غزّة... الدرس الأخلاقيّ
د.سعد كموني
قد يكون من الباكر جدّاً أن نكتشف الدروس والعبر التي يمكن أن تستفاد من العدوان على غزّة، إلا أنّ هذا العدوان وهو يترافق مع عدوانٍ آخر على الإنسان العربيّ، يشنّه بعضُ المثقَّفين العرب، وبعض قادة الرأي والساسة من رسميين وغير رسميين، يدفعني لأنْ أقول بأنَّ الدرسَ الأهمَّ هو الدرسُ الأخلاقيّ؛ إذْ بدا في غمرة هذا العدوان، أنّ سيل الكلام والقمم والتحليلات التي ترافقت ينقصُها البعد الحقيقيّ لتأخذَ حجمها اللازم، ينقصها الإيمانُ بقيمة الكلمة في معارك البناء والتقدّم، فمن أقدار أمتنا أن تكون طريقُ بنائها محفوفةً بالنار والدمار.
لن أدخل في تحليل ما سمعت وما قرأت طيلة هذه الفترة، وذاك لأنّي لن أدخل في سجالٍ مع أي مقالة، ولا في ردِّ أو قبول أيّ مقولة، فالواجبُ أن أقول ما أنا مقتنعٌ به بغضّ النظرِ عمّن يعنيه ما أقول أو من لا يعنيه، إلا أنّ قولةً ترددت على ألسنة الكثيرين مفادها أن العسكريين إذْ يحسبون النصر والهزيمة لا يحسبون الضحايا المدنيين ولا الأرزاق ولا البنى التحتيّة أو الفوقيّة للمدن والقرى، هزّتني على المستوى الشخصيّ وجعلتني خائفاً مما أسمع أكثر مما أشهد. قد يكون ذلك الحسبان صحيحاً في الكليات العسكريّة، وفي معسكرات التدريب، ولكن لا يجوز أن يُصرّحَ أمام الناس بذلك، إذْ ليست الكرامةُ التي يندفع المقاتلون في سبيلها إلا كرامة هؤلاء المواطنين، وليست التضحيات الجسام إلا في سبيل أمن هؤلاء المواطنين واستقرارهم، وعندما أقول لهم أنتم لستم في حسابي عندما أدخل في معركة، فذاك يعني أنّني محترف قتال ولا أهداف لقتالي، بل إنّ ذلك مثبّط لعزائم الناس، ومحبطٌ لآمالهم وأحلامهم، وعندها لا قيمةَ لأيّ انتصارٍ، مهما كان سقف البطولات فيه عالياً. هذا نقص فادحٌ في منسوب الأخلاق الذي يجب أن يترافق مع أيام المعارك المجيدة.
كما أنّ الحراك الدبلوماسي المرافق للمعارك، يتزامنُ مع خطبٍ رنانة، وتحليلاتٍ سياسيّة في أكثرها تنطوي على رسائل ومدائح لذاك المتنفذ العربيّ أو الغربيّ على السواء، فكنت أشعر أحيانا أن بعض الكلام مدفوع المكافأة مسبقاً، بغضّ النظر عمّا أرى من صوابيّة ذاك الكلام أو عدم الصوابيّة، فالكذب إهانة للسامع أكثر منه إهانة للمتكلّم، وهذا أيضاً مؤشّرٌ فظيعٌ على مدى انخفاض منسوب الأخلاقِ، فما هي قيمة الكلام الكاذب حتى وإن كان محمولُه صادقاً، فهو لغير مقاصدِ الصدق كما ينبغي، بل لمقاصد أخرى لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم.
يحقُّ لكلّ امرئٍ أن تكون له أهداف ومشاريع يناضل في سبيل تحقيقِها، وما لا يحقّ لأيّ امرئٍ هو أن لا يوحّد بين أهدافه والوسائل التي ينبغي توسّلها لتحقيق هذه الأهداف، فالأهداف النبيلة لا يجوز أن لا تكون وسائلُها نبيلة. أمّا وأنْ نفاجأ بأعراضِ الشرف والناموس تظهرُ فجأةً على تصريحات فلانٍ ومواقف علاّن في مرحلةٍ تحتاجُ إلى مثل هذه المواقف، ولا تظهر هذه الأعراض في مرحلةٍ مشابهة من حيث الحاجة من فلانٍ أو علانٍ ذاته، فذاك لعمري أمرٌ مريب ينبغي على أولي الأمر من المفكّرين والفلاسفة والتربويين أن يضعوا التصدّي له واجباً تأسيسيّاً في مساعيهم لبناء عالمٍ جديد، وأن يُقالَ بأنّ المبادئَ شيءٌ والسياسةَ شيءٌ آخر، فهذه نسخةٌ حديثةٌ للنفاق الذي لا يمكن أن يُحتملَ في هذه الظروف ولا في أيّ ظرف.
عندما يكون الخلل الأخلاقي بالتزامن مع صدق التضحيات في سوحِ القتال، فإنّ النصر سيكون بعيداً، ما دامت هذه الدماءُ وتلك المآسي اللازمة للانتصار، تُنصب سلّماً يُرتقى باتجاهٍ لا علاقة له بالاتجاه الحقيقيّ الذي تؤشّر عليه تلك الدماء الزكيّة.