ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة-8-9
ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة
( الحلقة الثامنة)
أ.د/
جابر قميحةمع الجهاد من أجل فلسطين ومصر والعروبة
"الجهاد سبيلنا".. إنه شعار ومبدأ أخذ الإخوان أنفسهم به من بداية دعوتهم، جهاد بالكلمة، وجهاد بالتوعية، وجهاد بالمال، وجهاد بالنفس، وقدموا الشهداء في خط القناة، وهم يحاربون الإنجليز، وقدموا العشرات من الشهداء، وهم يحاربون الصهاينة في فلسطين. بل كان اهتمامهم بالقضية الفلسطينية وتوعية الناس بها، وجمع المال من أجلها.
في الثلاثينيات كتب (مصطفى صادق الرافعي) مقالاً بعنوان: "قصة الأيدي المتوضئة"، عبَّر فيه بدقة وبفن أصيل عن مشهد من مشاهد جهد الشباب المسلم في جمع المال من أجل فلسطين في يوم من أيام الجمعة بأحد المساجد.. ومما جاء فيه: ".. ولما قضيت الصلاة ماج الناس؛ إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم؛ ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين، وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها، ونكبتهم، وجهادهم، واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمخف إلى البذل، والتبرع، وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل من دراهم هي في الحال دراهم أصحابها وضمائرهم... وأنصت الشيوخ جميعًا إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة، حتى كأنها صخب معركة لا فن خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون، كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض...".
وكان الإخوان قد كونوا لجنة لمساعدة فلسطين برياسة المرشد العام في 25 من صفر 1355ه. ولا يتسع المقام لبسط الحديث عن هذه اللجنة. غير أن أهم ما قام به الإخوان هو القيام بالجهاد العملي سنة 1947م بإرسال كتائبهم لقتال الصهاينة في فلسطين، وتطوع من المنزلة الأخ عبد الحميد الزهرة، ومن المطرية دقهلية الأخ محمد جادو السويركي.
وبالنسبة للقضية المصرية والاستعمار الإنجليزي، كانت المظاهرات الإخوانية هي الأعلى صوتًا، والأقوى نبرًا. وكان الإخوان يؤيدون كل كبير، أو وزير، أو رئيس وزارة يطالب بجلاء الإنجليز عن مصر، بصرف النظرعن هويته الحزبية.. وكان أنبل المواقف موقف للإمام الشهيد يتلخص فيما يأتي:
"في يوليو سنة 1947م، سافر (محمود فهمي النقراشي باشا) - رئيس الحكومة المصرية - إلى أمريكا ليلقي خطابًا في مجلس الأمن دفاعًا عن قضية مصر الوطنية، ولكن (مصطفى النحاس باشا) - زعيم الوفد – بعث، للأسف، ببرقية إلى مجلس الأمن يندد فيها بالنقراشي وحكومته، ويتهمه بالدكتاتورية، وانعدام الديموقراطية، وعدم شرعية هذه الحكومة؛ لأنها لا تمثل الشعب المصري. وكانت هذه سقطة مخزية للنحاس لا يقره عليها عاقل؛ لأن النقراشي ذهب مطالبًا باستقلال مصر، وجلاء القوات البريطانية عنها. فما كان من الإمام إلا أن أرسل البرقية الآتية:
إلى جناب رئيس مجلس الأمن، وسكرتير هيئة الأمم المتحدة:
يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري، ويراها مناورة حزبية لا كأثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها، وسواء كانت حكومة مصر ديمقراطية أو دكتاتورية، فإن الشعب المصري يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحده، وأنه لا يسمح لأية دولة أجنبية بالتدخل، فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده، طبقًا لميثاق الأطلنطي، ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يعرض على حكومته ما يريد، وأن يؤاخذها على كل تقصير يراه.
كما يعلن كذلك أن حقوقه الثابتة عن مصر وسودانه، والحرص الكامل على استقلاله أمر لا يقبل جدالاً ولا مساومة، وأن الوحدة الدائمة بين شماله وجنوبه حقيقة واقعة، وضرورة لا محيص عنها، ولا يحول بينها وبين الظهور على حقيقتها وروعتها إلا هذه الإدارة الثنائية التي فرضتها بريطانيا عليه بالإكراه، والتي طلبت الحكومة المصرية في عريضة دعواها إلغاءها، وأشارت إلى بطلان المعاهدة التي سجلتها بريطانيا، والتي لم يرض عنها الشعب المصري، ولم يسلم بها يومًا من الأيام.
وأنتهز هذه الفرصة، فأؤكد لأعضاء المجلس والهيئة: أن شعب وادي النيل عظيم الأمل في يقظة الضمير العالمي، وأنه لن يستقر سلام في الشرق، ولن تهدأ ثائرة شعوب العروبة وأمم الإسلام؛ حتى ينال وادي النيل حقه كاملاً، وليس إرضاء مجموعة من البشر قوامها أربع مئة مليون بالشيء الذي يستهين به الحريصون على الأمن والسلام".
وفي أثناء ذلك قامت شعب الإخوان في كل أنحاء مصر تطالب بالجلاء، وسقوط الإنجليز.. وقمنا نحن في المنزلة بعدد من المظاهرات كان من أقواها المظاهرة التي اندلعت بعد سماعنا لخطاب النقراشي في المنظمة الدولية، وكانت بقيادة الأخ (أحمد سليمان زين الدين) - رحمه الله.
ثم كانت المظاهرة الجامعة في مدينة المنصورة بعد صلاة الجمعة.. وحضرها إخوان من كل الشعب، فمن المنزلة: عبد الحميد الزهرة، ومحمد حسن عساسة، وكاتب هذه السطور (ولم أكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من عمري آنذاك). ومن المطرية دقهلية الحاج عبده البسيوني - رئيس الشعبة، والأخ فهمي الخضيري، والأخ محمود إبراهيم الجميعي، والأخ محمد جادو السويركي، (وقد جمعنا أتوبيس واحد متجه إلى المنصورة). المظاهرة ضمت آلافًا من المتظاهرين حضروا - كما ذكرت - من شعب مختلفة، وكانت بقيادة الشيخ مصطفى العالم - رحمه الله - وكأني أراه هذه اللحظة، وهو يهتف: "الحرية .. الحرية.. يا أعداء الإنسانية، يسقط مجلس اللصوصية" (يقصد مجلس الأمن والمنظمات الدولية).
ثم كان الجهاد المسلح ضد الإنجليز في خط القناة أواخر الأربعينيات، وأوائل الخمسينيات، فعن طريق المنزلة يجتمع الإخوان الفدائيون في شعبة المطرية.. ومنها في السفن الشراعية إلى مواقع الإنجليز في بورسعيد وأطرافها. ولعل أضخم وأهم عملية قاموا بها هي نسف القطار الإنجليزي الذي كان يحمل شحنة ضخمة من الأسلحة والذخائر قيمت بعشرات الملايين من الجنيهات، عدا الضحايا من الجنود الإنجليز. وعادت المجموعة بكاملها سالمة إلى شعبة المطرية، وأذكر منهم الإخوة: علي صديق، ويوسف علي يوسف، وفؤاد هويدي، وهو من شخصيات العائلة المشهورة التى ينتسب إليها الأستاذ فهمي هويدي الكاتب والصحفي المعروف.
ومن قبيل استيفاء الحديث، أذكر أنني كنت طالبًا في مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية في الصف الرابع (الثقافة، وبعده يكون التخصص في الصف الخامس)، وكنت أسكن في حجرتين في الدور العلوي من منزل والد الأخ زميلي في المدرسة "عبد الرحمن عرنوس".
وأذكر أن الحاج عبده البسيوني - رئيس الشعبة - كان شعلة نشاط في خدمة الإخوة الفدائيين.
وأذكر أن الأخ علي صديق كان مغرمًا بسماع "لهجة المطرية" الأصيلة من الأخ الزميل محمد عبد الرازق الغوابي.
وكان الإخوان الفدائيون بعد كل عملية - وكلها ناجحة بعون الله - يعودون إلى شعبة المطرية، وهم في نشاط دفاق، كأنهم ولدوا من جديد ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( (سورة الأنفال: 17).
ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة
( الحلقة التاسعة)
في مدرسة طلخا الثانوية
وقبل الحديث عن الشخصيات الإخوانية هناك واقعة مهمة في حياتنا، أسجل خلاصتها في السطور الآتية:
كان أمل والدي أن يراني طبيبًا، ولكن حبي للأدب واللغة العربية دفعني للالتحاق بشعبة "أدبي"، والدراسة بها تكون بعد الانتهاء من السنوات الأربع الأولى من المرحلة الثانوية التي تنتهي بالحصول على شهادة "الثقافة العامة"، ثم يبدأ التخصص في الصف الخامس: إما علمي، وإما أدبي، والمدرستان اللتان تنقلت بينهما في السنوات الأربع - وهما: مدرستا المنزلة، وأحمد ماهر بالمطرية دقهلية - توقفتا عند الصف الرابع، فحاولنا الالتحاق بمدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورة، أو مدرسة المنصورة الثانوية، ولكن كان الجواب: لا أماكن.
كنا أربعة طلاب من إخوان المنزلة: أحمد عبد العزيز الخريبي، وأحمد صالح العلمي، والسيد زكي الموجي - رحمها الله - وكاتب هذه السطور.
وجاء فرج الله على يد الدكتور (محمد خميس حميدة) - رئيس مكتب إداري المنصورة - الذي يرأس كل مناطق الإخوان في الدقهلية، وقبلنا والحمد لله بمدرسة طلخا الثانوية بمساعدة صديقه المسيحي "عزيز بقطر" - وكيل المدرسة.
كان فصلنا ملاصقًا لحجرة الناظر، وبقدر ما كان "عزيز بقطر" شحيمًا لحيمًا، كان الناظر نحيفًا نحيلاً، وكأنه "صورة طبق الأصل" من الممثل "محمد كمال المصري" الشهير ب "شرفنطح".
وأمام الفصول فناء واسع أتقن تبليطه، وبعد قبولنا بثلاثة أيام فوجئنا بمظاهرة من قرابة مئة طالب، يهتفون: "لا رجعية ولا إخوان، ولا تجارة بالأديان"، وغادرنا فصلنا.. ورأينا الناظر أمام المظاهرة مباشرة في صمت تام، وكان "هتيف المظاهرة" الطالب "القهوجي"، وهو بطل مشهور من أبطال المصارعة، ووقف طلاب الإخوان - وأغلبهم من القرى التابعة لطلخا - لا يحركون ساكنًا، مما جعل المتظاهرين يسرفون في هتافات أقبح وأشد.
وأذكر من طلاب الإخوان آنذاك: عادل غنيم، ابن قرية (نشا)، وعبد الغني غنيم، وشقيقه حسن من نبروه، وعبد الحليم فصادة من بيلا. وهناك اثنان مهمان جدًا كانا غائبين هذا اليوم هما الطالبان: أحمد شحاتة، والسيد الدمناوي، من شربين.
ووجدتني مندفعًا إلى الرجل الثاني في المظاهرة، "واسمه البارودي"، وأخذت "أعمل" لكماتي في فكيه يمنة ويسرة في سرعة برقية، أعجزته عن الرد أو الدفاع عن نفسه.
كل ذلك كان بمرأى من الناظر الذي لم يكن يبعد عنا أكثر من مترين.. وأخذ البارودي يستصرخ الناظر "شايف يا بيه"؟! إميحة "أي قميحة" كسر ضبتي يا بيه.
أما بطلهم القهوجي، فأخذ يسب الدين بتشنج: "دين الإخوان واللي جابوا الإخوان". فوجدتني في عفوية وحماسة، ودون تفكير أدفعه إلى الفصل المجاور لفصلنا، وأغلقه من الداخل. وبدأت أفيق إلى نفسي، وهو ينظر إليّ نظرات تقطر بالشرر، وشعرت كأنني قط دخل باختياره قفص حيوان كاسر، كيف أقدم على هذه المخاطرة غير المحسوبة. ووجدتني أتذكر قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموتِ بدٌّ فمن العار أن تموتَ جبانًا
ورددت بيني وبين نفسي، المثل العامي: "يا طابتْ يا الاتنين عُور"، ورأيتني أرفع "دكة" من الدكك التي يجلس عليها الطلاب، "والدكة يجلس عليها ثلاثة طلاب"، وأقذف بها - في قوة وشدة - تجاه القهوجي، فتفاداها، وصرخ في رعب: "يا بويا"، وقفز من النافذة التي ترتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف، وأنا لا أصدق عيني.
وانفضت المظاهرة مهزومة منكوسة، وجلسنا - نحن طلاب المنزلة الأربعة - في مقصف المدرسة (البوفية) - وهو يقع في الدور تحت الأرضي، نشرب الشاي، ونستريح بعض الوقت من عناء المعركة.
ثم هممنا بمغادرة المدرسة، وبدأنا نهبط من الدور الأرضي الذي يرتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف، وبعضهم يعتبره الدور الأول. (وكنا نسكن في الطابق الأول من منزل مسعود، قبالة المدرسة مباشرة، وفي الدور الأرضي ورشة حدادة كبيرة).
نظرنا إلى سور المدرسة فوجدناه قد زرع من الخارج بعشرات من البلطجية، وهم يلوحون لنا بالسيوف، والسنج، وعيدان الحديد مهددين.
ماذا حدث؟ علمنا فيما بعد أن الطالب البارودي هو وإخوته، استنفروا البلطجية لضرب - أو لقتل - بتوع المنزلة بعد "العلقة" الساخنة التي خرج بها من المعركة. وآل البارودي من أثرياء طلخا، ويملكون عددًا من سيارات النقل والأجرة، ولهم من الأتباع والعمال كثيرون.
ماذا نفعل؟
اقترح الأخ أحمد العلمي أن نخاطر، ونشق طريقنا بسرعة مفاجئة إلى الخارج، وخصوصًا أن ما بين بوابة المدرسة ومسكننا لا يزيد على عشرين مترًا، ولكننا استبعدنا هذا الرأي؛
1)لأننا غير مسلحين، ولا حتى بعصي.
2)ولأن الجاني من هؤلاء لن تثبت عليه أية تهمة، فالتهمة ستسجل ضد مجهول.
واقترح الأخ أحمد عبد العزيز أن نبلغ ناظر المدرسة ليستعين بالشرطة لتفريق هؤلاء البلطجية، وتمكيننا من الوصول إلى مسكننا بسلام.
واستحسنا هذا الرأي على ما فيه من شبهة ضعف واستسلام، وخصوصًا أن الناظر قد رأى بعينيه وقائع المعركة من أولها إلى آخرها، ودخلنا حجرة الناظر، وأنا أتقدم الإخوة الثلاثة، ورفع الناظر عينيه، وترك القلم الذي كان يكتب به، وهو يغلي من الغضب، وبادرنا قائلاً بالحرف الواحد: "هه .. هه .. حلو .. حلو قوي!! ونا اللي كنت بحسبكم أولاد ناس.. طلعتم أولاد ستين ...".
وغضضت النظر والسمع عن هذا السب الفاحش، وقلت:
شوف يا بيه.. على سور المدرسة من الخارج قرابة ميت بلطجي، يترصدون لنا، ويهددونا بالسيوف، وأسياخ الحديد.
يعني إيه.
يعني احنا الأربعة لو ضربناهم مش مسؤولين.
وانتظرنا أن يفهم الرجل أننا قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ولكنه انتفض واقفًا. وقال في صوت صارخ:
اسمع ياواد أنت وهو، والله لو اعتديتم عليهم لحوديكم في ستين داهية.
وتركنا حجرة الناظر، ونحن في اضطراب وحيرة.. وأعدنا النظر إلى البلطجية المسلحين، فوجدناهم قد ازدادوا عددًا..
بس .. وجدتها؟
قلتها/ وكأني عثرت على كنز..
الحل في محمود الهواري.
(ومحمود الهواري) من قرية الكفر الجديد مركز المنزلة، وهو طالب في مدرسة المنصورة الثانوية، ويلقبونه بفتوة الإخوان.
ولكن كيف نستدعيه..
سيبوني أتصرف، ونزلنا إلى حيث غرفة التليفون (في الدور تحت الأرضي). وتحدثت إلى سكرتير مدرسة المنصورة الثانوية - وهو ممن يتعاطفون مع الإخوان - فمكنني من أن أتحدث إلى محمود. وشرحت له ما نتعرض له من خطر.. وكيف أننا - نحن الأربعة - محاصرون داخل المدرسة.
ولا يهمك .. بعد نصف ساعة سترى بعينك.
وتعلقت - عيوننا - نحن الأربعة بسور المدرسة المغطى من الخارج بالبلطجية المسلحين. وبعد نصف ساعة رأينا ما يشبه معركة حقيقية: زحامًا ينفض، وصرخات تعلو، وغبارًا يثور حتى يكاد يستر ما يحدث، فذكرني بقول بشار بن برد:
كأن مثارَ النقع فوق رءوسِنا وأسيافَنا ليل تهاوَى كواكبُهْ
وتقدم إلينا الأخ محمود الهواري، يتبعه ثلاثة من طلاب المنصورة الثانوية، وهم يشرعون كرابيج لا يزيد طول الواحد منها على نصف متر.. وكنت أعتقد أن "محمود" قد حضر ومعه عشرون من الإخوة على الأقل.. فإذا بهم أربعة..
وطلب منا محمود أن نغادر المدرسة معهم..
والبلطجية، يا محمود؟
ضربناهم.. شرّحناهم.. لم يعد لهم أي أثر.. بل إن بعضهم - من شدة الفزع، وهول المفاجأة - رمى بسلاحه، وولى هاربًا.
وصدق الله - سبحانه وتعالى - إذ قال: ) كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( (البقرة: 229).
وما حدث يحمل في طياته دروسًا وتوجيهات، من أهمها:
1)أن الأخ المسلم يجب أن يغضب لدعوته، ويدفع عنها ما يوجه إليها من مفتريات وتشويه.
2)أن الأخ المسلم يجب ألا يستصغر نفسه أمام الأحداث، بل يجب أن يعتبر نفسه أكبر منها، وأقوى من أعدائه؛ لأنه يستمد قوته وعزته من الله - سبحانه وتعالى: ) وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ( (المنافقون: 8). وهو القائل: )وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( (آل عمران: 139).
3)أن الأخ المسلم يجب أن يأخذ بكل الوسائل المشروعة لتحقيق نصرة دينه، وأمته، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
4)أن الأخ المسلم مهما اشتد به الكرب، وتعرض للكوارث والنكبات، يجب ألا يتسرب إلى نفسه اليأس، بل يجب أن يكون واثقًا من رحمة الله تعالى، قال تعالى: ) وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ( (الحجر: 56).
5)المسلم أخو المسلم، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، كذلك كان التعاون من أهم سمات المسلم ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ( (المائدة: 2)، وعلى المسلم أن ينهض لنصرة أخيه المسلم إذا استنجد به، وإلا كان آثمًا مقصرًا في حق دينه. يقول تعالى: ) وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( (الأنفال: 72).
وللحديث بقية