وإنما العيب في زمانه والناس والقضايا التي يعرضها حتى لا تموت في دنيا الصراخ والمحسوبية والعصابات الفكرية وغير الفكرية.. إن فناناً بهذا الصدق والأصالة لا يموت لصمت ناقد أو نقاد فليس النقد هو الذي كتب له شهادة ميلاده وإنما الفن هو الذي ولده ورباه.. وأنضجه.. وسوف يبقيه ".

 وكتب الأستاذ فاروق خورشيد في نفس الجريدة يقول:

" .... لست أعتقد أن هناك كثيرين من أدباء عصر باكثير قد اتضحت لديهم الرؤية، مثل اتضاحها بالنسبة له.. ولست أعتقد أيضاً أن الكثيرين من أدباء جيله قد حظوا بهذا السلام الفكري النابع عن الإيمان الواضح بأشياء محددة مثلما حظى هو.. وربما كان هذا الوضوح في الفكر والموقف هو الذي سبب الموقف السلبي لكثيرين من النقاد الواعين الذين عاصروه في الاهتمام بما يكتب وبما يبدع ".

وقال في نفس المقال:

" لم يظلم النقد الأدبي أديباً ـ على كثرة من ظلمهم- كما ظلم علي أحمد باكثير صاحب المغامرات الكثيرة في دنيا القلم وعالم الكتابة ".

  وهناك العديد من المقالات والقصائد وقد جمعت منها ما يزيد عن الثلاثين ستصدر في كتاب بعنوان " علي أحمد باكثير في مرآة أدباء عصره " عن مكتبة مصر بالقاهرة قريباً.

  ومع ذلك فهذه الأصوات التي نادت جميعاً بأن باكثير قد ظلم حياً فلا بأس من إنصافه ميتاً قد ضاعت في زحمة حياة القاهرة الخانقة، وهذا يذكرني اليوم بما كتبه المرحوم الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله قبل عشرين عاماً في مجلة الهلال، يناير1970م، يقول:

"  والعجب أن  جيل  باكثير و أصدقاء صباه وشبابه وشيخوخته الفتية يملكون ولكنهم سينسون الأحياء

والأموات، غير أن الشيء المهم جداً هو أن استمرار الحياة ومشاكلها يجعلنا ننسى المآسي، فماذا إذن سنذكر‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍؟

  إن مأساة الأفذاذ من الرجال لا تخصهم وحدهم إنها بالنسبة لنا جميعاً مسئولية ولا أقول عظة، فالعظة قد تخاطب العاطفة التي لا تلبث أن تفتر أما المسئولية فإنها تلاحقنا مثل الدائن الشحيح المحتاج معاً ". ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍