الحرب على غزة.. حسابات الربح والخسارة

الحرب على غزة.. حسابات الربح والخسارة

مؤمن بسيسو

تتفاوت حسابات الربح والخسارة المتمخضة عن الحرب على غزة لدى عديد الأطراف ذات العلاقة، فقد أثبتت يوميات ومآلات العدوان أن فرزا حقيقيا قد نشأ على المستوى المحلي والإقليمي والدولي بفعل الدمار والدماء والأشلاء الفلسطينية، وأن أرباحا وفيرة قد طالت البعض فيما لاذ البعض الآخر بالخيبة والخسران.

ولا شك أن نتائج الحرب، ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها التي اندلعت من أجلها، والتبعات والتداعيات التي تُخلّفها يوما بعد يوم، تشكل أساسا صالحا لمعايير مهنية ذات بعد منهجي تنتظم تقديراتنا وتقييمنا لحسابات الربح والخسارة التي رسمت مشهدا جديدا للواقع الفلسطيني وانعكاساته الإقليمية والدولية.

حركة حماس.. الرابح الأكبر

لا جدال أن حركة حماس قد حصدت أعظم الأرباح جراء الحرب، وحققت العديد من المكاسب التي لم تكن تحلم بها بحال، وتوشك أن تتجاوز عنق الزجاجة الذي حُشرت فيه قسرا بفعل حصار محلي وإقليمي ودولي ظالم أرهق الحركة ولم يترك لها سوى فسحة ضيقة من هوامش الحركة والخيارات.

الصورة الأبرز في منظومة مكاسب حماس تمثلت في مشهد الصمود منقطع النظير الذي أبدته الحركة في مواجهة الترسانة الحربية الإسرائيلية الهائلة، وقدرتها الفائقة على امتصاص الضربة الجوية الأولى رغم شدتها ومباغتتها، ونجاحها في إدارة الوضع الداخلي، أمنيا وصحيا واجتماعيا، كما إدارة المعركة العسكرية الشرسة مع الاحتلال.

فلسطينيا، أعادت حماس على إيقاع الحرب إنتاج ذاتها كرقم صعب في المعادلة الفلسطينية الداخلية، وتمكنت من تثبيت مواقفها بل وإعلاء سقفها إزاء دعوات المصالحة الوطنية، وترسيخ أركان حكمها في قطاع غزة بعد فشل أعتى آلة حربية في المنطقة في اجتثاثها، وبرزت في أنصع صورها شعبيا في إطار منافحتها للعدوان، وصدّها لجحافله الجرارة التي استهدفت اجتياح القطاع وسحق أبنائه.

ولعل أخطر الإنجازات التي حققتها حماس نتاج العدوان، ما جرى من تنقية كاملة لصورتها الوطنية في أعين الجماهير التي سادها شيء من الغبش والاهتزاز عقب أحداث الحسم العسكري شهر يونيو  2007م، وما تلاها من بعض الممارسات الخاطئة أمنيا، وصولا إلى إزالة اللغط الذي حام حولها حيال مسؤوليتها عن آثار ونتائج الحصار المضروب، ما ألبسها اليوم حلّة جديدة، وأحالها إلى وضع فريد أشبه ما يكون بميلاد جديد يُجلّله خطْوٌ وطني واثق وارتفاع جماهيري كبير.

عربيا وإسلاميا، عززت الحركة تواصلها بشكل غير مسبوق مع الجماهير العربية والإسلامية، ورفعت مستوى الوعي والتفاعل العربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية بصورة عزّ نظيرها، وأسهمت في تشكيل جبهة عربية إسلامية صلبة للدفاع عن غزة واحتضان مواقف الحركة في مواجهة جبهة الاعتدال الرخوة، كانت قمة قطر والحراك الدبلوماسي التركي أبرز عناوينها وتجلياتها.

دوليا، دخلت الحركة لعبة السياسة الدولية، وكانت جزءا لا يتجزأ من مفردات الحركة الدبلوماسية الدولية الرامية إلى تفكيك الأزمة ووقف الحرب وسط  سيل الدعوات والمطالبات الدولية الخاصة بفتح المعابر ورفع الحصار، ما أكسبها شرعية سياسية، عملية وواقعية، ستظهر ثمارها على المديين: المنظور والمتوسط رغما عن أنف الاحتلال وحلفائه المعروفين.

لكن جملة المكاسب وطعم الانتصار الذي حققته حماس يوازيه خسارة اجتماعية كبيرة تتحملها الحركة الحاكمة لغزة، وما أثارته من أزمة إنسانية هائلة خلّفها حجم الدمار وهول المعاناة التي ألمت بأهل قطاع غزة ومقدراتهم وبنيتهم التحتية، ما يلقي على حماس مسؤوليات بالغة وتحديات جمّة إبان المرحلة المقبلة بصدد التلاحم مع هموم الناس والتخفيف عنهم وحلّ مشكلاتهم.

حركة فتح.. الخاسر الأكبر

 لم يدُرْ بخلد أحد من قادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية في رام الله أن الحرب التي انعقدت آمالهم على نتائجها سوف ترتد وبالا عليهم، وتنفث في وجوههم نذر التراجع والإرباك والخسارة المحققة دون أي مكسب كان. 

في كل الأحوال لم تكن فتح ومن ورائها السلطة لتنجو من براثن الخسران، سواء لاذت بالصمت على العدوان الذي طال غريمتها اللدود "حماس" أم تماهت معه ومالأته، فهي مدانة في كلا الحالتين، لكن وقع الانسجام والتورط والدوران في فلك المخطط الإسرائيلي لضرب حماس في غزة الذي تكشّف عبر مجموعة من التصريحات والتسريبات السياسية والإعلامية والتحقيقات الأمنية، كان أشد وقعا وأكثر إيلاما.

خسرت فتح سياسيا ووطنيا كما خسرت شعبيا وأخلاقيا، وخرجت من معمعة الحرب أكبر الخاسرين.

سياسيا، دُفن، عمليا، مشروعها السياسي (المفاوضات) رغم انهياره منذ زمن، لجهة صعود مشروع المقاومة الذي ملك على الناس عقولهم وقلوبهم وكيانهم في ظل المحرقة الهائلة والمجازر الرهيبة التي اقترفتها قوات الاحتلال، وبات مناط أملهم في ثأر موجع وانتقام دام في قادم الأيام.

وطنيا، تشوهت صورة فتح كثيرا مع التصريحات التي أدلى بها بعض قادتها إبان العدوان، حين برروا الإجرام الإسرائيلي، وحمّلوا حماس مسؤولية إراقة الدماء، وزعموا أن غزة ستعود قريبا إلى كنف الشرعية!

وتشوهت صورتها أكثر فأكثر حين رفض أبو مازن الدفع باتجاه اتخاذ خطوات جدية وإجراءات حقيقية بعيدا عن المناورة والاستهلاك الإعلامي بغية محاكمة قادة الاحتلال كمجرمي حرب أمام المحاكم الدولية!

وبلغ التشوّه مداه بانتهاج فتح ثلاثة خطوط متوازية من الممارسة المنبوذة، حين قمعت –أولا-  المسيرات والمظاهرات وفعاليات التضامن مع غزة في كافة مدن ومناطق الضفة الغربية، واستمرت في نهج الاعتقال السياسي، في ذات الوقت الذي تمخضت فيه التحقيقات الأمنية عن تواطئها مع الاحتلال في حملته الغاشمة عبر ارتكاس تيار نافذ فيها نحو تزويد الاحتلال بمعطيات خطيرة ومعلومات هامة وخرائط تفصيلية حول عناصر وكوادر حماس وبناها ومعداتها ومقدراتها العسكرية ثانيا، فيما شنت حملات إعلامية مبرمجة ذات اتهامات مركزة لتشويه حماس والإساءة إليها ثالثا.

وكان لافتا أن تنبري المصادر السياسية والإعلامية الإسرائيلية لكشف جانب من هذا التواطؤ السافر دون أن يصدر عن قيادات فتح أي نفي أو تكذيب، ما أشعل كثيرا من التساؤلات الحانقة وعلامات الاستفهام المدوية في عقول المواطنين الفلسطينيين.

واكتملت دائرة الحرج الفتحاوي بالانسحاب الميداني من أرض المواجهة، إذ سُحب المقاومين التابعين للحركة والمحسوبين عليها، ولم يُلمس لهم أثر في مقارعة الغزاة المجرمين.

ذلك كله حشر حركة فتح والسلطة الفلسطينية في موقف بالغ الحرج سياسيا ووطنيا وأخلاقيا، وأضعف شأنهم أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، وخفض أسهمهم الجماهيرية إلى درجة غير مسبوقة وفق التقديرات الموضوعية.

ولن يقتصر الأمر حدّ التراجع الجماهيري إذ أن خسارة المنطق السياسي والوطني يُتوقع أن تترك أثرها على ملف المصالحة الوطنية، وتدمغ موقف فتح بمزيد من الضعف في مواجهة موقف حماس الواثق المتسلح بانتصار الإرادة القتالية للحركة في حربها الأخيرة مع الاحتلال.

إسرائيل.. وهم الإنجازات!

أوهمت إسرائيل شعبها والعالم أنها حققت جميع أهدافها من وراء حربها على غزة، وتبجحت بالزعم أنها وجهت ضربة قاسية لحركة حماس وبنيتها التحتية، وكبحت إطلاق الصواريخ ووفرت الهدوء لجبهتها الجنوبية، واستعادت قدرتها الردعية المتضررة، ومنعت تهريب السلاح!

دون مبالغة يمكن الجزم أن إسرائيل خسرت استراتيجيا كامل نتائج حربها، فيما حققت تكتيكيا جانبا من الأرباح والمكاسب وخسرت البعض الآخر.

تأسس الوهم الإسرائيلي على تجيير السحق المهول للمدنيين والبيوت والبنى والمنشآت المدنية والرسمية كمكاسب وإنجازات، فضلا عن ادعاءات مفبركة عن قتل مئات المقاومين وضرب الكثير من منصات الصواريخ ومخازن الأسلحة والذخيرة.

في ميزان المكاسب لم تفلح آلة الحرب الإسرائيلية المدمرة إلا في قتل ما يقل عن مائة مقاوم من كافة فصائل المقاومة، سقط غالبيتهم الساحقة، اغتيالا وحرقا، بنيران الطيران الإسرائيلي وقذائفه الفوسفورية وليس المواجهة البرية المباشرة، وتأمين هدوء ظرفي ووقف مؤقت لإطلاق الصواريخ ناجم أساسا عن تقديرات فلسطينية داخلية ترتبط بالمصلحة الوطنية بعيدا عن ادعاء استعادة هيبة الردع الإسرائيلية، وحشد تعاون دولي لمنع تهريب السلاح إلى قطاع غزة.

سوى ذلك لم تحقق إسرائيل شيئا، فلم تتمكن من القضاء على المقاومة وبنيتها العسكرية أو حتى توجيه ضربة قاسية لها كما تدعي، ولم تقدر على ضرب حماس وإزاحتها عن مشهد الحكم ومقاليد السلطة كما أمل العديد من قادتها السياسيين والعسكريين باستثناء اغتيال غادر لاثنين من قادة حماس السياسيين، ولم تنجز وعدها بتغيير الواقع الأمني على تخوم مناطقها الجنوبية، ولم تستعدْ قدرتها الردعية بأي حال.

لم تأتِ إسرائيل على مصارحة العالم بالقدرات الصاروخية الفلسطينية التي بقيت على حالها، وسر تردد جيشها الجرار العرمرم ميدانيا حين وقف متوجسا من اقتحام بؤر المقاومة في غزة، عاجزا عن استدراج المقاومين واصطيادهم بفعل تكتيكات عسكرية فلسطينية جديدة أبطلت العديد من ميزات التفوق والقدرات العسكرية الإسرائيلية!

لكن الخسارة الإسرائيلية الأكبر كانت ذات بعد استراتيجي دون شك، فقد رسّخت بحربها المجنونة روح وثقافة المقاومة في نفوس مختلف الفلسطينيين، وبددت أي بادرة إزاء إمكانية إبقاء فكر التسوية حاضرا في خلفية المشهد الفلسطيني الداخلي، ما دفع مشاعر التعبئة والتأييد تلقائيا لصالح حركة حماس ونهجها المقاوم.

ولن يمضِ وقت طويل حتى تدرك إسرائيل أن رجع صدى حربها القذرة قد أوغل في نفوس الكثير من الأحرار على امتداد المعمورة، وترك بصمات غائرة في الخلفية الذهنية لدى الرأي العام العالمي، ما يعني أن الدعاية الديمقراطية والصورة الحضارية التي سوقتها دولة الاحتلال دهرا قد تلوثت كثيرا، ولن تقوى على الصمود أمام ديمومة المشهد الإسرائيلي الإجرامي الحافل بإنتاج بصور القتل والدم والأشلاء والدمار، ما يشعل قلقا إسرائيليا استراتيجيا بلا حدود.               

مصر.. في دائرة الإتهام

من الصعب الحديث عن أي مكسب مصري في إطار تقييم نتائج الحرب على غزة، في مقابل خسارات متعددة على أكثر من صعيد.

كانت زيارة ليفني لمصر قبل يومين من اندلاع الحرب، والتصريحات العدوانية والتهديدات السافرة التي أطلقتها من قلب القاهرة فاتحة الخسارات المصرية في ظل الانتقادات الشعبية الواسعة، مصريا وعربيا، التي وُجّهت للموقف المصري، وبلغت حدّ اتهام القاهرة بتشكيل غطاء سياسي للموقف الإسرائيلي المندفع باتجاه الحرب والعدوان. 

ومع اشتعال الحرب تضرر الموقف المصري الرسمي كثيرا، وصبغته الكثير من الشبهات والاتهامات الشعبية على المستوى العربي والإسلامي التي رأت فيه شريكا في خلفية الحرب وإحكام الحصار من خلال استمرار إغلاق معبر رفح، ومنع إدخال المعونات الإنسانية والمساعدات الإغاثية إلا قليلا.

ولم يقتصر الأمر على الاحتجاجات الشعبية بل تطورت الأمور باتجاه تصاعد نبرة سياسية جديدة للعديد من الدول العربية والإسلامية التي تفاوتت أشكال معالجاتها للموقف المصري إزاء استمرار إغلاق معبر رفح، إلا أنها كانت مُجمعة من حيث المضمون على مخالفته وطرح رؤية متمايزة لحل الأزمة.

وبدا بوضوح أن الانتقادات التي طالت الموقف والدور المصري قد بلغت مستوى غير مسبوق، من حيث شمولها لمختلف الطبقات والشرائح والقطاعات الشعبية، عربيا وإسلاميا، ما يؤشر على طبيعة التفاعل اللاهب للشعوب العربية والمسلمة مع محنة غزة ومعاناتها البالغة.

لكن وجه الخسارة الأكبر من زاوية الاهتمام المصري الرسمي كان سياسيا بامتياز، فلم تكن القاهرة تتوقع –بحال- أن تتجاهل إسرائيل المبادرة المصرية وتعلن وقف إطلاق نار من جانب واحد رغم الجهود الدبلوماسية الواسعة التي تولتها لإنهاء الحرب عبر اتفاق سياسي، فيما لم تتوقع أيضا أن تبادر إسرائيل لإبرام مذكرة تفاهم أمنية مع الإدارة الأمريكية حول توفير سبل وآليات لمكافحة تهريب الأسلحة من سيناء إلى غزة، ما رأت فيه القاهرة تجاوزا واضحا لدورها السياسي والإقليمي، وانتقاصا سافرا من سيادتها الوطنية.

ختاما.. يمكن القول أن حسابات الاحتلال الإسرائيلي التي التقت مع حسابات بعض الأطراف الفلسطينية والعربية الرسمية إزاء الحرب ضد حماس في غزة قد مُنيت بانتكاسة بالغة لجهة انحرافها عن وجهتها المرسومة، ما يعني أن الصمود الفلسطيني الذي تمثله حماس وقوى المقاومة، وما يستتبعه من مواقف ومعالجات لأشكال إدارة أزمة الانقسام الفلسطيني الداخلي والصراع مع الاحتلال مرشح لمزيد من التجذر والتصلب في المرحلة المقبلة، مع ما يفرضه ذلك من تبعات وتداعيات.