لن تسقط الراية!

ولن تُقتلع الحصون!

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

تشتجر الكلمات والمعاني في زمن الحرب في دوامة لا نهائية بين الممكن والمستحيل، والواجب والإمكانات، والكلمة والفعل، والكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، والفعل الطيب والفعل الخبيث، و... إلى آخر ذلك من الثنائيات، وتأتيك بين كل تلك الصراعات مقولة: "ليس في الإمكان أبدع مما كان!"، كما تلمع في ذاكرتك بشرى النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أثناء حفر الخندق! وتأتيك كلمات قصيدة الوهم: "هذي يدي ارتجفت، وعلى المدى امتدت عيوني، ما زال نبضي ينتشي، ودمي يهلل في عروقي، ما زال في الإمكان أن تتنفس الدنيا هوائي"، لكن تحلق كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم عن فسيلة النخل وساعة القيامة: "أرأيتم لو قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة نخل واستطاع أن يغرسها فليغرسها!!"، أو كما قال، وكم لهذه الكلمات من سحر على قلبك، وأثر على مسيرة حياتك... فكلما كبا بك الفرس وضاقت بك الدنيا جاءتك مجلجلة تدفعك لتكون مثل سيزيف وصخرة العمل الدءوب!

في زمن الحرب طويلة المدى على امتداد أجيال وأجيال تصبح ممارسة أبجديات الحياة من ضمن طقوس المكابرة، ولذلك عجبت لمن يتعالى على الجراح في مجال ويمنع المكابرة في مجالات ومجالات: أنا أصوم وأفطر، وأقوم وأنام...أليس كذلك؟

ونحن هنا نمارس كنقابة عاملين الممكن حتى لو كان في ميزان البعض مستحيلا، والواجب حتى لو كان في نظر بعض الناس عيبا، ونحن في ذلك منطقيون إلى أبعد حد، يجرحنا الحزن أيما جرح، ويطربنا النجاح والتميز أيما طرب، نعيش ظروف الخيام ونسعى بها على مدار ثلاثين عاما لتكون صروحا شامخة، وتؤلم أيدينا مداميك البناء، كما تجرحها مداميك الهدم، لكنها لا تمنعها من مواصلة البناء.

سعينا قبل تصاعد الحرب الأخيرة للحصول على أرض مستقلة تصلح موقعا لنادي العاملين، وتبشّر بحياة اجتماعية بينهم أكثر ترابطا وتواصلا وحميمية، وانطلقنا بدأب إلى محاولة إنشاء حضانة أطفال تحقق حلم عدد كبير من عاملاتنا وطالباتنا وموظفينا، وظل سعينا حثيثا لتطبيق التأمين والمعاشات، والانتهاء من الرتوش الأخيرة في كادر التعليم الموحد، وما زال المجال مفتوحا لتحسين الواقع والارتقاء بالمستقبل وفق قاعدة تعمير الكون التي آمنا بها، وعشناها كأن الدنيا تمتد بنا إلى ما لا نهاية، مع يقيننا الإيماني بإمكانية موتنا غدا أو بعد غد أو الآن... وفقا للقول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا؟!"

كثيرة هي الأعمال النبيلة التي تقودنا في كل الأحوال إلى النجاحين: نجاح الدنيا ونجاح الآخرة، فالعمل للدنيا لو لم يكن استجابة لنداء الآخرة بالتزام الضوابط للنجاح فيها لن يفلح صاحبه... ولذلك مثلنا مثل جامعتنا وهي تكفكف دمعها وتلملم جرحها لتنهض مثل عنقاء الرماد من الدمار، ومثلنا مثل أطفال فلسطين الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها سنقف لنواصل الطريق، لأن انقطاعنا وانقطاعهم وانقطاعها عن مواصلة الطريق هو هزيمتنا الحقيقية لا سمح الله!

إن انتصار الدم على السيف يعني أن نغرس شجيرات النخل الصغيرة بين أحشاء الصخور في كل الأزمنة سواء في زمن السلم أو زمن الحرب، وسواء في أزمنةٍ تنتظر الساعة أو في زمن الساعة، فنحن على العهد الأول لمن قال لنا في زمن الذر: "ألست بربكم؟"، بلى، أنت ربنا وقد سمعنا حثّك لنا على السعي ومواصلة العمل وإعمار الكون، وما زلنا على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "فليغرسها!"، فما زلنا نغرس النخل في زمن الزلازل والبراكين والأعاصير. ونحن بإذن الله نواصل، وعلى العهد نسير، وبلا هوادة نعمل، مؤكدين: لن تسقط الراية ولن تُقتلع الحصون  لا يضيرنا من خالفنا بإذن الله. وحسبنا الله ونعم الوكيل.