الهجرة
د. خالد أحمد الشنتوت
تعريف الهجـرة :
جاء في لسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي مادة (هجر) الهجرضد الوصل هجره يهجره هجراً، وهجراناً صرمه، وهما يهتجران، و يتهاجران والاسم الهجرة وفي الحديث ( لا هجرة بعد ثلاث )[1]
وأما تعريفها في الشرع، أو الاصطلاح :
فباختصار شديد : هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام . كما قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن وقال ابن قدامة في المغني : هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام . وقال الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله - في الدرر السنية - هي : الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي إلى بلد الإسلام والطاعة .
ولما اشـتد أذى المشركين على من أسلم وفتن منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون وهذا إلهك من دون الله فيقول نعم ومر عدو الله أبو جهل بسمية أم عمار بن ياسر وهي تعذب وزوجها وابنها فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها .
ويتضح من ســـيرة المصطفـى r أنه يجب على المسـلم أن يهاجر من بلـده إذا لم يتمكن من طـاعـة ربـه عزوجل، والهجـرة هي الانتقال من بلد الشـرك إلى بلـد الإسلام، والهجرة باقية حتى قيام الساعة، وقد هاجر إبراهيم عليه السلام من بلاد النمرود ( بلاد الرافدين ) إلى فلسطين ثم مصر ثم الحجاز، ثم عاد إلى فلسطين، كما هاجر لوط عليه السلام من القرية التي كانت تعمل السـوء، كما هاجر يونـس عليه السلام، كما هاجر موسـى عليه السلام، فقد خرج من مصر عندما خشي على روحـه من فرعون، وعاش عشـر سنوات أو أكثر في مديـن، ثم رجع إلى مصر حيث أمره الله بذلك ليدعو فرعون إلى عبادة الله، ثم هاجر ببني إسرائيل من مصر إلى فلسطين، وهاجر غيرهم من الرسل وأتباعهم عندما ضيق عليهم من قبل أعدائهم، حفاظاً على أرواحهم، ومن أجل الدعوة إلى الله عزوجل .
وقد أمر رسول الله r أصحابه بالهجرة إلى الحبشـة مرتين، ثم أمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة كما سنرى :
يقول المباركفوري في الرحيق المختوم : كانت بداية الاضطهادت في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من البعثة، بدأت ضعيفة، ثم اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى نبـا بهم المقام في مكـة، وفي أثناء ذلك نزلت سورة الكهف وفيها إشارة إلى الهجرة، ] وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله، فأووا إلى الكهف ينشـر لكم ربكم من رحمتـه ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً [ ـ الكهف 16ـ .
وكان رسول اللهr قد علم أن أصحمـة النجاشي ملك عادل، لايظلم عنده أحـد، فأمـر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، فراراً بدينهم من الفتـن . وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة، مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسـوة، وكان رحيلهم تسللاً في ظلمة الليل، خرجوا إلى البحر . وركبوا سفينتين تجارتين أبحرتا إلى الحبشة . وفي رمضان من نفس العام رجعوا لما بلغهم خبر غير صحيح مفاده أن قريش أسلمت، ثم عادوا مع الهجرة الثانية . وفي الهجرة الثانية هاجر ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة .
( لما جاءت رسالة الإسلام وقف المشركون في وجهها وحاربوها، وكانت المواجهة في بداية أمرها محدودة، إلا أنها سرعان ما بدأت تشتد وتتفاقم يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى ضيَّقت قريش الخناق على المسلمين واضطهدتهم وأرهقتهم، فضاقت عليهم مكة بما رحبت، وصارت الحياة في ظل هذه المواجهة جحيماً لايطاق.فأخذ المسلمون يبحثون عن مكان آمن يلجؤون إليه، ويتخلصون بـه من عذاب المشركين واضطهادهم.
وفي ظل تلك الظروف التي يعاني منها المسلمون، نزلت سورة الكهف، تلك السورة التي أخبرت بقصة الفتية الذين فروا بدينهم من ظلم ملِكِهِم، وأووا إلى كهف يحتمون بـه مما يراد بهم. كان في هذه القصة تسلية للمؤمنين، وإرشاداً لهم إلى الطريق الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه للخروج مما هم فيه. لقد عرضت قصة أصحاب الكهف نموذجاً للإيمان في النفوس المخلصة، كيف تطمئن بـه، وتؤثره على زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وتلجأ إلى الكهف حين يعز عليها أن تقيم شعائر دينها وعقيدتها، وكيف أن الله تعالى يرعى هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة، ويشملها برحمته ورعايته ]وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهـْفِ يَنْشُـرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقـاً[ (الكهف:16).
لقد وضَّحت هذه القصة للمؤمنين طريق الحق والباطل، وبيَّنت أنه لا سبيل للالتقاء بينهما بحال من الأحوال، وإنما هي المفاصلة والفرار بالدين والعقيدة، وانطلاقاً من هذه الرؤية القرآنية أمر النبي r المسلمين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة، وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي r هذا الحدث فقالت : (لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول اللهr ، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول اللهr لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول اللهr في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله r : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً - أي جماعات - حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً ) رواه البيهقي بسند حسن .
وهكذا هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوناً من اثني عشر رجلاً و أربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي r .
وبدأوا الخروج الجماعي أمام سطوة قريش بتوجيه نبوي، بحيث لاتقع سلطة قريش عليهم، ويكاد يكون جميع المسلمين مضوا إلى الحبشة، فقد هاجر من الخمسين الأوائل أربعة وعشرون، وهاجرت الخمسون الثانية تقريباً، ولم يبق في مكة إلا ستة وعشرون صحابياً، وكأنما نقل مركز الدعوة إلى الحبشة، وبقي حول الرسول r كتيبة الفدائيين الذين يحمونه([1]) .
وهكذا هيأ الله لعباده المؤمنين المستضعفين المأوى والحماية من أذى قريش وأمَّنهم على دينهم وأنفسهم، وكان في هذه الهجرة خير للمسلمين، إذ استطاعوا -فضلاً عن حفظ دينهم وأنفسهم - أن ينشروا دعوتهم، ويكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لتلك الدعوة، ومن كان مع الله كان الله معه نسأل الله تعالى أن ينصر دينه وعباده المؤمنين في كل مكان
[1] ـ منير الغضبان، القيادية، (1/ 365) .